
كما الأم،
هي الحياة… ليست ما نراه، بل ما نشعر به، وما نفتقده حين يغيب.
فالحياة ليست مجرّد أيامٍ تتعاقب، بل نَبضٌ خفيّ نسمعه فقط إذا أصغينا لداخلنا.
هي تجربةٌ تنبت في قلبٍ عاش الألم، ولا تزهر إلا إذا رُويت بالحب.
يوم 21 مارس، يحتفل به،كثيرون من حولنا، وتنتظره الأمهات بشغفٍ.
أما الحنين المؤلم، فيتسلل كظلٍّ ناعم إلى قلوب من فقدوا جنّتهم في الحياة، ولا يجدون حتى سبيلًا لوضع وردةٍ على قبرٍ طال انتظاره لهذا اليوم الأثير.
أحسب أن من أعظم ما أنجزه أستاذي الراحل مصطفى أمين، وتوأمه في البنيان والوجدان، الأستاذ علي أمين، تلك الدعوة النبيلة للاحتفاء بالأم في يومٍ يليق بها.
دعوةٌ جعلت من عيد الأم عيدًا وطنيًّا للحنان، واعترافًا – ولو متأخرًا – بالجميل.
حدّثني أستاذي الكبير، في منتصف الثمانينات، عن أمٍّ دخلت عليهما تحمل حكايتها المؤلمة.
أرملة شابة أفنت عمرها لتربية أبنائها، ثم تفرّقوا في دروب المجد، ونسوا من عبدت لهم الطريق.
تأثّر الشقيقان بشدّة، وكتب علي أمين مقالته الشهيرة: “فكرة”، فانهمرت الرسائل، كأن مصر كانت تنتظر أن يوضع حجر كريم في جدار نكران الأبناء الصلب.
سألته: ولماذا 21 مارس؟ فأجاب ببساطة العارف:
لأنه أول الربيع… عيد الحياة.
الفصل الذي يشبه الأم، في دفئه، في جماله، وفي انبعاث المشاعر من أرضٍ كانت ساكنة.
أما أنا، فلي مع هذا اليوم حكايةٌ أخرى… قبل ثلاثين عامًا، رحلت أمي…
تلقيت يومها آلاف برقيات العزاء، لكن أقصرها كان أبلغها، وأصدقها ملامسةً لروحي، برقيةٌ كتبها مفيد فوزي، قال فيها فقط:
“أعزيك في فقد فردوس الحياة.”
نعم… الأم هي الفردوس، هي الممرّ الآمن، والمرسى الدافئ، هي المعنى حين تضيع المعاني، هي الدفء حين يخذلنا العالم، هي المدرسة التي لا تُغلق أبوابها، ورمز الحياة الذي لا يُعادله شيء.
فالحياة أعمق مما ندرك، ليست دائمًا عادلة، لكنها تترك لنا إشارات، ودروسًا متناثرة على الطريق، لنفهم، ونتأمّل، ونمنحها – نحن – معناها، حين نحب، ونتسامح، ونتذكّر من أحبّونا دون مقابل.
الماضي قد مرّ، والغد ما زال غائمًا، أما الحاضر، فهو كل ما نملك.
فلنحياه بقلبٍ ذاكر، وروحٍ تُصلّي وتدعو في العشر الأواخر من رمضان للأمهات الراحلات عن أعيننا، لا عن قلوبنا.
الحياة بسيطة في جوهرها، لكنها لا تكشف وجهها الحقيقي إلا لمن امتلك شجاعة الحب، وسلام القلب، ونقاء الذاكرة.
أكتب اليوم، لا لأحتفل، بل لأتذكّر… لأضمّ طيف أمي في سطورٍ تشبهها:
حنونة، دافئة، جميلة، وحقيقية.
رحم الله أمي،
وجعل فردوسه الأعلى
موطنها ومقامها.