مقالات ورأى

د. أيمن نور يكتب: ورقة من مذكّراتي .. دموع لا تجف… وذكريات لا تُنسى .. أمي التي ولدت يوم مولدي .. وأبي الذي ألقى بي في اليم

تمرّ الأعوام كأمواجٍ تتلاطم على شواطئ الذاكرة، تهدأ أحيانًا لكنها لا تنحسر، تتكسر عند جدران القلب، فتبعث الحياة في ماضٍ لم يغب، وحضورٍ لم يَفْنَ.

… نهران لا يجفان، جريا في روحيقبل أن أولد، يمضيان معي حتى بعد أن غابا، يتركان أثرهما في ضوء عينيّ، في نبرة صوتي، في قلمي حين يكتب، وفي قلبي حين يخفق.

أمي… كانت لا تطمئن إلا حين أغمض عينيّ، وكأن غفوتي أمانٌ لها، وكأن يقظتي -في البعد عنها- خطرٌ تخشاه. كانت تخشى أن يجوع قلبي قبل أن يجوع جسدي، كانت تغذيني بالحب قبل الطعام، كانت وهي أستاذة الأدب الفرنسي تمنحني الدفء وهي تقصّ حكايات من منابع الثقافة الفرنسية، فتفتح لي أبواب الفكر والحياة، فزرعت داخلي بذور المعرفة والجمال والحرية، هكذا كانت معتصمة محمد حسنين، ليست مجرد أم، بل مدرسة للفكر والوعي والعمل الاجتماعي والإنساني والتسامح والحياة.

أبي… المحامي البارع والنائب البرلماني قبل أن أولد كان يحرسني بصمت، بحبٍ عميقٍ لم يكن بحاجةٍ إلى كلمات، فقد كان حبه يتجلى في نظرة، في موقف، في حضورٍ لا يغيب، حتى في أطول فترات الغياب.

أبي أورثني السياسة كما تمتد وتسري الدماء في العروق، منحني قوة الكلمة، وبلاغة الحجة، وذكاء الفكرة، كان يرى وحيده امتدادًا لمشروعه، فزرع في داخلي قيمًا لم يلقّنها لي، لكنها تسربت إليّ مع كل خطوة كنت أخطوها خلفه أتابعه بشغف في البرلمان، في المحاكم، في الحياة، وكأنني أواصل ما بدأه، دون أن يطلب مني ذلك، فقد كان عبد العزيز نور رجلًا يصنع الأثر، لا بالكلمات وحدها، بل بالمواقف والمبادئ التي لا تلين.

أمي… كانت ترى الحياة لوحة، وأنها تُعاش بالفن والحب والجمال، تهمس لي دائمًا:

لا تدع العالم يسلبك إنسانيتك، ولا القيم المادية تطغى على روحانيتك، كن أنت النور في هذا الظلام…

كلماتها هي رفيقة دربي، لم تبارح عقلي، تحملني حين يطول الطريق، وتضيء لي العتمة حين يشتد الظلام. أبي… كان يؤمن أن العالم ساحة نضال، وأن العقل هو السلاح واليقين بالله، هو سبيل القوة.

كان يتركني أسقط أحيانًا، لكنه كان هناك دائمًا… ليسندني بعد أن أتعلم كيف أقف وحدي، وكان يقول لي دومًا: الحياة لا تمنح أحدًا شيئًا بالمجان، إن لم تناضل من أجلها، لن تجد لك مكانًا فيها…

عندما نجحت في الشهادة الابتدائية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وضعني في مقصورة الطيار على طائرة متجهة إلى لندن وقال لي وهو يتمالك دموعه:

“ألقيت بك يا وحيدي في اليم”

وبدأت -منفردًا- رحلتي، ولعدة أشهر، للالتحاق بمدرسة بريطانية صيفية عريقة بمنطقة “ميلفلد”

وفيها تعلمت رياضات مختلفة مثل: الطيران الشراعي، والكاراتيه، والشيش، والفروسية. وقابلت طلابًا أكبر مني سنًا، كان أبرزهم ولي عهد شاه إيران وشباب من باكستان والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وعرفت وقتها أن العالم أكبر من غرفتي، وأن الهدف من الرحلة الأولى الخروج من أسر الطفل الوحيد.

أمي… كنت أعرف حبها بالفطرة، فهي التي أصيبت في طفولتها بخلل في صمامات القلب، وعندما تزوجت وهي طالبة في مدرسة “السانت فاميلي” حذرها الأطباء من فكرة الإنجاب، لكنها قررت أن تخاطر بحياتها، تمنحني الحياة ولا تحرم أبي من الأبوة.

ولدت في فجر الخامس من ديسمبر عام ١٩٦٤، في مستشفى “الماترنيتيه” الملاصقة لمنزل جدي بالإسكندرية.

وولدت معي أمي، في ذات لحظة ميلادي الصعبة التي مد الله في عمرها بعدها ٣٠ عامًا وبعض شهور،

وظل دمها يسري في دمي، وكأنه ضوء لا ينطفئ، ألمسه في دفء يديها، في حرصها، في كلماتها التي كانت تلملمني حين يبعثرني الزمن، كان حبها لي وحبي لها، أبجدية لا تحتاج إلى تفسير.

وكما ولدت أمي -من جديد- يوم مولدي في مستشفى “الماترنيتيه” للولادة في الإسكندرية وعاشت بعدها (٣٠ سنة)

متّ أنا يوم موتها، في مستشفى “مجدي يعقوب لجراحة القلب” في لندن، رغم أني عشت -وما زلت- (٣٠ سنة)

أبي… فهمت حبّه وتعلمت منه، حين صرت أبًا، حين أدركت أن الحب ليس دائمًا كلمة تُقال، ولا مجرد رسالة

أو اتصال، بل مسؤولية تُحمل، وتضحية تُقدّم، وصرامة أحيانًا لكنها تُخفي خلفها بحرًا من العاطفة،

كان يمنحني دروسًا لم أفهمها إلا حين وجدت نفسي في مواقفه، أتخذ ذات القرار، وأردد ذات العبارات، وكأن روحه لا تزال تنبض في داخلي.

عندما استيقظ من نومي، فجرًا، والكل نيام، وأنظر للمرآة، وأنا مندهش من حجم الشبه، الذي بات يجمع بيننا.

أمي… كنزٌ لا يُقدّر بثمن، وأبي… رجل لن يكرره الزمن.

اليوم، وبعد عشرين عامًا من غياب والدي، وثلاثين عامًا على رحيل والدتي، أدرك أن الفقد الحقيقي ليس أن يرحل الأحبة، بل أن يغيبوا عنك وأنت لا تزال تحتاجهم، لكنني، رغم الفقد، لا أشعر باليتم…

فقد تركا لي ما يجعلني ممتلئًا بهما، في روحي، في عقلي، في طريقي الذي أقطعه كل يوم، كيف أشعر باليتم وأنا ما زلت أسمع صوت أمي في صمت الليالي، وأتلمس ملامح أبي في قراراتي التي أتخذها؟

رحم الله عبد العزيز نور، النائب والمحامي، الذي أورثني صلابة الحقّ ونبض الكلمة، ورحم الله معتصمة محمد حسنين، الأستاذة والرائدة، التي أورثتني زاد الفكر وعبق الحروف.

أبي وأمي… أنتما الخلود الذي لا يغيبه الموت…

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى