مقالات ورأى

حسن نافعة يكتب: سقوط حضاري للغرب في ملحمة غزة

ترامب يقول إنه يريد للولايات المتحدة أن تصبح “عظيمة مرة أخرى”، لكن كيف يتسنى له أن يحقق هذا الهدف وهو ينتهك القانون الدولي كل يوم ويحتقر المؤسسات التي قام عليها النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية.


من كان يصدق أن قطاع غزة، المحدود المساحة، والشحيح الموارد والإمكانيات، والمحاصر براً وبحراً وجواً، والمكتظ عن آخره بالسكان، يمكن أن يسجل واحدة من أروع الملاحم في تاريخ البشرية! ما يثير التأمل هنا أن تلك الملحمة، وما أظهره الشعب الفلسطيني خلالها من قيم نبيلة، تسهم في إبراز الوجه الآخر للحضارة الغربية، وتكشف ما تتسم به من زيف ومن تناقضات كامنة تجعلها آيلة للسقوط.

لملحمة غزة تجليات عدة تتجسد في بعدين رئيسيين:
البعد الأول: يتعلق بفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع. وقد تجلى هذا البعد إبان عملية “طوفان الأقصى”، من ناحية، وإبان الحرب التي أعقبتها، من ناحية أخرى. ففي عملية “طوفان الأقصى” تمكنت هذه الفصائل من إسقاط أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”، وفي الحرب التي أعقبتها استطاعت الحيلولة دون تمكين “إسرائيل” من إنجاز أي من الأهداف التي سعت لتحقيقها في هذه الحرب.

البعد الثاني: يتعلق بالشعب الفلسطيني وبالسكان المدنيين في القطاع. وقد تجلى هذا البعد إبان حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنها “إسرائيل” عليه منذ ما يقرب من عام ونصف، تعرض خلالها إلى “هولوكوست” أكثر بشاعة مما تعرض له اليهود إبان فترة الحكم النازي في ألمانيا.

ففي الساعات الأولى من فجر يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، استيقظ العالم كله على وقع هجوم شنّته فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة بقيادة حماس، وتمكنت خلاله من اجتياح الجدار الذي يفصل قطاع غزة عن فلسطين المحتلة عام 48، ومن السيطرة على كل القواعد العسكرية والمراكز الأمنية والمستوطنات المقامة على مساحة لا تقل عن عدة مئات من الكيلومترات المربعة، ومن قتل ما لا يقل عن 1200 جندي ومستوطن وأسر ما لا يقل عن 250 منهم.

كانت النتائج التي تمخض عنها أكبر من قدرة أحد على تصديقها في البداية. فكيف يمكن لفصيل محدود القدرات والإمكانيات، يعيش فوق رقعة جغرافية محاصرة من البر والبحر والجو منذ أكثر من 16 عاماً، أن يخطط لعملية بهذا الحجم، من دون أن ينكشف أمرها من جانب أجهزة استخبارات اشتهرت بأنها من الأكفأ في العالم، وأنها تعرف كل شي عن كل ما يدور حولها، وأن تنفذ المقاومة هذا الهجوم على هذا النحو الباهر من الكفاءة في مواجهة واحد من أقوى جيوش العالم وأحدثها تسليحاً وأرقاها تدريباً.

ولأن هذا هو ما حدث بالفعل، فقد كشف عن جانب من معجزة كبرى راحت بقية جوانبها وفصولها تترى على امتداد خمسة عشر شهراً كاملة أمام ذهول العالم. فما إن استعادت آلة الحرب الإسرائيلية الجهنمية وعيها حتى انقضت على هذا القطاع المحدود المساحة والمكتظ بالسكان من الجو والبحر والبر، وراحت تعمل فيه تدميراً وتخريباً وتمعن في السكان قتلاً وتشريداً وتجويعاً ومطاردة، في واحدة من أبشع الحروب التي شهدها العالم وحشية وإجراماً وانتهاكاً لكل القوانين الدولية، بما في ذلك قانون الحرب والقانون الإنساني.

ورغم بشاعة ما قامت وما تزال تقوم به “إسرائيل” حتى الآن، فقد ظل المقاتل الفلسطيني صامداً لم ينكسر أو يستسلم، وظل الإنسان الفلسطيني متمسكاً بأرضه حتى الموت، قتلاً أو تجويعاً. وكما كان مشهد المقاتل الفلسطيني وهو يتوجّه عاري القدمين نحو الدبابات والمجنزرات الإسرائيلية الغازية ليلصق بها عبوات متفجرة يحملها على كاهله، دليلاً لا تخطئه العين على مدى عمق إيمان هذا المقاتل بقضيته، كان مشهد الإنسان الفلسطيني وهو يفضل الموت تحت أنقاض مباني غزة المدمرة وخيامها المبعثرة، على هجرة أرضه أو الرحيل بعيداً عن وطنه الذي ولد وعاش فيه، دليلاً لا تخطئه العين على مدى اعتزاز هذا الإنسان بوطنه وتفانيه فيه. وهذا هو الوجه الآخر للمعجزة الفلسطينية التي تجلّت وما تزال تتجلى بوضوح تام منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2023.

في المقابل، تجلى السقوط الحضاري للغرب، بصفة عامة، وللكيان الصهيوني، بصفة خاصة، في عدد من الأمور التي راحت تتكشف تباعاً، في مقدمتها الإصرار على تشويه ما جرى وإظهاره على غير حقيقته، من خلال حملة إعلامية قرر شنّها لتضليل الرأي العام العالمي وتبرير نوايا “إسرائيل” التوسعية والإجرامية. فالتكييف الحقيقي لما جرى في “طوفان الأقصى” ينحصر في كونه عملية عسكرية خطط لها ونفذها فصيل من حركة تحرر وطني يقر لها القانون الدولي بالحق في حمل السلاح، واستخدامه في مواجهة عدو يحتل وطنها منذ عشرات السنين، ويرتكب كل يوم جرائم في حق أبنائه العزل، تشمل تدمير المنازل والممتلكات، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، واستباحة المقدسات الدينية، واعتقال آلاف المواطنين وتعذيبهم..الخ.

صحيح أنها عملية أسفرت عن عدد كبير من الضحايا، من بينهم نساء وأطفال، لكن ذلك يعود أساساً إلى حسن التخطيط والتنفيذ من جانب الجهة أو الجهات التي أقدمت عليها، وأيضاً وعلى وجه الخصوص إلى أخطاء ارتكبها “جيش” الكيان وأجهزته الأمنية، حين أخذوا على حين غرة وعجزوا عن الاضطلاع بمسؤولياتهم والقيام بواجباتهم. ولكي تغطي “إسرائيل” على هذا العجز، من ناحية، وتبرر نواياها وتصرفاتها الإجرامية اللاحقة، من ناحية أخرى، حاولت إظهار ما جرى باعتباره عملية إرهابية كبرى تشبه تلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة في أيلول/سبتمبر 2001 ، رغم عدم وجود أي وجه شبه على الإطلاق بين العمليتين، بل راحت في الوقت نفسه تختلق أكاذيب حول إقدام حماس على قطع رؤوس الأطفال والتمثيل بجثثهم واغتصاب النساء..الخ.

المثير للدهشة أن جميع وسائل الإعلام الغربية، خاصة الأميركية منها، والتي يدّعي الغرب أنها تعبّر عن إعلام حر يبحث عن الحقيقة ويحرص على تقديم الرأي والرأي الآخر، تبنى الرواية الإسرائيلية بالكامل وراح يروّج لها بإصرار غريب، حتى بعد أن انكشف زيفها وثبت بطلانها. ولم تكن هذه هي السقطة الوحيدة.

فحتى لو سلّمنا جدلاً بأن لـ”إسرائيل” الحق في أن ترد على هذه العملية، إعمالاً بالدفاع الشرعي عن النفس، وهو ادعاء غير صحيح في هذه الحالة، لأن كل محتل لأرض الغير هو معتد بالضرورة، يجب التسليم بأن للحروب ضوابط وقوانين يتعيّن احترامها، تقوم أساساً على مبدأ أو قاعدة التماثل بين الفعل ورد الفعل. غير أن “إسرائيل” لم ترد بعملية مماثلة، وإنما ردت بحرب شاملة اتسمت بالانتقام والغضب وأخذت شكل حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي لم يعرف لوحشيتها مثيل في تاريخ الحضارة المعاصرة، حيث قررت الحكومة الإسرائيلية انتهاز الفرصة لتنفيذ أجندة الجناح اليميني الأكثر تطرفاً فيها، وهي أجندة تستهدف إعادة احتلال القطاع وضم الضفة الغربية في الوقت نفسه.

وعندما تبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن “إسرائيل” ارتكبت بالفعل أعمال إبادة جماعية وحملة تطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وهو ما أكدته سلسلة الأوامر التي أصدرتها محكمة العدل الدولية إبان نظرها في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا واتهمت فيها “إسرائيل” بانتهاك اتفاقية تحريم الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، لم تبادر الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، إلى القيام بأي خطوة من شأنها حمل “إسرائيل” على تنفيذ أوامر المحكمة، بل قامت على العكس بانتقاد هذه الأحكام، وتشجيع “إسرائيل” على التمادي في غيّها، بل وتقديم الحماية السياسية لها في مجلس الأمن. لكن السقوط الأخلاقي للغرب لم يقتصر على هذا الحد. فعندما أصدر المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوامر بتوقيف كل من بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء “إسرائيل”، ويوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، لم تكتف الولايات المتحدة المتحدة بانتقاد هذه الأحكام والتنديد بها، لكنها هاجمت المحكمة نفسها واتخذت ضد قضاتها وموظفيها عقوبات صارمة. ومرة أخرى، لم يتوقف السقوط الحضاري للغرب عند هذا الحد.

ففي 19 يناير/كانون الثاني من هذا العام، أي قبل يوم واحد من دخول دونالد ترامب البيت الأبيض في مستهل فترة ولايته الثانية، وقعت كل من “إسرائيل” وحركة حماس على اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار يتم تنفيذه على ثلاث مراحل، كما وقعت عليه كل من الولايات المتحدة ومصر وقطر، ليس بصفتهم شهوداً عليه فحسب وإنما بصفتهم ضامنين لتنفيذه أيضاً. غير أن نتنياهو قام بانتهاك الاتفاق مرات عدة إبان تنفيذ المرحلة الأولى، وكان يفترض أن تبدأ “إسرائيل” في اليوم السادس عشر من تنفيذه مفاوضات جديدة تستهدف الاتفاق على كيفية وضع بنود المرحلة الثانية من هذا الاتفاق موضع التنفيذ، لكن نتنياهو رفض وراح يناور، ثم قرر يوم الثلاثاء الماضي أن يستأنف حرب الإبادة من جديد.

كل ذلك والولايات المتحدة، الشاهدة على الاتفاق والضامنة له، لا تحرك ساكناً، بل إنها لم تكتف بالصمت وإنما حاولت البحث لنتنياهو عن مخرج يساعده على الإمعان في انتهاك الاتفاق، بل وقامت بتزويده بالوسائل التي تمكنه من إعادة “فتح باب الجحيم” على الشعب الفلسطيني من جديد. فهل هناك سقوط أخلاقي أكثر من هذا؟

يقول ترامب إنه يريد للولايات المتحدة أن تصبح “عظيمة مرة أخرى”، لكن كيف يتسنى له أن يحقق هذا الهدف وهو ينتهك القانون الدولي كل يوم ويحتقر المؤسسات التي قام عليها النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، والتي أسهمت الولايات المتحدة في نصيب وافر في بنائها.

بمشاركتها الفعلية في “الهلوكوست” الذي تعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تكون الولايات المتحدة، ومعها الغرب كله، قد سقطت حضارياً. لا يخالجني أي شك في أن ملحمة غزة ستفضي حتماً إلى نظام دولي جديد لن يكون بمقدور الولايات المتحدة أن تشارك فيه ما لم تفك ارتباطها بنظام الفصل العنصري السائد الآن في “إسرائيل”.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى