مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: كلنا فاسدون .. الفساد يعمّنا بلا استثناء

في مشهد لا يُنسى من فيلم “ضد الحكومة”، ينطق الفنان الراحل أحمد زكي بحقيقة مؤلمة وصادمة: “كلنا فاسدون، لا أستثني أحداً.”

كلمات كأنها طعنة في القلب، كلمات تنبش داخل أرواحنا العالقة في فوضى أخلاقية عميقة .. ربما نراها عبارة قاسية، لكنها للأسف تعكس واقعًا أكثر قسوة.

لم يعد الفساد حكرًا على ذوي النفوذ أو من باعوا ضمائرهم، بل أصبح حالة يومية نعيشها، نتنفسها، ونشارك فيها بشكل أو بآخر، سواء أدركنا ذلك أم لا.

الفساد لم يعد مجرد رشوة أو استغلال، بل تحول إلى نمط حياة، جزء من يومياتنا التي نعتبرها عادية .. كلنا متورطون، لا لأننا نريد، بل لأننا عاجزون عن الهروب من دائرة مظلمة أُجبرنا على التعايش معها.

نتنفس الفساد، نراه في كل زاوية، في أبسط القرارات وفي أصغر الأفعال .. نحن نعلم أن هناك خطأ، ولكننا نصمت، نبتلع هذا الشعور بالعجز وكأن الفساد هو قدرنا المحتوم.

لكن الصمت ليس براءة .. هو تواطؤ خفي .. في كل مرة نصمت فيها أمام مظلمة، نتجاهل فيها تجاوزاً، نتحايل على قانون أو نتجنب المواجهة، نغرق أكثر في مستنقع لا خلاص منه.

نعم، حتى الساكت عن الحق، حتى العاجز عن المواجهة، هو فاسد .. لم نعد نستطيع التظاهر بأننا أبرياء .. كلنا نشارك في هذه الجريمة الجماعية، كلنا نتحمل نصيبنا من هذا الخراب المتفشي.

من المؤلم أن نعترف بأن الفساد ليس مجرد تصرفات كبيرة نراها في العناوين الرئيسية أو نسمع عنها من بعيد. إنه يعيش معنا، فينا.

عندما نختار مرشحًا لأن لديه مصلحة لنا وليس لأنه الأفضل، عندما نتغاضى عن فساد الآخرين لأنه يخدمنا بشكل أو بآخر،

نكون قد أصبحنا جزءاً من هذه المأساة الأخلاقية. هل نشعر بذلك؟ هل نحس بالخجل؟ ربما نعم، وربما نحاول إخفاء هذا الشعور تحت ركام الأعذار والتبريرات.

لكن الحقيقة لا تُخفى. إننا نتآكل من الداخل، نحن نعلم أن كل قرار نتخذه يعمّق الفجوة بين ما يجب أن نكون عليه وبين ما نحن عليه فعلاً. نبرر لأنفسنا أخطاءنا الصغيرة، ونعتقد أننا غير مؤثرين في الصورة الكبيرة.

لكن هذه الأخطاء، هذه التجاوزات البسيطة، هي التي تساهم في بناء هذا النظام الفاسد الذي يطوقنا من كل جانب.

ماذا نفعل إذن؟ هل نستمر في إنكار الحقيقة؟ هل نغرق أكثر في هذا الصمت المخزي؟ أم نتوقف ونعترف بأننا جزء من المشكلة وأننا نتحمل مسؤولية هذا الخراب؟ الاعتراف بالذنب لا يكفي،

إنه مجرد خطوة أولى في رحلة طويلة ومؤلمة نحو الإصلاح. لكن هل نملك الشجاعة الكافية لذلك؟ أم أن الخوف من مواجهة الحقيقة سيبقى يسيطر علينا؟

الفساد ليس مجرد قانون يمكن تغييره أو سياسة يمكن تعديلها. إنه تسلل إلى ضمائرنا، إلى قيمنا التي كان من المفترض أن تحمينا. أصبحنا عاجزين عن التمييز بين الصواب والخطأ.

لقد تآكلت مبادئنا حتى أصبحنا نبرر لأنفسنا كل تصرف خاطئ. والأسوأ من ذلك، أننا نعلم أن ما نفعله خاطئ، لكننا نظل مستمرين فيه لأننا فقدنا الأمل في أي تغيير.

من الصعب أن نتحدث عن الأمل في ظل هذا الواقع، لكننا لا نملك خياراً آخر. لا يمكننا أن نستمر في هذا الطريق بلا نهاية. علينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا، أن نعيد النظر في تصرفاتنا الصغيرة قبل أن نلوم الآخرين.

علينا أن نتحمل مسؤولية أفعالنا، حتى لو كانت بسيطة، لأن هذه الأفعال هي التي تشكل النسيج الذي يغطي المجتمع بأكمله.

كلنا فاسدون، نعم. كلنا ضحايا ومشاركون في هذا الخراب. لكن ما الذي يمكننا فعله؟ هل نتوقف عن المحاولة؟ أم نحاول، رغم كل شيء، أن نصنع فرقاً ولو كان ضئيلاً؟ لعل هذا هو التحدي الأكبر الذي نواجهه.

الفساد ليس قوة غامضة تسلطت علينا، بل هو نتاج أفعالنا وخياراتنا. فإذا أردنا حقاً مستقبلاً أفضل، يجب أن نبدأ بالتغيير من داخلنا.

ربما يبدو الطريق طويلاً وشاقاً، وربما لن نرى نتائجه في حياتنا، لكن على الأقل سنكون قد حاولنا .. سنكون قد حاولنا كسر هذه السلسلة التي يبدو أنها لا تنتهي .. كلنا فاسدون، لكن كلنا قادرون على التغيير.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى