
ليست السماء فوق غزة سوى مرآةٍ مُعتَّمة تعكس عجز الإنسانية عن إنقاذ نفسها من براثن الوحشية. خلال ساعتين فقط، تحوَّلت الخيام إلى قبور، والمدارس إلى ركام، والأحياء إلى أطلال. 342 شهيداً سقطوا كحبات مسبحةٍ انفرط عقدها بقسوة، وألف جريحٍ يُصارعون الموت تحت أنين المستشفيات المدمرة، بينما العالم يغسل يديه بدماء الضحايا، وكأنما فلسطين محضُ فاتورةٍ سياسيةٍ تُدفَعُ ثمنًا لاستقرارٍ وهمي. هنا، حيث يُعاد إحياء مسرحية الإبادة الجماعية بذات السيناريو البشع، تُطلُّ إسرائيل برأسها من نافذة الإفلات من العقاب، بينما تُلقِي الولايات المتحدة بِظِلها الأسود على المشهد، مُعلنةً شراكتها في الجريمة بتصريحات ترامب الوحشية: “كل فلسطيني في غزة في عداد الأموات إن لم يُعيد الأسرى”.
لا يُمكن للكلمات أن تَلحقَ بفظاعة ما يجري. فالقانون الدولي، الذي كان يُفترض أن يكون حصناً للمظلومين، تحوَّل إلى سيفٍ مُسلَّطٍ على رقاب الضحايا. اتفاقيات جنيف التي تحرِّم استهداف المدنيين (المادة 32) وتجرم العقاب الجماعي (المادة 33) تُداس بأقدام الدبابات الإسرائيلية، بينما تُنتهك مبادئ “التمييز” و”الضرورة العسكرية” تحت سَمْعِ الأمم المتحدة وبصرها. حتى الحدود المصرية، التي يفترض أنها شاهدٌ على الحياد، لم تسلم من بربرية الاحتلال؛ فخلال الهجوم الأخير، أزهق الجيش الإسرائيلي أرواح أربعة مدنيين على تلك الحدود، وكأنما الرسالة المُبطنة هي: “لا حصانة لأحد”.
المجتمع الدولي، بكل مؤسساته، يبدو وكأنه يكتب سيرةَ خيانته على أوراق القرارات الأممية المُعلَّقة. فالقرارات التي تُدين العدوان تتحول إلى حبرٍ على ورقٍ حين يصطدم تنفيذُها بالفيتو الأمريكي. كيف يُفسر العالم صمته وهو يرى أطفال غزة يُدفنون تحت أنقاض مدارسهم، بينما تُغلق المعابر أمام أدويتهم وغذائهم؟ كيف يقبل أن تتحول الخيام إلى أهداف عسكرية، والمستشفيات إلى جثثٍ هامدةٍ بلا كهرباء أو وقود؟ إنها ليست حرباً، بل إبادةٌ ممنهجةٌ تُنفذ بدم بارد، وتستمد شرعيتها من صمت الدول العظمى، وتواطؤها الصارخ.
تصريحات ترامب ليست سوى القشرة الخارجية لسياسةٍ أمريكيةٍ متجذرةٍ في دعم الإرهاب الدولة. فالقائد الذي هَدَّدَ شعوباً بأكملها بـ”الموت” إن لم تستجب لشروطه، يَختزلُ فلسطين في صفقةٍ سياسيةٍ قذرة. لكن دماء الأطفال الفلسطينيين ليست سلعةً تُقايض، ولا حقوقهم أوراقاً تُمسكها أيادٍ خفية في أروقة البيت الأبيض. إنها قضية إنسانية تخص كل ضمير حي، وكل قلبٍ لم يَقسُ بعد.
في غزة، حيث يُعاد إنتاج المأساة بتفاصيل أكثر دموية، تُذكِّرنا المشاهد بالمجازر الاستعمارية التي رَوَتْ أراضي العالم الثالث بدماء الأبرياء. فالقصف الممنهج على المنازل، وتدمير البنية التحتية، ومنع المساعدات الإنسانية، ليست سوى أدواتٍ لتحقيق هدفٍ واحد: تهجير الفلسطيني من أرضه، وإخضاع إرادته. لكن التاريخ يُثبت أن الشعوب التي تَشربُ من ماء الظلم لا تموت، بل تتحول إلى جمرٍ يُحرقُ أعداءها.
الآن، وبينما تُغلق السماء أبوابها على غزة، وتُفتح أبواب الجحيم على أهلها، يبقى السؤال: أين الضمير العالمي؟ أين محكمة العدل الدولية التي تُدين المجرمين بينما هم أحياء؟ أين قرارات الفصل السابع التي وُضعت لوقف المجازر؟ إن الصمت ليس حياداً، بل مشاركة في الجريمة. فكل من يقف متفرجاً بينما تُذبح غزة، هو شريكٌ في إدامة آلة الموت.
لا يُمكن للكلمات أن تُحيطَ بكل الألم، لكنها تظل شمعةً في ظلام العالم. غزة تُعلمنا أن المقاومة ليست خياراً، بل قدراً تُفرضه إرادة البقاء. فدماء الشهداء لن تذهب سدى، ولن تُنسى. لأن الحق لا يموت، والباطل مهما علا مصيره الزوال.