مقالات ورأى

د.عدنان منصور يكتب: من سوريا تطل الفتنة الكبرى برأسها من جديد

بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وتسلّم هيئة تحرير الشام السلطة، علّق خصوم الأسد وأعداؤه وكلّ المتربّصين بسورية الآمال الكبار، ظناً منهم أنّ الإدارة الجديدة ستوفر للسوريين بكافة أطيافهم، الحرية، والأمن، و»الديمقراطية الحقيقية»، والاستقرار، ورغد العيش.
دغدغت الوعود والتصريحات التي أطلقها مسؤولو النظام الجديد في دمشق، «مشاعر» كلّ الذين كانوا على خلاف وعداء مع النظام السابق، أكان ذلك في الداخل أو في المحيط، وبالذات «إسرائيل»، أو في الخارج، لا سيما الولايات المتحدة وحلفاءها التقليديين.
رغم التغيير في الشكل، لم تستطع البدلات الرسمية الغربية، وربطات العنق أن تضع حداً للأفكار والعقائد السلفية المتطرفة، أو توقف وتردع الممارسات الشنيعة المشبعة بالكراهية، والحقد والتعصب الأعمى، لأنّ المجموعات التكفيرية تختزن في داخلها سلوكاً، وإرثاً من ماضٍ كريه، متجذّر، ترفض الآخر، أياً كان دينه أو معتقده أو طائفته أو مذهبه، وتريد التخلص منه، وقتله، وهدر دمه.
هذه المجموعات التكفيريّة نمت في حضن الخارج ثم وجدت طريقها إلى سورية، لتلتقي في عقيدتها وممارساتها مع مثيلاتها التي تغلغلت، وانتشرت في دول المنطقة، حيث كشرت عن أنيابها دفعة واحدة، وكشفت لشعوب المنطقة والعالم عن عدائها الشديد، وعقيدتها السلفية المتحجّرة، وسلوكها العنصريّ، لترتكب أبشع الجرائم ضدّ المواطنين الآمنين، تقتل، تعذّب، تحرق، تنهب، تدمّر، تسحل، وتهجّر كلّ مَن هو خارج ملّتها وعقيدتها، وتبرّر أفعالها وتغطيها بغطاء «العقاب الإلهي».
ما جرى مؤخراً في مناطق سورية من جرائم وحشية، وإبادة جماعيّة، يفوق كلّ وصف. وحوش بشريّة لم توفر طفلاً أو امرأة، أو رضيعاً، أو شيخاً جليلاً أو عجوزاً. جرائم أعادت إلى الأذهان ماضياً مأساوياً ارتكبت فيه جحافل جنكيزخان وهولاكو الهمجيّة مجازر رهيبة بحق السوريين وشعوب المنطقة.
في ظلّ هذه المرحلة العصيبة التي تمرّ فيها المنطقة وشعوبها، نتساءل بصوت عالٍ: إلى أين تأخذ الفصائل الهمجيّة سورية وشعبها وتاريخها وحضارتها، وأصالتها، ومكانتها ودورها؟! مَن الذي خوّلها كي تجعل نفسها الديان، والآمر الناهي، وهي تمارس أفظع الجرائم والقتل بحقّ أبناء المكوّنات الوطنيّة السوريّة المنتمية إلى أديان، وطوائف، ومذاهب مختلفة، مسلمين ومسيحيين، شكلت عبر تاريخها مع الشعب السوريّ البعيد عن الكراهية والتعصّب، نسيجاً وطنياً موحّداً يستند إلى الأخوة والمواطنية المشتركة، والعيش الواحد، والاحترام المتبادل ما بين الطوائف، لجهة حقوق الإنسان في دينه وعقيدته، وخصوصيّة كلّ طائفة في ممارسة شعائرها الدينيّة بحرية كاملة.
هذا العيش الواحد، وهذه المبادئ كنّا في الماضي القريب والبعيد نعرفها ونلمسها في سورية التي وللأسف نراها اليوم تنزلق إلى وادٍ سحيق، جراء ما يحصل في مدنها، وبلداتها، وقراها على مرأى من السوريّين والعالم كله، وبالذات على مرأى من المؤيّدين، والمهلّلين، والداعمين، والمشاركين في تأسيس النظام الجديد.
ما يجري في سورية، على يد التكفيريّين المتعطشين للقتل والدماء، والإبادة، خطير جداً، يزلزل بالصميم وجود سورية، وتاريخها، ووحدة شعبها، وجغرافيتها، ويقوّض أمنها وسيادتها، واستقرارها، ويمعن في تقسيمها أكثر مما هي عليه اليوم من تقسيم.
لصالح مَن تتمّ جرائم القتل والإبادة والتطهير العرقيّ، في الوقت الذي يجثم على صدر سورية احتلال أميركي، وتركي و»إسرائيلي»، بالإضافة إلى استباحة الجماعات المتطرفة المتعددة الجنسيات سورية من كلّ الجهات؟! ألا تصبّ هذه الجرائم في صالح «إسرائيل» وتخدم الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) الذين يعملون منذ عقود على تفكيكها واستغلال ثرواتها، والسيطرة عليها.
مَن الذي يريد اليوم أن يمتلك سورية ويتحكم بقرارها؟! نظام هيئة تحرير الشام؟! أم «إسرائيل» وتركيا؟! أم الولايات المتحدة؟! هل الجرائم التي ترتكب بحق مكوّنات الشعب السوري تعزّز القرار الوطني السوري، وتحصّن وحدة الشعب، وتقوّي النظام الجديد، وتتيح له مواجهة الاحتلالات، أم أنّها فرصة ذهبية لكلّ مَن يتربّص بسورية للسيطرة عليها، وامتلاك مفاتيح الشرق؟!
ألم تكن الولايات المتحدة تدرك تماماً منذ عقود، أهمية سورية وموقعها ودورها، عندما وصفها جون فوستر دالس وزير الخارجية الأميركية الأسبق في الخمسينيات من القرن الماضي: «سورية موقع حاكم في الشرق، وهي أكبر حاملة طائرات ثابتة على الأرض. إنها نقطة التوازن تماماً في الاستراتيجية العالمية. هذا الموقع لا يجازف به أحد، ولا يلعب به طرف… من امتلكها امتلك مفاتيح الشرق»؟!
ألم تصف قيصرة روسيا كاترين الثانية سورية على «أنها مفتاح البيت الروسيّ»؟! لا عجب بعد ذلك أن نرى اليوم الهجمة الشرسة والتهافت الكبير يشتدّ بين أميركا وأوروبا، وتركيا، وروسيا، و»إسرائيل» على سورية بغية بسط نفوذها وهيمنتها السياسية، والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية.
ألِصالح سورية وشعبها وأمنها واستقرارها، ترتكب عمليات الإجرام، والإبادة الجماعية بحق المكونات الوطنية والطائفية، كلّ ذنبها أنّها تنتمي إلى طوائف ومذاهب تختلف عما ينتمي إليه التكفيريون؟! لصالح مَن تجري تصفية المدنيّين العزل، في الوقت الذي يستمرّ العدو «الإسرائيلي» في اعتداءاته وقصفه لسورية، وفي قضمه المزيد من أراضيها؟!
ليقل لنا هؤلاء التكفيريون: مَن الأوْلى بهم، قتل أبناء جلدتهم، أم مواجهة العدو الإسرائيلي الذي أصبح حراً طليقاً يفعل ما يشاء، يستبيح سورية وأرضها، وسيادتها وكرامة شعبها، دون أيّ ردّ فعل من جانبهم؟!
ما يجري في سورية، يفتح الباب مجدداً لمواجهات كارثية، وحروب طائفية ومذهبية في دول المشرق، تلتهم الأخضر واليابس، وتغرس وتعمّق الأحقاد والكراهية في النفوس.
إنّ الصراعات الدينية والمذهبية، على خلاف الصراعات القوميّة، والعرقيّة والسياسيّة، والاقتصاديّة، تترك ذيولها في النفوس لقرون وقرون، ولا تمحى من الذاكرة، إذ تترك رواسب ضخمة من الضغائن، والأحقاد، والكراهيّة، والتعصّب في عقول الناس.
حذارِ حذارِ مما يُحضّر للمنطقة وشعوبها من قبل الغرب و»إسرائيل» لتأجيج الفتنة الدينيّة والمذهبيّة، وزجّ شعوب المنطقة في أتون حرب طائفيّة تلتهم شعوب المنطقة كلها، نعرف كيف تبدأ، لكن لا أحد يعرف متى وكيف تنتهي.
تفتيت المنطقة طائفياً ومذهبياً، وعرقياً جارٍ على قدم وساق. أعداء المنطقة يريدون تحقيقه عبر حروب طاحنة، طائفية، ومذهبية، تطال دولها دون استثناء، ومنها لبنان، حيث لن تنجو طائفة من لهيبها.
للذين يبرّرون في المنطقة، وفي لبنان بالذات، الجرائم التي يرتكبها التكفيريون كرهاً بالنظام السابق، ويغضّون نظرهم عمداً عما يجري من جرائم ضدّ الإنسانية في سورية، نكاية بأطراف في الداخل اللبناني، او التشفي منها، أو لحسابات ضيقة ورهانات على الخارج، فهذه المواقف لن تؤدّي إلا إلى المزيد من الشرخ والانقسام داخل الصف اللبنانيّ، الذي ليس بعيداً عن الخطر المُحدِق بكلّ أطيافه وطوائفه ومذاهبه.
هل يعي اللبنانيّون حقيقة ما يُحضّر لهم في الخفاء بعد العراق وسورية، وما تبيّته «إسرائيل» لهم، وما تريده واشنطن منهم؟! هل يعي اللبنانيّون ما يجري في المنطقة من تطورات خطيرة ستنعكس سلباً عليهم، وهم لن يكونوا في مأمن منها، أياً كانت الاحتياطات التي ستتخذها الدولة؟! فقط وحدة اللبنانيّين في هذا الظرف المصيريّ، ووعيهم، وإدراكهم العميق، وترفعهم عن الحساسيّات، والنكايات، والخصومات، والتراشق بالاتهامات والتخوين، كفيل أن يبعد لبنان واللبنانيين عن لهيب الأحداث، وموجات الإرهاب والكراهية والانتقام.
إنّها مسؤولية كلّ اللبنانيين، كي يقفوا وقفة وطنية مسؤولة لإحباط كلّ ما يهدّد حريتهم، وحياتهم، واستقرارهم، ووجودهم، ومعتقداتهم وشعائرهم الدينية، من قوى احتلال، ومجموعات إرهابية تكفيرية، تريد أن تجرف في طريقها وتبيد كلّ مَن يسير على غير نهجها.
مشروع الفتنة الكبرى للأميركي ـ الإسرائيلي ـ التركي في المنطقة لم يتوقف، بل يندفع ويتقدّم في أكثر من جبهة ومكان، ولن يستثني لبنان.
اليوم، جميع اللبنانيين دون استثناء على مركب واحد، فلا تدَعوه يغرق، لأنّ غرقه لن يوفر أحداً، ليطال الجميع في نهاية المطاف، وإنْ استغرق بعض الوقت.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى