مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: مسرحية “لف وأرجع تاني” تكشف ضعف القيادة والفساد بلا أقنعة

أحياناً، نجد أنفسنا نستيقظ من حلم غريب، نحاول استيعاب تفاصيله في محاولة للبحث عن معنى أعمق. هكذا كان حلمي الأخير.

ولطالما كانت الأحلام مساحة مفتوحة للتعبير عن ما يعجز العقل الواعي عن استيعابه أو مواجهته، ولعل ذلك ما حدث في حلمي الأخير الذي حملني إلى مسرحية غريبة تحمل عنوان “لف وأرجع تاني”.

تدور أحداث المسرحية حول مسؤولين على رأس مؤسسات ثقافية وسياسية ذات شأن، يتصدون في الظاهر لمحاربة الفساد والارتقاء بالعمل الثقافي، ولكنهم في الحقيقة محاصرون بعجزهم عن اتخاذ قرارات حاسمة.

كان المشهد الأول يكشف ضعف القيادات وتخاذلهم أمام قوى الفساد التي تتلاعب بمقدرات المؤسسات الثقافية والسياسية في البلاد، وتتعقد الأمور حين يظهر عدد من الموظفين المتهمين بالفساد، متهورين في استغلال سلطتهم ونهب المال العام.

أبطال المسرحية، أو لنقل ضحاياها، كانوا مجرد رموز لمشهد أوسع من الفساد واللامبالاة، والذي يصور لنا بوضوح كيف يمكن للفساد أن يتحكم في مصائر الناس عندما يغيب الضمير وتغيب الشجاعة في اتخاذ القرار.

بدأت المسرحية بشخصيات هامة تتولى المناصب العليا في مؤسسة ثقافية وطنية، وهم يدورون في حلقة مفرغة، عاجزين عن اتخاذ أي قرارات جريئة تنقذ هذه المؤسسة من الانهيار.

رغم الأدلة المتزايدة على الفساد المالي والإداري والأخلاقي، إلا أن القيادات البارزة في هذه المؤسسة ظلوا متفرجين خائفين، غير قادرين على مواجهة أولئك الذين يعيثون فساداً فيها، وهؤلاء الأشخاص يستمرون في ممارسة مناصبهم، مدعومين بالخوف والتردد من جانب القيادة العليا التي تخشى اتخاذ أي خطوة فعالة ضدهم..

والأسوأ من ذلك، أن بعض القيادات كانوا يدعمون هؤلاء الفاسدين بدلاً من معاقبتهم، كما لو كانوا يخشون قوة غامضة تحميهم أو يخشون فقدان مواقعهم.

في هذه المسرحية، تجسد الضعف في شخصية قيادي سابق في الرقابة الإدارية، ورغم خلفيته العسكرية المفترضة في التصدي للفساد، إلا أنه بدا عاجزاً عن تحريك ساكن تجاه أولئك الذين نهبوا أموال المؤسسة.

كان يدور في دوائر، يبرر تردده، بينما تتعاظم فضائح الفساد في وضح النهار. نفس العجز كان بادياً في مساعديه، الذين رغم مناصبهم الرفيعة، كانوا يكتفون بالنظر والتغاضي عن الانتهاكات.

المسرحية تظهر بوضوح التناقض الكبير بين المواقف العلنية والممارسات الفعلية. المسؤولون، الذين يفترض أن يكونوا أصحاب قرار، يقفون عاجزين أمام هؤلاء المتورطين، وكأنهم يخشون الاقتراب من ملفاتهم الساخنة.

يحدث ذلك بالرغم من أن كل الأدلة تشير إلى فسادهم العلني الواضح. ولكن، عوضاً عن اتخاذ إجراءات رادعة، يلجأ المسؤولون إلى التحايل والتسويف، وكأنهم في انتظار أن تُحل الأمور من تلقاء نفسها.

في إحدى المشاهد، ما أثارني بشكل خاص هو تلك الشخصيات النسائية التي كانت جزءاً من المشهد، واللواتي كن في قلب الفساد المكشوف.

وعلى الرغم من الفضائح المالية والإدارية التي أحاطت بهن، إلا أنهن ما زلن يتمتعن بامتيازاتهن في مناصبهن، وكأن شيئاً لم يحدث.

لا توجد عقوبات، ولا محاسبة، بل فقط مكافآت وامتيازات، في رسالة واضحة أن المنصب ليس بالضرورة مكاناً لخدمة الوطن، بل قد يكون وسيلة للتربح والانتهاز.

ولا يتوقف العرض عند هذا الحد. مشهد آخر يعرض شخصًا آخر متهمًا بنفس الدرجة من الفساد، تمت إقالته من منصبه القيادي بشكل صوري، فقط ليُعاد لاحقًا في وظيفة مشابهة، بعد سلسلة من الإجراءات الغامضة.

هنا، يتضح أن المسرحية ليست فقط عن أفراد فاسدين، بل عن نظام بأكمله يقف عاجزًا، تحكمه المصالح الشخصية والعلاقات السرية التي تمنع الإصلاح.

مع كل مشهد، تتصاعد مشاعر الغضب والإحباط. الجمهور يرى كيف أن القيادات المسؤولة، التي يفترض بها التصدي للفساد، عاجزة عن اتخاذ أي خطوة فعالة، بل تستمر في إعطاء الضوء الأخضر للفاسدين لمواصلة نهبهم وإفسادهم.

هؤلاء القيادات يدّعون أنهم يدركون حجم المشكلة، ولكنهم يخشون المواجهة، وكأنهم يديرون ظهورهم للمسؤولية. وفي النهاية، يعود كل شيء إلى نقطة البداية، وكأن دائرة الفساد لا تنتهي أبداً.

المسرحية لم تتوقف عند المؤسسة الثقافية فقط. بل انتقلت في مشهدها الثاني إلى مؤسسة سياسية كان من المفترض أن تكون ركيزة للديمقراطية وحماية حقوق الشعب.

وهنا تكررت نفس المأساة، لكن هذه المرة مع حزب سياسي عريق، يفترض أن يكون رائداً في الإصلاح والشفافية.

ومع ذلك، كانت القيادة ضعيفة تماماً أمام نفوذ الشخصيات الفاسدة التي تتحكم في مفاصل الحزب. الشخصيات التي تحولت من مجرد مسؤولين إلى متنفذين، تدير الحزب والمطبوعات التابعة له وكأنها شركات خاصة.

في هذا المشهد الثالث، رأينا كيف أن قيادة الحزب كانت عاجزة عن اتخاذ أي إجراء حاسم ضد أحد الفاسدين، الذي تورط في فضائح مالية ضخمة تراكمت على مدار سنوات، دون أن يتحمل أي مسؤولية أو يواجه أي عواقب.

على الرغم من تجميد عضويته لفترة قصيرة، إلا أن هذه الإجراءات تلاشت بسرعة، وعاد الفاسد إلى ممارسة نفوذه وكأن شيئاً لم يكن. ومرة أخرى، لم يكن هناك من يقف في وجهه، بل كانت القيادة تستسلم لضعفها وخوفها من الصدام.

المشاهد الختامية للمسرحية كانت بمثابة تلخيص لمأساة الواقع الذي نعيشه. في المؤسسة الثقافية والسياسية على حد سواء، لم تكن المشكلة فقط في الفساد ذاته،

بل في تلك القيادة الخانعة التي تفتقر إلى الشجاعة، والتي تخشى مواجهة المفسدين، تاركة لهم المجال ليستمروا في تدمير كل ما هو جميل وقيّم. المشهد كان مأساوياً، لكنه يعكس واقعاً مريراً نراه كل يوم.

في النهاية، استيقظت من هذا الحلم وأنا أشعر بالمرارة. فالمسرحية “لف وأرجع تاني” لم تكن مجرد خيال أو إبداع أدبي، بل كانت انعكاساً صريحاً لواقع الفساد الذي يحيط بنا.

القيادات الضعيفة، التي تخشى المواجهة وتفضل الالتفاف على الحقائق، كانت السبب الرئيسي في استمرار هؤلاء الفاسدين في مواقعهم. فبدلاً من اتخاذ قرارات جريئة تضع حداً لهذه المهزلة، يظل الجميع يدور في حلقة مفرغة، يلف ويعود إلى نقطة البداية.

ما يعنيني أكثر من أي شيء آخر هو أن هذه المسرحية، وإن كانت خيالية في إطارها الفني، إلا أنها تسلط الضوء على ما يحدث فعلاً في مؤسساتنا .. فإنها مسرحية تمثل دائرة مغلقة من الفساد والتواطؤ، حيث يظل الفاسدون في مواقعهم، محصنين بالخوف الذي يعمّ القيادات.

عندما يغيب الضمير والشجاعة عن القيادات، تتحول المؤسسات إلى مسرح للفاسدين، حيث يتلاعبون بالقوانين وينهبون المال العام دون رقيب أو حسيب.

في نهاية الحلم، يظل الجمهور محبطًا، غير قادر على استيعاب كيف تستمر الأمور على هذا النحو. إنه درس مؤلم في كيف يمكن للقيادات الضعيفة أن تسمح بتدهور المؤسسات، وتفتح الأبواب للفاسدين ليواصلوا تدميرها.

وفي هذا الحلم، أو لنقل الكابوس، ربما يكون بمثابة إنذار لنا جميعًا، فيبدو أن الجميع يدور في دائرة لا تنتهي، حيث الفساد يلف ويعود، ولا أحد يجرؤ على الوقوف أمامه.

فالحقيقة أن المؤسسات، سواء كانت ثقافية أو سياسية، تحتاج إلى قادة يمتلكون القوة والشجاعة لمواجهة الفساد بشجاعة وشفافية.

“لف وأرجع تاني” ليست فقط مسرحية هزلية، بل هي مرآة تعكس واقعنا البائس، فهي صرخة تدعو إلى التحرك والوقوف في وجه الفساد، والتحلي بالشجاعة لاتخاذ القرار الصحيح، حتى وإن كان مكلفًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى