
حلمتُ، بل كان كابوسًا غريبًا، كنت جالسًا في قاعة مسرح قديمة متصدعة، في أحد المسارح العتيقة، أشاهد عرضًا عنوانه “خراب مالطا”، مغمورًا في أجواء مثيرة للفضول.
المسرحية تدور حول حزب سياسي عريق، له تاريخ طويل في النضال من أجل الوطن، لكنه الآن يقف عاجزًا أمام واقع مأساوي من الفساد والعبث، ضائعًا بين شخصيات تبحث عن النفوذ والمكاسب الشخصية دون أدنى اكتراث للمبادئ التي تأسس عليها الحزب.
كانت تلك الشخصيات المتصارعة على خشبة المسرح تُظهر بشكل صارخ مدى انحدار الحزب، وكيف تخلت عن رسالتها التاريخية واستسلمت لرغباتها الضيقة.
في المشاهد الأولى من المسرحية، يظهر رئيس الحزب السابق، باشا محترم له تاريخ مليء بالإنجازات وكان مثالًا للتضحية والنزاهة؛ قد رحل وترك خلفه فراغًا كبيرًا في القيادة .. منذ رحيله، والحزب يتدهور بشكل متسارع.
كانت روحه السياسية تكمن في شخصيته التي تمثلت في النزاهة والاحترام، وكان يحيط نفسه بوجوه سياسية لها ثقل حقيقي قادرة على النهوض بالحزب وتعزيز دوره الوطني.
إلا أنه، بعد رحيله، توالت الشخصيات الهشة والضعيفة على المنصب، غير قادرة على اتخاذ خطوات جادة لإنقاذ الحزب من الغرق في وحل الفساد والانتهازية.
أحداث المسرحية تتصاعد وتبدأ الخيوط تتكشف، حيث يتم الكشف عن تلاعب مالي وإداري واضح، تغاضت عنه القيادات الجديدة من أجل الحفاظ على مصالحها الشخصية.
إحدى الشخصيات التي برزت في القصة كان يبدو عليها الانعدام التام للثقة بالنفس، شخص لا يتردد في مخالفة قوانين الحزب وتجاوز اللوائح، مدفوعًا بإحساسه بالحصانة والحماية التي يحلم بها.
كان هذا الشخص يمثل الصورة الحقيقية لأزمة القيادة داخل الحزب. قيادة ضعيفة ومهزوزة، تتخذ قرارات دون تفكير، وتختلق الأعذار الواهية لتبرير الفشل.
وسط هذا الخراب، يبرز رئيس جديد للحزب، يُفترض أن يكون القائد الذي يعيد للحزب أمجاده السابقة، لكنه، وعلى العكس، يستسلم لتيارات المصالح الشخصية.
الشخص نفسه الذي من المفترض أن يكون مصلحًا بات أداة في يد شخصيات أخرى تبحث عن النفوذ والسلطة داخل الحزب.
مع تقدم الأحداث على خشبة المسرح، كان يُعرض هذا الشخص بشكل ساخر، إذ يظهر وكأنه ليس قائدًا بل مجرد دمية تحركها خيوط المصالح، غير قادر على اتخاذ موقف واضح أو حازم لإنقاذ الحزب من السقوط في الهاوية.
لقد كان من المؤلم أن نشاهد كيف تم تحويل الحزب من منارة للأمة إلى مجرد أداة لتحقيق المكاسب الشخصية، دون النظر إلى مصلحة الوطن أو المبادئ التي قامت عليها هذه الكيان السياسي العريق.
حتى الصحفيون الذين كان يُفترض بهم أن يكونوا صوت الحق داخل الحزب أصبحوا يعيشون في حالة من الخوف والضياع، غير قادرين على التعبير عن آرائهم أو الدفاع عن حقوقهم.
مشاهد هؤلاء الصحفيين وهم يقفون عاجزين أمام تدهور وضعهم الوظيفي، وتراكم المشاكل المالية، كانت تمثل رمزًا صارخًا لانهيار الحزب بأكمله.
رغم أن المسرحية كانت مستوحاة من الخيال، إلا أن أصداء الفساد التي رأيتها لم تكن بعيدة عن واقع حزب سياسي مرموق نعرفه جميعًا.
حزب كان له في الماضي دور ريادي في الدفاع عن حقوق الأمة وتوجيه مسار السياسة الوطنية. ورغم اكتشاف هذا المستنقع الآسن، إلا أن الأمور لم تتغير. من عهد رئيس إلى آخر
وفي مشهد آخر من المسرحية، يظهر شخص آخر، رجل له باع طويل في عالم المال والإعلانات، وقد تسلل إلى الحزب بطريقة كوميدية غريبة، فظلت الفوضى والانحراف تتزايد، كما لو أن الفساد بات جزءًا لا يتجزأ من هيكل هذا الحزب.
لم يكن له أي علاقة حقيقية بالمبادئ التي يمثلها الحزب، لكنه استطاع أن يتغلغل في صفوفه، مستغلًا ضعف القيادة وحاجتها إلى التمويل.
كان هذا الشخص يمثل الوجه الآخر للمشكلة، الوجه الذي يعكس كيف تم التنازل عن المبادئ والقيم مقابل المكاسب الشخصية.
لقد أصبح الحزب، كما عرضته المسرحية، أداة في أيدي من يملكون المال والسلطة، غير معني بتاريخه أو رسالته الوطنية.
مع كل مشهد من مشاهد “خراب مالطا”، شعرت بمزيج من الحزن والغضب. كيف يمكن لحزب كان في يوم من الأيام منارة للأمل، أن يصل إلى هذا المستوى من التدهور؟
كيف يمكن أن يتحول الحلم الجميل بالإصلاح والتغيير إلى كابوس من الفساد والتراخي؟ وكيف يمكن لمن كان من المفترض أن يكونوا حماة هذا الحزب أن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يشاهدونه يغرق في الفساد؟
المشكلة الأكبر كانت في كيفية تعامل القيادة الحالية مع هذا الواقع المأساوي. بدلاً من العمل على إصلاح الحزب واستعادة مصداقيته،
انشغلت القيادة في تضخيم دورها واستغلال موقعها لتحقيق مكاسب شخصية. في كل مرة كانت تُتاح فيها فرصة للتغيير، كان يتم إهدارها، وتظهر بوادر الانحراف من جديد.
المشاهد الختامية من “خراب مالطا” كانت تعكس النهاية المحتومة لهذه الأزمة. شخصيات عاجزة، قادة بلا رؤية، وصحفيون بلا أصوات.
كانت النهاية حتمية، فالحزب الذي تأسس على مبادئ عظيمة انتهى به الأمر ككيان ضعيف، غير قادر على مواجهة التحديات أو تقديم أي دور حقيقي في الحياة السياسية.
كان الحلم كابوسًا مزعجًا لم أستطع الهروب منه. لكن ما زاد الطين بلة هو أنني استيقظت لأجد أن الواقع لا يختلف كثيرًا عن هذا الحلم.
الفساد الذي شاهدته على المسرح ليس بعيدًا عن الواقع الذي نعيشه .. حيث وجدت نفسي أتأمل الواقع المرير لهذا الحزب، وأتساءل: هل يمكن حقًا أن يتم إنقاذه؟ هل هناك أمل في أن يستعيد أمجاده السابقة؟ أم أن الأمور قد وصلت إلى نقطة اللاعودة؟
الجواب يكمن في يد القيادات الموجودة الآن. عليهم أن يدركوا أن استمرارية هذا الحزب تعتمد بشكل رئيسي على استعادة الثقة التي فقدها الحزب في الشارع.
لم يعد الصمت خيارًا، فالحزب بحاجة إلى وجوه جديدة، قيادة تمتلك الشجاعة لاتخاذ قرارات حاسمة وإنقاذه من الانهيار الكامل. الأزمة ليست مجرد أزمة مالية أو إدارية، بل أزمة هوية وفقدان للقيم التي قام عليها.
إننا بحاجة إلى أشخاص يؤمنون بالإصلاح الحقيقي، وليس إلى أولئك الذين يعتقدون أن بإمكانهم شراء المجد بالصفقات المشبوهة والعلاقات الفاسدة.
لقد حان الوقت للصحوة، والاعتراف بأن هذا الحزب لن يستعيد مجده إلا إذا تخلص من الفساد والقيادات الفاشلة التي تسببت في تدميره.
ومثلما انتهت مسرحية “خراب مالطا” بتدمير كل شيء، فإننا بحاجة إلى التحرك قبل أن يصل الواقع إلى نفس النهاية المأساوية، فإن مصير الحزب لن يكون مختلفًا عن نهايات أخرى مشابهة، حيث يغرق في وحل الفساد والضعف.
ما يحتاجه الحزب اليوم هو نهضة حقيقية، وقادة يدركون أهمية الدور الذي يجب أن يلعبه في المشهد السياسي، بعيدًا عن المصالح الشخصية الضيقة التي قادت “خراب مالطا”.
وأتمنى أن يكون هذا الحلم، أو بالأحرى الكابوس، دعوة للاستيقاظ. لأن إنقاذ هذا الحزب يتطلب جهودًا جماعية وإرادة قوية، قبل أن تصبح مسرحية “خراب مالطا” واقعًا لا مفر منه.