مقالات ورأى

حسن نافعة يكتب: دلالات التفاوض المباشِر بين حركة حماس وإدارة ترامب

حين تأتي إدارة ترامب، وتقرر الدخول في مفاوضات مباشرة مع حماس، فمن الطبيعي أن يثير هذا القرار، تساؤلات محيّرة بشأن حقيقة الأسباب التي دفعتها إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة غير المتوقعة.

كشف موقع “أكسيوس” الإخباري، منذ أيام، اتصالات أجرتها إدارة ترامب مع حركة حماس مؤخراً، ولولا مسارعة البيت الأبيض إلى تأكيد الخبر رسمياً لما صدقه أحد، ثم راحت الحقائق تتكشّف تباعاً، بحيث تبيّن ما يلي:

1- أن الاتصالات التي تمت أخذت شكل مفاوضات مباشرة جرت بين آدم بوهلر، المبعوث الشخصي للرئيس دونالد ترامب لشؤون المختطَفين، وقادة من حركة حماس، ولم تتم عبر قنوات خلفية أو شخصيات غير رسمية، كما يحدث عادة في مثل هذه الأمور.

2- أن قطر، أحد الوسطاء الرئيسين والضامنين لتنفيذ الاتفاق الحالي لوقف إطلاق النار، كانت هي حلقة الوصل، وأن المفاوضات جرت في أرضها، الأمر الذي يعني أنها جزء لا يتجزأ من الجهود المتعلقة بإنهاء الحرب.

3- عدم حدوث أي تنسيق أو تشاور مسبّق مع الحكومة الإسرائيلية قبل إقدام الإدارة الأميركية على هذه الخطوة غير المتوقعة، بل ذهب بوهلر إلى حد التصريح بأن “الولايات المتحدة ليست عميلاً لإسرائيل”.

ما إن أفاق المراقبون من هول هذه المفاجأة حتى بدأوا طرح عدد من التساؤلات بشأن ما إذا كان ما جرى يشكل منعطفاً حاداً في توجهات السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وبشأن أسبابه ودلالاته. فحركة حماس مدرَجة في قوائم الإرهاب الأميركية منذ عام 1997، وجميع الإدارات، التي تعاقبت على البيت الأبيض منذ ذلك الحين، اتخذت مواقف متشددة تجاه هذه الحركة، وحرّمت على كل الجهات الرسمية الدخول معها في أي شكل من أشكال العلاقات أو التواصل المباشر أو غير المباشر.

وتبنت إدارة بايدن بالكامل موقف الحكومة الإسرائيلية بشأن الحرب المدمرة التي شنتها على قطاع غزة، عقب “طوفان الأقصى”، وخصوصاً ما يتعلق بهدف تدمير حماس عسكرياً واستئصالها نهائياً من معادلة السياسة الفلسطينية.

وحين تأتي إدارة ترامب، وهي الإدارة التي عُرف عنها انحيازها المطلق إلى الأجندة السياسية للجناح الأكثر تطرفاً في الحكومة الإسرائيلية، وتقرر الدخول في مفاوضات مباشرة مع حماس، فمن الطبيعي أن يثير هذا القرار، المتناقض كلياً مع مواقفها المعلنة، تساؤلات محيّرة بشأن حقيقة الأسباب التي دفعتها إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة الجريئة غير المتوقعة، والأهداف التي تسعى لتحقيقها من ورائها.

للبحث عن أجوبة مقنعة عن هذه التساؤلات المحيّرة، طرحت اجتهادات متباينة. فهناك من يرى أن التفسير الوحيد لهذا الانقلاب يكمن في شخصية ترامب المتقلبة، والتي تحركها غرائز وطموحات ذاتية أكثر مما تحركها حسابات عقلانية، وأن قراره المفاجئ بشأن التفاوض المباشر مع حماس يُعَدّ دليلاً دامغاً على تقلبات مزاجية تعكس حالة نفسية مضطربة لشخصية قلقة وأنانية. وهناك من يميل نحو التقليل من شأن هذا القرار، ويحذر من المبالغة في تضخيم أهميته، ويرى أنه لا ينطوي على أي أبعاد استراتيجية أو جيوسياسية، ولا يخرج عن كونه مناورة تكتيكية تنحصر أهدافها في العمل على إنقاذ أسرى يحملون الجنسية الأميركية من دون دفع ثمن باهظ في المقابل، ربما بسبب رغبة ترامب في الظهور أمام الرأي العام في مظهر القائد الحريص على تقديم المصلحة الأميركية فوق أي اعتبار آخر.

وهناك من لا يستبعد أن يكون حرص ترامب على الحصول على جائزة نوبل للسلام هو ما دفعه إلى التصرف بطريقة توحي بأنه الرجل القادر على الذهاب إلى أبعد مدى من أجل صنع السلام، مهما كانت العقبات التي تعترض طريقه. 

لا أميل، وفق طبعي، إلى هذا النوع من التفسيرات التي تغلّب العوامل الذاتية على العوامل الموضوعية. صحيح أن قرار ترامب بالتفاوض المباشر مع حماس يعكس أسلوبه الذي يتسم بالجرأة، لكنه يستند في الوقت نفسه إلى أسس موضوعية وإلى حسابات عقلانية.

ففي تقديري أنه وصل إلى قناعة، مفادها أن حماس هي من يسيطر على الأرض وعلى الرهائن، وأن الوسائل العسكرية جُربت فترة طويلة ولم تحقق الأهداف المرجوة، خصوصا ما يتعلق منها باستعادة الرهائن أحياء، وبالتالي فإن فتح باب التفاوض المباشر معها يمكن أن يؤدي إلى نتائج أفضل، حتى من منظور المصالح الإسرائيلية التي لا تنفصل في إدراكه عن المصالح الأميركية.

ولأنه لا يميل كثيراً إلى استخدام الوسائل العسكرية في تحقيق أهدافه، ليس لأنه لا يؤمن باستخدام القوة، فهو من أكثر المؤمنين بأن السلام لا يتحقق إلا من خلال القوة، لكنه يعتقد أن الوسائل غير العسكرية هي الأقدر على كسب الحرب وبتكلفة أقل. لذا، لا أستبعد أن يكون حصل على معلومات من مصادر متعددة، من بينها مصادر أمنية إسرائيلية، أقنعته بأن تحرير الرهائن بالوسائل العسكرية بات مستحيلا، وأن التكلفة الإنسانية لاستئناف القتال ستكون باهظة وستضر بصورة الولايات المتحدة المشوهة أصلاً، وخصوصاً بعد التصريح لـ”إسرائيل” بالحصول على الشحنات المجمدة من القنابل الثقيلة جداً، وبالتالي يمكن للتفاوض المباشر مع حماس أن يتيح أمامه مجالاً أكبر للمناورة وممارسة الضغوط، سواء على حماس أو على الوسطاء العرب.

كما لا أستبعد أن يكون بدأ يقتنع بأن حكومة نتنياهو لم تعد تعبّر عن أغلبية الجمهور الإسرائيلي بعد أن هُزمت شعبياً مرتين، مرة حين عجزت عن حماية المستوطنين في غلاف غزة، ومرة حين عجزت عن استعادة الأسرى وتدمير حماس، وبالتالي فمن الأفضل الإنصات إلى أصوات أخرى غير نتنياهو.

كان من الطبيعي أن ترحب حماس بقرار ترامب الدخول في مفاوضات مباشرة معها، لأن ذلك يعني اعترافاً أميركياً صريحاً بأنها تشكل مكوناً أساسياً في بنية الشعب الفلسطيني، فضلاً عن كونها القوة المسيطرة على قطاع غزة من الناحية الفعلية، وبالتالي يستحيل استعادة الأسرى أحياء، أو التوصل إلى اتفاق نهائي لوقف إطلاق النار، أو فتح آفاق للتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، من دون موافقتها. وبالتالي، يجب أن تكون جزءاً من الحل حتى لو كان ينظر إليها على أنها أساس المشكلة.

على صعيد آخر، يتيح التفاوض المباشر لحماس طرح وجهة نظرها مباشرة أمام الإدارة الأميركية، من دون وسيط إسرائيلي، ومن دون وسطاء عرب، وهو عامل مهم جدا يتيح للإدارة الأميركية أن تتعرف، للمرة الأولى، إلى حقيقة موقف حماس بشأن مختلف القضايا المطروحة في جدول أعمال المفاوضات، وبالتالي تجنب التعقيدات الناجمة عن سوء الفهم الناجم عن نقل المواقف عبر أطراف قد يكون لها مصلحة في تشويه صورة حماس، وخصوصاً الطرف الإسرائيلي. يلفت النظر هنا أن طرفين أظهرا استياءهما الشديد من دخول الولايات المتحدة في مفاوضات مباشرة مع حماس.

الطرف الأول “إسرائيل”، وهو أمر مفهوم ومتوقع لأسباب بديهية لا تحتاج إلى تعليق، والطرف الآخر هو السلطة الفلسطينية، وهو أمر غريب ومستهجن، وخصوصاً في وقت تبدو الحاجة ماسة إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني وتهيئة الأجواء لاستعادة الوحدة الوطنية. لقد وجهت رئاسة السلطة الفلسطينية انتقادات لاذعة إلى حماس “لأنها أجرت اتصالات ومفاوضات مع جهات أجنبية من دون تفويض وطني، وعلى نحو يتعارض مع أحكام القانون الفلسطيني الذي يجرّم التخابر مع جهات أجنبية”، وهو تصريح مضحك ومخجل، في الوقت نفسه. 

وأيا كان الأمر، فسوف تُظهر الأيام القليلة المقبلة ما إذا كانت المفاوضات التي أجراها بوهلر مع قيادات حماس ستساعد على إخراج اتفاق وقف إطلاق النار من المأزق الذي وصل إليه، بسبب إصرار نتنياهو على انتهاكه وتدميره. لقد وصل ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس ترامب، إلى الدوحة، مساء الثلاثاء الماضي، كي يتولى بنفسه قيادة جولة المفاوضات الحالية التي تستهدف البحث عن مخرج وتشارك فيها جميع الأطراف الأخرى.

طبعا ليس من المتوقع أن تُعقَد جلسات تفاوض تشارك فيها جميع الوفود، بما في ذلك وفدا حماس و”إسرائيل”، لكن وجود ويتكوف في الدوحة قد يسمح بإجراء مزيد من المفاوضات الأميركية الفلسطينية المباشرة، الأمر الذي قد يساعد على العثور على مخرج.

أشارت وسائل الإعلام إلى أن ويتكوف يحمل معه اقتراحا يقضي بالتوافق على هدنة لمدة شهرين، يتم خلالها الإفراج عن عشرة من الرهائن الأحياء، نصفهم في بداية الهدنة والنصف الآخر في نهايتها، وأن نتنياهو أعلن موافقته عليه.

وعلى الرغم من أنه يتعين على حماس أن تحذَر من الانزلاق إلى مفاوضات تستهدف التوصل إلى اتفاق جديد، وأن تتمسك باستكمال تنفيذ الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بحذافيره، وخصوصاً أن الولايات المتحدة ليست مجرد وسيط ساعد على التوصل إليه، وإنما هي ضامن لتنفيذه أيضا، فإنه يمكنها إظهار ما يكفي من المرونة التكتيكية لإدراج اقتراح ويتكوف ضمن المرحلة الثانية، أو التعامل معه على أنه “مرحلة بين المراحل”، شريطة التوافق على آليات تسمح بالانتقال التلقائي من مرحلة إلى أخرى، مع وجود ضمانات أقوى تضمن عدم تكرار ما أقدم عليه نتنياهو من انتهاكات في نهاية المرحلة الأولى.

إذا جاز لي أن أقدم إلى حماس نصيحة تتعلق بالجولة الحالية من المفاوضات، على رغم ضرورة الاعتراف بأنها أدارت العملية السياسية بالقدر نفسه من الكفاء التي أدارت بها عملية “طوفان الأقصى”، فهو أن تصر هذه المرة على صدور قرار من مجلس الأمن، وفقا للبند السابع من الميثاق، ينص على ما سيتم الاتفاق عليه، ويضمن تنفيذه، ويتضمن آلية لفرض عقوبات قاسية على أي طرف يقوم بانتهاكه، وأن تشترط في الوقت نفسه إقدام “إسرائيل” على تنفيذ كل استحقاقات المرحلة الأولى التي رفضت تنفيذها، بما في ذلك الانسحاب من محور فيلادلفيا، قبل أن تبدأ هي الإفراج عن أي أسير إسرائيلي جديد.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى