مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: مسرحية بظرميت .. حلم عن الفساد الذي لا ينتهي

استيقظت هذا الصباح من حلم غريب، حلم أذهلني بواقعيته .. كنت في مسرح مكتظ بالجمهور، ومن على خشبة المسرح كانت تدور أحداث مسرحية عجيبة بعنوان “بظرميت”.

أحداث المسرحية لم تكن مجرد مشاهد تمثيلية عابرة، بل كانت انعكاسًا لحقيقة مريرة نعيشها في هذا البلد .. كان المسرح وكأنه مرآة عملاقة تعكس مظاهر الفساد الذي أصبح جزءًا من حياتنا اليومية، الفساد المالي والإداري والأخلاقي الذي نعرفه جميعًا، لكننا نقف أمامه عاجزين، مكتوفي الأيدي.

بدأت المسرحية بمشهد صادم، حيث تم الكشف عن مستنقع من الفساد لا حدود له .. الأوراق تتطاير في الهواء، ملفات متراكمة تظهر أدلة قاطعة على أموال تُسرق، مشاريع وهمية، مناقصات تتلاعب بها أيدي خفية، وموظفين لا يهتمون بشيء سوى ملء جيوبهم.

كل شيء كان مكشوفًا، وكل شاهد في المسرحية كان يعلم الحقيقة، من أعلى الهرم إلى أدناه .. ومع ذلك، لم يتحرك أحد.

كانت المسرحية تسلط الضوء على فساد مؤسسة حكومية تُفترض أن تكون منارة للثقافة والتنوير، لكنها تحولت إلى وكر للفساد والتلاعب.

لم أكن مجرد مشاهد في الحلم، بل شعرت أنني أعيش كل لحظة .. الأصوات في المسرحية كانت صاخبة، والشخصيات متحركة بعشوائية، كأنهم تائهون في بحر من الكذب والاحتيال.

الشخصيات الرئيسية في المسرحية كانت رموزًا للسلطة والقرار، لكن وجوههم كانت بلا ملامح، مجرد أقنعة فارغة تعكس الجمود والعجز.

كانوا يعلمون أن الفساد منتشر، وكان لديهم الأدلة الدامغة، لكنهم اختاروا الصمت .. كان السؤال المتكرر في المسرحية: “لماذا لا يتم اتخاذ أي إجراء؟” .. والجواب الصادم دائمًا: “لأن الفساد جزء من النظام“.

أحد الشخصيات، الذي كان يمثل رمزًا بارزًا للسلطة، وقف أمام الجمهور ليقول: “إنه مجرد خطأ صغير، يمكننا تجاوزه” .. هذه الجملة كانت محور المسرحية بأكملها، وكأن كل مشهد يدور حول تبرير الفساد وتجميله.

وفي كل مرة يُطرح فيها سؤال عن المساءلة أو عن العقاب، كانت الإجابة تتكرر “لسنا بحاجة إلى اتخاذ إجراءات، الأمور ستسير كما هي” .. وكأن المسؤولين في المسرحية كانوا يخافون من مواجهة الحقيقة، يفضلون الاستمرار في دائرة الفساد بدلًا من كسرها.

المسرحية لم تكن فقط عن الفساد المالي والإداري، بل عن فساد القيم والأخلاق .. كانت تسلط الضوء على كيف يمكن أن يتحول الإنسان إلى دمية في يد النظام، فاقدًا للأخلاق والمبادئ، حيث يصبح المال والسلطة فوق كل اعتبار.

وفي كل مشهد، كانت الأصوات تزداد حدة، الصراع الداخلي بين الشخصيات يزداد توترًا، لكن النهاية كانت دائمًا واحدة “لا أحد يتحرك، ولا أحد يتحدث“.

كان الشعور العام الذي انتابني وأنا أتابع المسرحية هو القهر والعجز .. كيف يمكن لمثل هذا الفساد أن يستمر بدون عقاب؟ كيف يمكن أن تظل الأمور كما هي دون أن يجرؤ أحد على التحرك؟

هذا هو السؤال الذي تطرحه “بظرميت“، وهو السؤال الذي نطرحه جميعًا على أنفسنا كل يوم .. نحن نعيش في عالم حيث الحقيقة مكشوفة، لكن من يملك القوة لتغييرها يختار الصمت.

عندما استيقظت من الحلم، أدركت أن ما شاهدته على خشبة المسرح ليس مجرد خيال، بل هو انعكاس صارخ للواقع.

كم من الفضائح يتم الكشف عنها يوميًا؟ كم من التقارير التي تظهر حجم الفساد؟ لكن أين الأفعال؟ أين المحاسبة؟ يبدو أن الأمور تسير في دائرة مغلقة، حيث يُكشف الفساد ثم يُنسى، ولا يتغير شيء.

ما زاد من عمق شعوري بالقهر هو أن هذه المؤسسة التي كانت محور المسرحية ليست مجرد أي مؤسسة .. إنها مؤسسة يُفترض أن تكون رمزًا للتنوير والتثقيف، لكنها أصبحت بؤرة للفساد.

كم من الأجيال سيضيع مستقبلها بسبب هؤلاء الفاسدين الذين يعبثون بمقدراتها؟ وكم من المشاريع الثقافية المهمة التي كان يمكن أن ترى النور، لكنها تأخرت أو أُلغيت بسبب هذا المستنقع الذي لا يريد أحد أن ينظفه؟

في ختام المسرحية، كانت هناك عبارة بسيطة لكن قوية، قيلت على لسان أحد الشخصيات، وكأنها صرخة أخيرة قبل إسدال الستار: “الفساد هو العدو الأول للتنمية، ولن نتقدم خطوة ما لم نخلق بيئة وطنية نزيهة” .. هذه العبارة، رغم بساطتها، كانت تحمل في طياتها حقيقة مريرة.

كيف يمكن لبلد أن يتقدم في ظل هذا الكم الهائل من الفساد؟ كيف يمكن لأي مؤسسة، سواء كانت ثقافية أو غيرها، أن تحقق أهدافها وهي تعاني من هذا الداء العضال؟

ما زلت أستشعر أثر هذا الحلم حتى الآن، وكأنه دعوة للتحرك، دعوة لمواجهة الفساد بكل قوة .. قد يكون الحلم مجرد انعكاس لواقع مأساوي نعيشه، لكنه في النهاية يذكرنا بأن التغيير ممكن.

نعم، قد يكون هناك فساد، وقد يكون هناك من يستفيد من هذا الفساد، لكن في النهاية، الحقيقة لا يمكن أن تظل مخفية إلى الأبد.

الفساد هو العدو الأول لكل تنمية وتقدم، وهذه هي الحقيقة التي أكدها الزميل الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، حينما قال في تصريحاته الصحفية إن “الفساد له أثر سلبي على التنمية، وعلينا خلق بيئة وطنية نزيهة“.

هذه هي الحقيقة التي يجب أن نواجهها يوميًا، لأننا إن لم نتحرك الآن، فإننا سنظل عالقين في دائرة الفساد إلى الأبد، ولن نرى النور.

وستظل “بظرميت” مسرحية رمزية، تذكرنا بأننا لسنا مجرد مشاهدين في هذا العالم، بل علينا أن نكون جزءًا من الحل، لا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام الفساد المستشري.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى