
لقد شكل الاعلان عن الاتصالات واللقاءات المباشرة ما بين الادارة الامريكية وحركة حماس تطوراً لافتاً ومهماً في منطقة الشرق الاوسط ، في ظل مرحلة صعبة ومعقدة تمر بها القضية الفلسطينية والمنطقة بأكملها، إذ بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بفتح قنوات اتصال مع حركة حماس التي لم ترفع الراية البيضاء رغم حرب الابادة الجماعية التي شنتها اسرائيل على الحركة وعلى قطاع غزة بدعم عسكري وغطاء سياسي أمريكي وغربي، وفي خطوة تُعتبر سابقة تاريخية منذ تصنيف الحركة كمنظمة إرهابية عام 1997 من قبل الولايات المتحدة الامريكية، تم الاعلان عن اتصالات ولقاءات مباشرة بين حركة حماس والادارة الامريكية في العاصمة القطرية الدوحة، فهذ الخطوة الجريئة والمتقدمة من قبل ادارة الرئيس دونالد ترمب تشكل رسالة قوية وواضحة مفادها بأن “لا مستحيل في السياسة، وعند المصالح كل شيء جائز” إضافة الى أنها تشكل نقلة نوعية مهمة لحركة حماس على صعيد التمثيل السياسي والقبول لدى المجتمع الدولي كحركة سياسة فلسطينية تمثل جزء اصيل من الشعب الفلسطيني ويجب التعامل معه والاعتراف به.
مفاوضات سياسية وفنية
على الرغم من أن تلك المفاوضات تركز بشكل أساسي على الجانب الفني المتعلق بقضية الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة، إلا أنها تتجاوز ذلك إلى ملفات سياسية أوسع، فالاتصالات الجارية بين مسؤول ملف الرهائن الأمريكي “آدم بولر” وقادة حماس في الدوحة قد تؤدي إلى وقف دائم للحرب واتفاق سياسي حول مستقبل قطاع غزة، فهذه الاتصالات والمحادثات تأتي في إطار جهود أمريكية لحل قضية المحتجزين والرهائن في قطاع غزة، ولكنها تمتد إلى ترتيبات سياسية أوسع تُعيد تعريف مستقبل القطاع ودور حماس فيه، وهذه الخطوة تُعتبر سابقة تاريخية، حيث لم يسبق للولايات المتحدة أن تفاوضت بشكل مباشر مع حركة حماس والتي مازالت تصنفها “كمنظمة إرهابية”، ولكن في الوقت ذاته لدى واشنطن سوابق في تغيير مواقفها من منظمات وحركات كانت تُصنفها منظمات إرهابية، ففي السابق، كانت واشنطن تعتبر منظمة
التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، ولكنها لاحقًا اعترفت بها وتفاوضت معها وأزالتها من قوائم الإرهاب، ومن الوارد ان الشيء نفسه مع حماس، خاصةً في ظل شعبيتها الكبيرة في الشارع الفلسطيني وتزايد الاعتراف الدولي بها على مستوى العالم العربي والاسلامي، وفي القوت ذاته هناك واعتراف حتى الإسرائيليين بأن حماس تمثل تيارًا فكريًا وسياسيًا لا يمكن القضاء عليه وتدميره بالقوة العسكرية.
ومن الناحية التاريخية فأن العلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية وحركات الإسلام السياسي ليست جديدة، فتاريخيًا، تفاوضت واشنطن مع قوى إسلامية في أكثر من مناسبة، فعلى سبيل المثال، بعد فوز الإخوان المسلمين في مصر عام 2012 في انتخابات حرة وديمقراطية، أقامت الإدارة الأمريكية علاقات دبلوماسية قوية مع الرئيس المنتخب محمد مرسي، كما أن إدارة الرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى تفاوضت مع حركة طالبان الافغانية، والتي كانت مصنفة كمنظمة إرهابية، ووقعت معها اتفاق الدوحة عام 2018، وهذه السوابق تُظهر أن الولايات المتحدة تتعامل مع هذه الحركات من منطلق مصالحها الاستراتيجية وانها تحترم القومي استنادا الى نظرية القوة في العلقات الدولية فالعالم يحترم القومي وقد اثبتت حركة حماس خلال الاشهر الماضية قدرتها السياسية والتفاوضية العالية وصمودها الاسطوري في مواجهة الة الحرب الاسرائيلية، وهو ما يفسر توجه واشنطن نحو حركة حماس واجراء هذه المحادثات المباشرة معها.
رسائل عديدة إلى عدة جهات
إن تلك الاتصالات والمحادثات الامريكية الحمساوية تحمل العديد من الرسائل، فهناك رسالة إلى الحكومة الإسرائيلية ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مفادها بأن واشنطن لديها خيارات أخرى للتفاوض إذا لم تُكمل إسرائيل المرحلة الثانية من الصفقة الحالية، وهذه تشكل رسالة ضغط على نتنياهو لدفعه نحو إتمام المرحلة الثانية من الاتفاق المتعلق بتبادل الأسرى والمحتجزين، ورسالة إلى أطراف اقليمية وعربية أخرى بأن حماس أصبحت لاعباً سياسياً أساسياً ولا مفر من الاعتراف بها والتعامل معها، إضافة إلى رسالة لعائلات الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين لدى حماس، اذ بدأت تلك العائلات ترى أن المفتاح لحل قضية أبنائهم يكمن في واشنطن وفي البيت الابيض وليس في تل أبيب، هذه الرؤية لدى عائلات الاسرى والمحتجزين تجلت من خلال اللقاء الذي تم في البيت مع الرئيس ترمب، حيث التقى مؤخرًا بثمانية من الأسرى والمحتجزين الذين تم إطلاق سراحهم من غزة، وذلك بترتيب من الناشطة اليهودية الامريكية (مريم أدلسون) التي تتمتع بنفوذ كبير
على الرئيس ترمب وكانت من كبار المتبرعين لحملته الانتخابية الاخيرة، اذ تبرهن تلك الخطوة على أن هناك توجهًا جديدًا نحو الضغط على الإدارة الأمريكية للعب دور أكثر فاعلية في دفع حكومة نتنياهو لإتمام الصفقة واطلاق سراح جميع الاسرى والمحتجزين من قطاع غزة.
ان هذه التطورات تلقى اهتمامًا كبيرًا من الأطراف الدولية والإقليمية، بما في ذلك إسرائيل والدول العربية، التي تتابع عن كثب تفاصيل هذه المفاوضات الجارية بين واشنطن وحماس، فقد تكون بداية لتغييرات كبيرة في المشهد السياسي في غزة، فبالإضافة إلى قضية الأسرى، هناك احتمال كبير لأن تتطور هذه المحادثات إلى ترتيبات سياسية تعترف بحماس كفاعل رئيسي في المستقبل السياسي للقطاع، ومع ذلك، فإن نجاح هذه المفاوضات مرهون بتطورات الأيام والأسابيع القادمة، وقدرة الأطراف المعنية على تجاوز العقبات التي قد تعترض طريقها وخاصة قضية الرهائن.
ان هذه الاتصالات بين حماس والادارة الامريكية تمثل واقعاً جديداً فرضته المصالح المشتركة بين الجانبين، فالإدارة الامريكية تريد استكمال المرحلة الثانية من اتفاق الهدنة واطلاق سراح كافة الاسرى والمحتجزين من قطاع غزة، ومن جانب آخر فإن حركة حماس تريد أن يكون لها حضور في مستقبل قطاع غزة وأن تتم عملية اعادة الاعمار ووقف دائم للحرب، وفي ظل تعنت رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ورفضه لإكمال مراحل الاتفاق فإن القوة الوحيدة القادرة على الضغط عليه والزامه بتنفيذ بنود الاتفاق الموقع هي الادارة الامريكية فكان من الضروري لدى حماس فتح حوار مباشر واجراء مفاوضات مع الادارة الأمريكية لتحقيق ذلك الهدف.
الخاتمة
ان تلك المفاوضات بين حماس والادارة الامريكية تعتبرا تطوراً هاماً يتمثل في قبول واشنطن الواقعي لحركة حماس كحركة سياسية وجزء من حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وهذا القبول قد يُترجم إلى اعتراف أمريكي بدور حماس كلاعب أساسي على الساحة السياسية الفلسطينية وتشكل دور تمثيلي لجزء من الشعب الفلسطيني، وهو ما قد يُغير المشهد السياسي في غزة بشكل جذري، فتلك المحادثات تتناول إمكانية التوصل إلى هدنة طويلة الأمد واتفاق سياسي شامل يضع حدًا للحرب ويُعيد ترتيب الأوضاع في قطاع غزة.