
تعكس الانتصارات المتتالية التي يحققها الجيش السوداني على الدعم السريع تراجع ميزان القوى العسكرية لصالح الجيش، كما أن خطط الدفاع عن مواقعه، التي تبنَّاها منذ بداية الحرب، أثبتت نجاعتها وفعاليتها. وتحاول هذه الورقة استعراض وتحليل هذه التطورات.
الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على مشارف عامها الثالث، بعد محاولة فاشلة من قبل الدعم السريع للاستيلاء على السلطة؛ مما أدخل البلاد في حرب مفتوحة شملت كل أرجاء السودان، بدءًا من العاصمة، الخرطوم، وإقليم دارفور، الذي أحكمت قوات الدعم السريع السيطرة عليه باستثناء الفاشر، عاصمة الإقليم، وبعض المناطق حولها، فضلًا عن مناطق واسعة في كردفان ووسط السودان، في ولايتي الجزيرة وسنار. لكن سرعان ما استعاد الجيش السوداني والفصائل المتحالفة معه زمام المبادرة، وبدأ في إحكام السيطرة على العديد من المدن والقرى في مناطق وسط السودان.
الانتصارات المتتالية والمتسارعة للجيش السوداني بدأت من جبل موية وسنجة، لكن مدني كانت النقطة الفاصلة في تراجع الدعم السريع بوتيرة سريعة لم تكن متوقعة من قبل المراقبين، وذلك لأهمية مدني؛ مما أسهم في تحقيق تقدم في محاور المواجهات المختلفة.
بالرغم من أن تحقيق نصر عسكري حاسم هو من أصعب الخيارات الآن، فإن الجيش السوداني يمضي قدمًا في هذا الاتجاه، وذلك من خلال تصريحات رئيس مجلس السيادة الانتقالي وبعض القيادات السياسية. ويعود ذلك إلى إخفاق كل المحاولات الإقليمية والدولية الرامية إلى عقد مباحثات مباشرة بين طرفي الحرب في السودان، إضافة إلى بروز اتجاهات داخل تحالف القوى المدنية الديمقراطية تدعو إلى إعلان حكومة موازية داخل مناطق سيطرة الدعم السريع. لذا، من المتوقع أن يكون الخيار العسكري هو الأمثل بالنسبة للجيش السوداني لاستعادة السيطرة على كل أرجاء السودان في الأيام المقبلة؛ مما يعني أن أمد الحرب سيطول.
من خلال هذه الورقة، نحاول استعراض وتحليل دوافع وأسباب اعتماد الجيش السوداني الخيار العسكري في حربه مع قوات الدعم السريع.
خلفية عن دوافع وأسباب حرب 15 أبريل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع
سيظل سؤال: من أطلق الرصاصة الأولى لحرب أبريل/نيسان 2023؟، وكذلك أسباب ودوافع الحرب، علامة فارقة في تاريخ السودان، وذلك يعود إلى تداعيات الحرب على الدولة والمجتمع. بالرغم من أن السودان لم ينعم قط بالاستقرار منذ استقلاله عن بريطانيا عام 1956، فإن حرب أبريل/نيسان ستظل مختلفة من حيث الدوافع والأبعاد والسياق والنطاق الجغرافي؛ حيث كانت كل الحروب السابقة محصورة في أطراف السودان؛ في جنوبه وغربه وشرقه، حيث استندت الحركات المتمردة على العديد من القضايا المطلبية المرتبطة بالتنمية والمشاركة السياسية. لكن الدعم السريع جزء من آليات نظام عمر البشير؛ حيث استُخدم بشكل فاعل لحسم التمرد في كل من دارفور وكردفان، لذا فإن تمرده أسفر عن نتائج كارثية(1).
بعد توتر وتراشق إعلامي منقطع النظير، انفجرت المواجهات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان 2023؛ حيث بدأت المعارك داخل العاصمة، الخرطوم، والقواعد العسكرية للجيش، لكن سرعان ما تحولت المواجهات المسلحة إلى كل مدن السودان. وعندئذ بدأت التساؤلات والسرديات المرتبطة بدوافع وأسباب الحرب، لاسيما أن العلاقة بين قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، ونائبه قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، علاقة متجذرة وعميقة تشكلت منذ 2003 عندما كانا يعملان في مناطق وسط دارفور، وأصبحت أكثر وثوقًا عندما أشرك عبد الفتاح البرهان محمد دقلو في المجلس العسكري الثاني بقيادته وتوليه منصب نائب رئيس المجلس؛ حيث لم يكن حاضرًا في المجلس العسكري الأول بقيادة عوض بن عوف. ولولا قرارات عبد الفتاح البرهان المتمثلة في إلغاء المادة الخامسة من قانون قوات الدعم السريع، لما تمكن محمد حمدان دقلو من تقنين وضع قواته وتوسيعها لتصل إلى 100 ألف جندي. بالإضافة إلى ذلك، استغل حميدتي نفوذه مستفيدًا من مشاركته في عملية عاصفة الحزم لتعزيز مكانته وتحقيق طموحه لحكم السودان، وذلك من خلال قوات متجددة بالأسلحة الثقيلة والسيارات رباعية الدفع، كما تمكن من استغلال مناجم الذهب وتصدير كميات ضخمة إلى الإمارات(2).
منذ انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021 على حكومة عبد الله حمدوك، نشبت خلافات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؛ مما أفشل جهود اختيار رئيس للوزراء وتشكيل حكومة جديدة على غرار حكومة عبد الله حمدوك. وفي ديسمبر/كانون الأول 2022، توصل الفرقاء في السودان إلى تفاهمات بعد جلسات من الاجتماعات واللقاءات المشتركة، وذلك برعاية الرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، والإمارات، والسعودية، والأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والإيغاد. لقد انخرطت القوى السياسية أيضًا في أعمال مؤتمر الاتفاق الإطاري؛ حيث نصَّت الاتفاقية على أن يخضع الجيش لرئيس الوزراء، وكذلك أكدت على دمج كل الفصائل المسلحة في القوات المسلحة. الجدول الزمني المقترح لدمج الدعم السريع في الجيش كان بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير، لذا كان محمد حمدان يرغب في أن تستمر عملية الدمج فترة لا تقل عن 10 أعوام حتى يحافظ على نفوذه العسكري ويحمي إمبراطوريته الاقتصادية، مما يُبقيه رقمًا يصعب تجاوزه. في الجانب الآخر، تدرك بعض القيادات العسكرية والسياسية أن مسألة الدمج والتسريح في غضون عامين فرصة سانحة للتخلص من محمد حمدان دقلو بأقل الخسائر، باعتباره غير مستوفٍ لشروط الانخراط في الكلية الحربية السودانية، والتي تتطلب الحصول على مؤهل ثانوي. وسياسيًّا، ليس لديه حظوظ، وذلك يعود إلى الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها عندما كان اليد اليمنى للرئيس المعزول، عمر البشير، فضلًا عن مشاركته في فض اعتصام القيادة العامة بالخرطوم(3).
منذ اندلاع المواجهات المسلحة، استطاعت قوات الدعم السريع أن تُحكم السيطرة على المرافق الحكومية التي كانت تتولى حمايتها، لاسيما المقار السيادية كالقصر الجمهوري وكل الوزارات والمؤسسات الحكومية الاتحادية والولائية التي تقع في ولاية الخرطوم. وحاولت بشتى الطرق والوسائل الاستيلاء على القيادة العامة بالخرطوم، باعتبار أن ذلك يعني السيطرة على الجيش السوداني. ولا يخفى على أحد أن محمد حمدان دقلو في الأيام الأولى للحرب كان يسعى إلى إلقاء القبض على رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني، لكن بسالة الجيش حالت دون ذلك، ومعركة الحرس الرئاسي خير شاهد على ذلك. فشل الدعم السريع في الاستيلاء على السلطة منذ الأسبوع الأول من الحرب(4).
في العام الأول من الحرب، سعت قوات الدعم السريع إلى فرض سيطرتها من خلال تحويل محاولتها الفاشلة للاستيلاء على السلطة إلى مواجهات عسكرية مفتوحة في جميع أنحاء السودان. كان هدفها من ذلك توسيع رقعة سيطرتها العسكرية قدر الإمكان؛ مما يمنحها أوراق ضغط لدخول عملية سياسية تضمن لها البقاء قوةً عسكرية مستقلة كما كانت قبل حرب أبريل/نيسان. راهن محمد حمدان دقلو على التفوق العسكري لقواته مقارنة بالجيش السوداني، الذي اكتفى في معظم الأحيان بالدفاع عن قواعده العسكرية وبعض المرافق الحيوية. تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على قواعد عسكرية رئيسية في عدة مناطق، من بينها نيالا، وزالنجي، والجنينة، بالإضافة إلى قاعدة الضعين، كما بسطت سيطرتها على بعض القواعد المهمة في كل من مدني، وسنجة، وجبل موية(5).
منذ أن أعلن الجيش السوداني، في 26 سبتمبر/أيلول 2024، عن عملية عسكرية وُصفت وقتها بالأكبر منذ بدء الحرب؛ حيث عبر جسري النيل الأبيض والحلفايا نحو الخرطوم وبحري، بدأت سيطرة الدعم السريع تنهار سريعًا في عدد من المناطق، بعد العمليات العسكرية الواسعة التي دشنها الجيش في الأشهر الأخيرة، ونجح فيها بإعادة الاستيلاء على مدن كبيرة مثل ود مدني، وسنجة، والدندر، ومناطق جبل موية، وأم القرى، وأم رواية، وتوج جهده بتحقيق أكبر اختراق في العاصمة، بفك الحصار عن مقر قيادته وسط الخرطوم، وعن سلاح الإشارة جنوب الخرطوم بحري. وهو مسعى ربما يكتمل في الأيام المقبلة بإعادة السيطرة على كامل ولايتي الجزيرة والخرطوم؛ مما يعني أن الحرب ستعود إلى مسارها التقليدي في كل من كردفان ودارفور(6).
مواقف القوى السياسية السودانية
السودان منذ استقلاله يدور فيه صراع بين القوى المحافظة ممثلة بالأحزاب الطائفية والإسلامية وحلفائها، والقوى اليسارية والقومية ممثلة بالأحزاب الشيوعية والبعثية والناصرية وحلفائها. جوهر الصراع يتمحور حول السلطة، لكن تجلياته ومجالاته متعددة، ويمكن حصرها في ثلاث مسائل أساسية: الدستور الدائم، وعلاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية. باندلاع حرب أبريل/نيسان بدأت مرحلة جديدة في السودان؛ حيث تمايزت الصفوف وانقسمت القوى السياسية إلى مجموعتين: الأولى تقف مع الجيش وتدعم بقاء الدولة ومؤسساتها، في مواجهة مجموعة ثانية، وإن أنكرت، فإن العديد من المؤشرات تؤكد أنها تقف مع الدعم السريع وحلفائه الخارجيين، وعلى رأسها تشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع(7).
تطابقت أجندة الدعم السريع مع تحالف القوى المدنية الديمقراطية “تقدم”، بأن الحرب على الجيش تهدف إلى القضاء على وجود عناصر النظام السابق والعمل على فرض الديمقراطية والحكم المدني. وفي الاتجاه المعاكس، القوى السياسية التي تقف مع الجيش تطلق على حرب أبريل/نيسان “حرب الكرامة”، وتؤكد أنها تقاتل الدعم السريع الذي تمرد على الدولة، ويقاتل في صفوفه عدد من المرتزقة. أعتقد بأن عجز القوى السياسية عن القيام بدورها الأساسي وفق أسس وقواعد العملية السياسية الديمقراطية إبان الفترة الانتقالية، والقبول بالدعم السريع كفاعل سياسي وعسكري، تسبب في توفير كل الشروط الضرورية لاشتعال الحرب، ومن بعد أسهم في نفخها وتسعيرها حتى انعدم دورها، وربما يمتد ذلك إلى مرحلة ما بعد الحرب(8).
ستبدو مهمة ما بعد الحرب أكثر صعوبة على القوى السياسية المدنية من حيث التعقيد، وكذلك الانقسامات، وعدم وجود رؤية شاملة للقضايا محل الخلاف، فضلًا عن أطماع الجيش في الاستمرار بالحكم، وتبين ذلك من خلال التعديلات التي طرأت على الوثيقة الدستورية؛ حيث منحت صلاحيات واسعة لرئيس مجلس السيادة بتعيين وإعفاء رئيس الوزراء وحكام الولايات والجهاز القضائي، وفترة انتقالية بحوالي أربع سنوات، مما يعني أن القوى السياسية السودانية بمختلف أنواعها وتوجهاتها ستظل أدوارها محدودة في الوقت الراهن، وكذلك في مرحلة ما بعد حرب 15 أبريل/نيسان(9).
طرح قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، خلال مخاطبته مشاورات نظَّمتها قوى سياسية مساندة للجيش في مدينة بورتسودان مؤخرًا، خريطة طريق للإعداد لمرحلة ما بعد الحرب، تضمَّن أهم بنودها تشكيل حكومة حرب خلال الفترة المقبلة من كفاءات مستقلة “تكنوقراط” لاستكمال مهام الانتقال، وإعانة الجيش والقوات المساندة له في حسم الدعم السريع فيما تبقى من مناطق تواجده؛ وهو ما أثار جدلًا واسعًا بين بعض القوى السياسية التي كانت غائبة عن اللقاء، وأعلن أن من يتخلى عن حمل السلاح من المقاتلين أو عن دعم الميليشيا من السياسيين سيكون مرحَّبًا به، كما أوضح رفضه لأي تصنيف سياسي أو جهوي للكتائب المقاتلة، مؤكدًا أنه من يرغب في القتال تحت أي لافتة يجب عليه أن يضع السلاح. وأكد رئيس مجلس السيادة أنه “لا توجد فرصة ثانية للمؤتمر الوطني للعودة إلى الحكم على أشلاء السودانيين”، داعيًا الراغبين في الحكم إلى التنافس مع القوى السياسية الأخرى في الانتخابات. أعتقد أن تصريح عبد الفتاح البرهان طرح قضية معقدة محل تباين كبير بين الفرقاء السياسيين، وتداعيات ذلك ستتبين في الأيام المقبلة، وربما تنعكس على مسار المواجهات المسلحة(10).
برز في المشهد السياسي في السودان تكتل جديد تحت اسم التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود)، واختار عبد الله حمدوك رئيسًا له، إثر حل تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية نفسها، بعد خلافات بين مكوناتها على تشكيل حكومة موازية. وكانت قوى سياسية سودانية -أبرزها أحزاب تحالف قوى الحرية والتغيير، ومنظمات مدنية، وحركات مسلحة- قد عقدت اجتماعات تحضيرية، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، بالعاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، عقب اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في 15 أبريل/نيسان 2023. في أواخر مايو/أيار 2024، عقدت التنسيقية مؤتمرها التأسيسي بأديس أبابا، تُوِّج بالإعلان التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”(11).
خلال اجتماع الهيئة القيادية للتنسيقية “تقدم” برئاسة عبد الله حمدوك، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، في عنتيبي الأوغندية، برز خلاف إثر تبني فصائل الجبهة الثورية مقترحًا بتشكيل حكومة موازية لنزع الشرعية من الحكومة في بورتسودان، وأحيل المقترح إلى آلية سياسية عجزت عن التوفيق بين المتمسكين بتشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، والرافضين الذين يعتقدون أن الذهاب إلى حكومة يؤدي إلى الانحياز إلى أحد أطراف الصراع، كما أنه يمهد لانقسام البلاد سياسيًّا، ولا يساعد على السلام وإنهاء الحرب.
وعقب اجتماع للهيئة القيادية لتنسيقية “تقدم” برئاسة حمدوك يوم الاثنين، أعلنت التنسيقية “فك الارتباط” بين المجموعة الداعية إلى قيام حكومة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، والمتمسكين بعدم تشكيلها، على أن يعمل كل منهما تحت منصة منفصلة سياسيًّا وتنظيميًّا باسمين جديدين مختلفين. “بهذا القرار، سيعمل كل طرف، اعتبارًا من تاريخه، حسب ما يراه مناسبًا ومتوافقًا مع رؤيته حول الحرب وسبل وقفها، وتحقيق السلام الشامل الدائم، وتأسيس الحكم المدني الديمقراطي المستدام، والتصدي لمخططات النظام السابق وحزبه المحلول وواجهاته”(12).
الأدوار الإقليمية والدولية
تحول الصراع إلى فرصة للتنافس على النفوذ في السودان والمنطقة المحيطة به بين قوى إقليمية ودولية. إبان حكم الرئيس السابق، عمر البشير، سعت دول خليجية إلى ضخ استثمارات في قطاعات منها الزراعة، التي يتمتع السودان فيها بإمكانيات هائلة. كذلك، استثمرت الصين في قطاع استخراج النفط، وتسعى روسيا إلى بناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر. زودت الإمارات العربية المتحدة قوات الدعم السريع بأسلحة ومعدات عسكرية، وفي الجانب الآخر، أرسلت إيران دعمًا عسكريًّا للجيش(13).
تدعم مصر، بصورة متوقعة ومعتادة عبر تاريخ السودان ما بعد الاستقلال، الجيش السوداني من أجل تحقيق أمنها واستقرارها. ولتحقيق ذلك، مضت مصر في دعم الفترة الانتقالية برئاسة البرهان والتأثير على بعض القوى السياسية، بل ظلت قوات الدعم السريع توجه الاتهامات إلى سلاح الجو المصري بالانخراط في المواجهات العسكرية منذ اندلاع حرب أبريل/نيسان(14).
يتفاوت التفاعل الإقليمي مع الحرب في السودان بين محاولة وقف القتال ومنع انتشار الفوضى عبر الحدود، وصولًا إلى الدعم السياسي والدعم العسكري غير المعلن لأحد أطراف الأزمة. وتُعد الإمارات أبرز الأطراف الإقليمية المتدخلة في السودان؛ فهي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الدعم السريع. وللإمارات مصالح متنوعة في السودان، بما في ذلك اهتمامها بمناجم الذهب، وبناء ميناء “أبو عمامة” على ساحل البحر الأحمر لتوطيد سيطرتها على الموانئ الممتدة في القرن الإفريقي. ورغم أن الحكومة السودانية لم تذكر الإمارات صراحة، فإنها اتهمت دولًا أجنبية بمساندة الدعم السريع. وقد وجد الجيش أسلحة عسكرية إماراتية في حوزة تلك القوات عندما استولى على بعض معسكراتها؛ ما يشير إلى تزويد الإمارات للدعم السريع بعتاد عسكري عبر دول جوار السودان، كتشاد وإفريقيا الوسطى وليبيا(15).
حصل الجيش السوداني على طائرات بدون طيار إيرانية الصنع، أسهمت في تحقيق تقدم عسكري متسارع ضد قوات الدعم السريع، وأوقفت تقدمها في محاور عديدة، واستعاد مناطق حيوية في العاصمة السودانية، الخرطوم، في تقدم ميداني وُصف بأنه الأكثر أهمية للجيش منذ بداية القتال. حسب تقرير لوكالة “رويترز”، تم نقل طائرات مُسيَّرة إيرانية من طراز “مهاجر” و”أبابيل”، تصنعها شركات تعمل تحت إشراف وزارة الدفاع الإيرانية، إلى السودان عدة مرات منذ نهاية العام الماضي عن طريق “قشم فارس إير” الجوية الإيرانية. يمكن القول: إن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسودان يحمل أكثر من بُعد جيوستراتيجي، لاسيما من الجانب الإيراني؛ حيث تقوم رؤيتها الإستراتيجية في المنطقة على توسيع نفوذها البحري وتعزيز وجودها العسكري، سواء من خلال القواعد، أو من خلال الجماعات والميليشيات العسكرية المرتبطة بها. تسعى طهران إلى استعادة توازن القوى العسكرية في الداخل السوداني، والبحث عن ظهير إقليمي جديد، وطي صفحة أزمة توتر العلاقات عام 2016، وتعزيز الحضور في منطقة البحر الأحمر. كما تسعى إيران إلى إيجاد موطئ قدم في البحر الأحمر من خلال نيتها بناء قاعدة بحرية في بورتسودان، والتغلغل في القرن والساحل الإفريقي انطلاقًا من السودان(16).
وتشير بعض التقارير إلى حصول الحكومة السودانية على تعهدات من موسكو بإمدادات عسكرية ضخمة مقابل الحصول على ضمانات مؤكدة لإقامة القاعدة الروسية على سواحل البحر الأحمر، وامتيازات ضخمة في مجالي التعدين والزراعة. الاتفاقية الروسية-السودانية ستمنح موسكو نفوذًا وتأثيرًا على أمن البحر؛ مما يزيد من الفاعلية الروسية في القرن الإفريقي، وسينعكس ذلك على موسكو في الساحل الإفريقي(17).
وفي خطوة تهدف إلى تقييد الموارد العسكرية للقوات المسلحة السودانية، فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على قيادات عسكرية بارزة، على رأسها القائد العام للجيش ورئيس مجلس السيادة، وميرغني إدريس، مسؤول منظومة الصناعة الدفاعية، وآخرون. وفي الجانب الآخر، فرضت الخارجية الأميركية أيضًا عقوبات على قيادات رفيعة في الدعم السريع، على رأسها قائدها، محمد حمدان دقلو، وشقيقه، عبد الرحيم دقلو. وترى الولايات المتحدة الأميركية أن العقوبات على قادة عسكريين من الدعم السريع متورطين في انتهاكات حقوق الإنسان وارتكاب جرائم ضد الإنسانية تهدف إلى إرسال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع الانتهاكات والجرائم. وتأتي هذه الخطوة بعد أن فشلت كل المساعي السعودية-الأميركية في إنجاح منبر جدة التفاوضي بين الجيش السوداني والدعم السريع(18).
السيناريوهات المحتملة
في ظل دخول الحرب عامها الثالث على التوالي دون انقطاع، وإصرار الطرفين على تحقيق الانتصار والحسم العسكري، تبدو مسألة إيجاد تسوية للأزمة قضية بعيدة المنال. وفي ظل اعتماد الجيش السوداني على الخيار العسكري، مستندًا إلى الفصائل التي تقاتل معه، وانفتاح سلاسل الإمداد والتموين، سنستعرض السيناريوهات المحتملة للحرب في السودان لعامها الثالث.
السيناريو الأول: الحسم العسكري
يعد هذا السيناريو الأكثر احتمالًا. مؤخرًا، استطاع الجيش السوداني تحقيق انتصارات متتالية ومتسارعة في كل من ولايتي سنار والجزيرة، وبذلك أحكم السيطرة على كل مدن وقرى الجزيرة وسنار، وأصبحت ولاية النيل الأبيض شبه خالية من الدعم السريع بعد استعادة السيطرة على مدينة القطنية، التي شهدت سلسلة من الجرائم والانتهاكات إبان سيطرة الدعم السريع عليها.
أعتقد أن معركة وسط الخرطوم هي الأشرس والأكثر تعقيدًا؛ حيث تضم مقارَّ المرافق الحكومية والوزارات السيادية، بما فيها القصر الجمهوري. لذا، فإن إحكام السيطرة عليها من قِبل الجيش سيكون بمنزلة رمزية للحكومة ومفتاح النصر لاستعادة كل من مناطق شرق النيل وجبل أولياء.
باعتبار أن الجيش سيتحرر من قيود القتال داخل المدن، التي حدَّت من قدرته على استخدام ما لديه من أسلحة ومدفعية ثقيلة، فإن التركيبة العرقية والقبلية لإقليمي دارفور وكردفان، وإرث الصراع الدامي، ودوافع الثأر والانتقام، ستجعل فرص تراجع القوات المشتركة محدودة. وفي الجانب الآخر، سيعزز ذلك فرضية انقسام الدعم السريع والفصائل المتحالفة معه، كما حدث في حركة العدل والمساواة بقيادة سليمان صندل. بناءً على ذلك، سيظل الدعم السريع مطاردًا، لا يشكل أي مهدد أمني، ويتمركز في بعض مناطق دارفور شأنه شأن الحركات المسلحة في السنوات الأخيرة من حرب دارفور(19).
السيناريو الثاني: التقسيم
يعد هذا السيناريو كارثيًّا بالنسبة للسودان؛ حيث يؤدي إلى حالة من الانهيار وتصدع وتمزق الدولة السودانية على غرار ما حدث في الصومال وليبيا؛ حيث ينعدم وجود السلطة المركزية، وتصبح أجزاء من الدولة تحت سيطرة الدعم السريع وحلفائه، لاسيما في دارفور وكردفان. يسعى الدعم السريع إلى توطيد نفوذه من خلال الإعلان السياسي الذي تم إطلاقه في نيروبي، في 23 فبراير/شباط 2025، بمشاركة بعض الفصائل المسلحة والقوى السياسية، وإعلان حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع على غرار النموذج الليبي. وإن حدث ذلك، فسيكون الخطوة الأولى نحو التقسيم الشامل، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن الحركة الشعبية (جناح الحلو) تتبنى أفكارًا انفصالية في حال عدم إقرار العلمانية خيارًا للحكم. بالإضافة إلى ما سبق، يتيح هذا السيناريو اتساع نطاق التدخلات الخارجية؛ مما يعزز من دوافع الانفصال لكن لن تستطيع أي حكومة يتم تشكيلها في دارفور أو جنوب كردفان أن تحقق أي نجاحات على كافة الأصعدة لاسيما في يتعلق بتوفير الخدمات الأساسية كالأمن والتعليم والصحة..إلخ؛ حيث أخفقت الإدارات المدنية التي شكَّلها الدعم السريع في كل من مدني، ونيالا، وزالنجي، والجنينة، والخرطوم(20).
السيناريو الثالث: التسوية
يعتمد هذا السيناريو على قيام المجتمع الدولي، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار بالضغط على طرفي الصراع في السودان للجلوس إلى طاولة التفاوض وإيقاف القتال. قادت السعودية، بالتعاون مع الولايات المتحدة، محاولات عديدة لرأب الصدع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ونجحت في إتمام أكثر من هدنة عقب استضافة اجتماعات للمتنازعين بمدينة جدة، لكنها أخفقت في تحقيق اختراق كبير يؤدي إلى وقف القتال بشكل دائم.
ومن المبادرات الإقليمية أيضًا، تبرز مبادرة المنظمة الحكومية الدولية للتنمية في شرق إفريقيا “إيغاد”؛ حيث أعلنت عن تشكيل لجنة رباعية لبحث إنهاء القتال ومعالجة الأزمة في السودان. إلا أن المبادرة لم تنجح بعد في عقد اجتماعات مباشرة بين طرفي الصراع، خاصة مع اعتراض الحكومة السودانية على رئاسة كينيا للجنة الرباعية، التي تضم جنوب السودان وجيبوتي والصومال.
أعتقد أن منبري جدة والإيغاد يمكن أن يسهما بشكل فعال في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، سواء كانوا عسكريين أو سياسيين، لاسيما أن الاتحاد الإفريقي عقد جلسات مطولة لوضع خريطة طريق للأزمة السودانية، إلا أنها لم تمضِ قدمًا نحو التوافق الوطني(21).
خاتمة
تعكس الانتصارات المتتالية التي يحققها الجيش السوداني على الدعم السريع تحول ميزان القوى العسكرية لصالح الجيش، كما أن خطط الدفاع عن مواقعه، التي تبنَّاها منذ بداية الحرب، أثبتت نجاعتها وفعاليتها. ورغم أن كل المؤشرات تؤكد أن الدعم السريع سيتراجع، وسيكون مصيره كمصير الحركات المسلحة التي تمردت على الدولة السودانية سابقًا؛ حيث سيظل مطاردًا في أطراف السودان، إلا أن اليوم التالي للحرب سيمثل تحديًا كبيرًا.
يكمن التحدي في العلاقة بين الجيش وحلفائه من الحركات المسلحة، وكذلك بين القوى السياسية، فيما يتعلق بمسألة السلطة واستكمال هياكل الحكم؛ حيث يسعى كل طرف إلى الاستئثار بها. لذا، أعتقد أن اليوم التالي للحرب سيكون بمنزلة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار.
وفي هذا السياق، فإن الحل الأمثل للأزمة السودانية بعد الحسم العسكري يتمثل في الانفتاح على حوار سوداني/سوداني، يضع التصورات العامة لقضايا السلطة، وشكل الدولة، ونظام الحكم، وعلاقة الدين بالدولة. وأعتقد أن البرلمان التأسيسي سيكون قادرًا على التوصل إلى تفاهمات، لأنه يمثل الإرادة الشعبية. فإذا لم تتوافق القوى السياسية على ذلك، ستظل الأزمة عالقة دون حل.