
ثمة وجوهٌ لا تغيب، وأرواحٌ تسكن فينا، حتى وإن غاب أصحابها خلف ستائر الزمن. قد تفرقنا الأيام، لكن بعض الأسماء تظل محفورةً في القلب، لا تمحوها المسافات، ولا ينال منها النسيان. ومن بين هؤلاء، بل في القلب منهم، يقف محمد نوح، ليس كذكرى عابرة، ولا كصورة في أرشيف الأيام، بل كنبضٍ لا يزال حيًا في وجداني، وكظلٍّ لا يفارق روحي، وكصوتٍ يردد في أعماقي أغنياته، وأفكاره، ووصاياه التي لم تبارحني يومًا.
كان صديقي، وأستاذي، وأبي الروحي، كان أكثر من مجرد فنانٍ أو مفكرٍ أو سياسيٍّ مخضرم، كان روحًا تمشي على الأرض، يعزف على أوتار القلوب، ويخطُّ بألحانه وفكره ووجدانه تاريخًا من النضال والحب والحرية. لم يكن مجرد رئيس لجنة الثقافة في حزب الغد وحزب غد الثورة، بل كان ركنًا أصيلًا في تكوينه، وأحد مفكريه العظام، الذين لم يكتفوا بالتنظير، بل عاشوا مبادئهم وأحلامهم بحسٍّ صادق، ونبضٍ لا يعرف المساومة.
كنتُ أضحك من أعماق قلبي حين كنا نسير معًا في المؤتمرات أو شوارع باب الشعرية والموسكي والأزبكية، فيندفع البعض من محبيني ومناصريّ ليهتفوا لنا معًا بعبارة واحدة: “عاش أيمن نوح!”
خطأ بسيط، ربما غير مقصود، لكنه كان يسعدني ويضحكني، ويعبر عن حقيقةٍ دفينة في داخلي: أنني كنت أراه جزءًا من روحي، وكان يراني امتدادًا له. كان في مقام الأب الذي منحني من روحه، ومن علمه، ومن فنّه، حتى باتت مشاعري تجاهه أعمق من أن توصف، وأقرب إلى صلة الدم التي لا يفرقها شيء.
لم يغادرني يومًا، لم يغب صوته، ولا أفكاره، ولا ضحكته التي تحمل بين ثناياها حكمة السنين ومرارة التجارب. لا زلت أراه في زوايا الذاكرة، وأسمع صوته في لحظات الصمت، وأستعيد كلماته كلما اشتدت بي الأيام. وفي لحظات الحنين العميقة، ألجأ إلى جلبابه، ذاك الجلباب الذي تركه لي في منزلي منذ أكثر من ربع قرن، وكأنه كان يعلم أنني سأحتاج إليه يومًا، لا لأرتديه فقط، بل لأحتضنه وكأنه جزءٌ منه ما زال حيًا.
حملت هذا الجلباب معي من بيتٍ إلى بيت، ومن بلدٍ إلى بلد، كمن يحمل ذاكرة وطن، أو قطعةً من روحه لا يريد أن يفقدها. كلما لمسته، شعرت أن نوح لا يزال هنا، يبتسم لي بتلك النظرة التي كانت تحمل في أعماقها ألف رسالة، ألف معنى، وألف حكاية.
لم يكن محمد نوح مجرد موسيقي، بل كان ثائرًا يعزف النضال، وفيلسوفًا يكتب الحرية بالنغم والكلمة. كانت أغانيه تتنفس بحب الوطن، كانت موسيقاه صرخةً ضد الظلم، وكانت كلماته نشيدًا لا يموت. لم يكن فنه وسيلةً للكسب، بل كان رسالةً مقدسة، يحملها كما يحمل المجاهد رايته، ويؤمن بها كما يؤمن العاشق بحبه. كان واحدًا من هؤلاء الذين يصنعون التاريخ بصوتهم، بألحانهم، بأفكارهم، وبروحهم التي لا تعرف الخنوع.
لقد رحل محمد نوح، لكنه لم يمت. إن من يزرع الحب والفكر والنضال لا يموت. من يترك أثرًا في القلوب لا يُنسى. من يعيش حكايةً يرويها الزمن، يظل خالدًا حتى وإن غاب جسده عن هذه الحياة. وأنا، أيمن نوح، كما أطلق عليَّ الناس يومًا، ما زلت أحمل ذكراه، وأردد أغنياته، وأحتضن جلبابه كأنه وطنٌ صغيرٌ يأويني حين تضيق بي الأيام.
رحمك الله يا نوح… كم أشتاق إليك، وكم أفتقدك!
#محمد_نوح#أيمن_نور#حكايات_الذاكرة#فن#نضال#حرية#حب#أبوة_روحية