مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب : ورقة من مذكّراتي مسلسل “النص” بين المكوث وحيدا والعبور

كم هو غريبٌ هذا الشعور، المزمن، بالوحدة! ليست مصادفة أن تولد طفلًا بلا إخوة، فتعيش طفولتك بين حنان الصمت، وإصغاء الآخرين لطلباتك دون أن تنطق بها.

تكبر وتصادق ظلالك، تحادث ألعابًا لا تردّ، وتأنس بعالم لا يشاطرك أحد أسراره. تشبُّ شابًا تحمل هموم الرجال، تعيش رجولتك بملامح الشيخوخة، وتقطع دروب العمر محملًا بذكريات لا يشاركك فيها أحد، كأنك شاهدٌ على زمن لم يعُد يُذكر، وتاريخٍ يتوارى خلف غبار الأيام. وكأنك عدّاءٌ في سباق المشي البطيء، تصل إلى المحطات قبل الرفاق بعقدين من الزمن!

أصعب أنواع الوحدة أن يحيط بك الماضي كموجٍ يلاطم صخور النسيان، تشعر أنك الناجي الوحيد من حريقٍ لم يلحظه أحد.

تمضي السنوات، فتجد نفسك غارقًا في ذكرياتٍ لا يفهم قيمتها إلا من عاشها، من تشرّب لحظاتها وارتوى من نبعها، لكنها اليوم لا تعدو كونها أوراقًا صفراء تتساقط في رياح العمر، لا تحمل إلا ظلال من كانوا هنا ثم رحلوا.

في زوايا الذاكرة، أغنياتٌ قديمة، بعضها ينتمي إلى زمن أم كلثوم، وأخرى إلى إبداعات حبيبي، وصديقي وأستاذي محمد نوح، وبعضها ينتمي إلى ذكرياتي مع الشيخ إمام، أو إلى كلمات وصوت علي الحجار، ومحمد منير.

كلها بعبقها تسكن أركان منزلي في إسطنبول، تعيد إلى القلب نبضه وإلى الروح وطنها القديم.

تسمعها كأنك تفتح نافذةً على أيام كنتَ فيها مفعمًا بالحياة، فترى نفسك ذلك الفتى الذي كان يضحك بلا حذر، يبكي بلا خوف، ويحلم بلا قيود.

لكن سرعان ما تغلق النافذة، فتدرك أن من كانوا يشاركونك تلك الألحان قد مضوا، ولم يبقَ منها إلا صداها الذي يسمعه قلبك وحده… وجلباب محمد نوح الأبيض الفضفاض الذي ينتقل معي من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن، أشم فيه رائحته كلما استبدّ بي الشوق إليه.

بين هذه الذكريات، تأخذني صورة أخرى من زمن لم أعش فيه، لكنني عايشته وعرفته من خلال رجل عظيم كان لي أبًا روحيًا وأستاذًا وأيقونةً لنبل السياسة… إنه فؤاد سراج الدين، الذي كان يحكي لي عن القاهرة وهي ترتدي ثوبها الأنيق، عن شوارعها التي كانت تليق بالأقدام التي تمشيها، عن أناقة الرجال يوم كان الجاكيت الكروزاون ذو الأزرار الكثيرة، المصطفة على الجانبين والمنديل في جيب المعطف أكثر بلاغةً من كثير من الكلمات.

هذه التفاصيل التي كنت أسمعها من فؤاد سراج الدين تلح علي بشكل غريب وأنا أشاهد في رمضان 2025، مسلسل “النص” للفنان المبدع أحمد أمين.

وكأن الزمن يستعيد شيئًا من بريقه المفقود، وكأن بعض الجمال يأبى أن يندثر، فيعود إلينا ولو في شكل مسلسل تنتجه “المتحدة”. أو موضة يسمونها الموضة “الرجعية”، لكنها بالنسبة لي ليست رجعية، بل هي لمحة من زمن جميل تمنيت أن أعيش فيه، أو أن أكون بعضًا منه!

أتذكّر بيتي في الزمالك، وبيت محمد نوح الذي كان لصيقًا للبيت الذي يسكنه الرئيس محمد حسني مبارك حيث كان يجمعنا نوح في لقاء فكري أسبوعي نتداول فيه الأخبار والأفكار والنكات والضحكات التي كانت تنفجر كشرارات الضوء في عتمة الأيام. كنا نضحك حتى ندمع، نضحك حتى تتقطع أنفاسنا، حتى يصبح الفرح والإبداع لغتنا الوحيدة.

الزمن سرق الضحكات، وحوّلها إلى أصداءٍ بعيدة، لا يسمعها إلا من كان يومًا جزءًا منها.

كنتُ صانع سياسة، أتقن فن الصحافة ونحت الكلمات والمعاني، أجيد رسم الطريق، لكن ما قيمة أن تكون سياسيًا في وطن لا يعرف معنى السياسة؟
وطنٌ يرى السياسي كندبةٍ قديمة، يتألم كلما لمحها، لكنه لا يملك أن يمحوها.

كانت السياسة والصحافة مهارةً تُقدَّر في زمنٍ مضى، لكنها اليوم تُعدُّ عبئًا، كمهارة الترزي أو صانع الطرابيش، في زمنٍ لا يعترف بالقلم، ولا يقرأ الكلمة.

زمن لا يُعلي من شأن الفكرة، لكنه يعطي الملايين كل شهر لفتاة تتعرى وتتمايل في بث مباشر، على التيك توك أو اليوتيوب، لتربح في شهر واحد، ما لم يجمعه طه حسين، والعقاد، ومصطفى أمين، والتابعي، وفهمي هويدي مجتمعين من مبيعات كتبهم!

أشعر في رمضان 2025 أني أسيرُ على ضفاف النهر، ذاك النهر الذي عبره الكثيرون قبلي، حاملين أحلامهم وخيباتهم، تاركين وراءهم آثارًا تمحوها الأمواج، إلا أثرًا واحدًا يبقى محفورًا في القلوب.

ربما في العبور أجد ما لم أجده في المكوث.

وربما يكون لي نصيبٌ في أن أترك بصمتي، على صفحات التاريخ، أو على الأقل في ذاكرة الذين أحببتهم، في قلوب الذين يعرفون أن هناك من مشى هذا الطريق، حاملًا وحدته كرفيق، وذكرياته كزادٍ للطريق.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى