عربي ودولى

رمضان في العراق.. سحر التقاليد الراسخة والعادات الأصيلة

تتعانق الأجواء الروحية مع التقاليد الراسخة في العراق خلال شهر رمضان، حيث يبقى الناس متمسكِينَ بتراثهم الثقافي ويستعدون للشهر الكريم بروحٍ من الفرح والسرور.

تاريخ العراق الذي يمتد لأكثر من عشرة آلاف عام، يشهد على الثراء الحضاري الذي أثرى تجارب أبناء الأمة. من خلال رواية ابن جبير التي تسلط الضوء على الجمال الروحي لبغداد، يتضح أن شهر رمضان يشكل حلقة وصل بين الماضي والحاضر، حيث تنتشر أجواء الفرح في كل زاوية. الأسواق العراقية، ورغم التحديات الاقتصادية وغلاء الأسعار، تبقى ملاذاً للزوار، الذين يجدون فيها ضالتهم خلال هذا الشهر المبارك.

يعتبر سوق المنصور وسوق الشورجة مركزين حيويين يجمعان بين المتعة والتقاليد. يتوجه المواطنون إليهما لشراء مستلزمات الإفطار والسحور، حيث تفوح رائحة البهارات والحلويات في الأجواء. تعكس نسمات هواء مايو القائظ الروح المميزة لشهر رمضان، ويُقدم الماء البارد كخيار منعش للمارة.

“رمضان في العراق هو تجسيدٌ للترابط الاجتماعي والاحتفاء بالتقاليد. على الرغم من المصاعب، تتحول الأسواق إلى مواقع للاحتفال والمشاركة”، يقول أحد الباعة في سوق الشورجة..

المائدة العراقية: تراث الطهي الإماراتي في رمضان وأقدم وصفة طعام في التاريخ

تحتوي المائدة العراقية في شهر رمضان على تراث غني من الأطباق التي تعكس عراقة المطبخ العراقي وتاريخه العميق. فقد أثبتت الأبحاث وجود أقدم وصفات الطهي في العالم، مما يدعو للإعجاب والتقدير لتاريخ هذا المطبخ الفريد.

يعود استخدام الكتابة المسمارية التي ظهرت في أرشيف جامعة “ييل” بالولايات المتحدة، إلى عام 1750 قبل الميلاد، حيث تضم هذه الألواح مجموعة من الوصفات القديمة التي لا تزال حية حتى اليوم، مثل التشريب وخبز العروك. ويعتبر هذا الاكتشاف دليلاً على أن المطبخ العراقي يمتلك جذورًا عريقة تمتد لآلاف السنين، مما يُعد إنجازًا ثقافيًا عظيمًا.

استضافت الأراضي العراقية فيما مضى عددًا من اعظم الحضارات الإنسانية مثل السومرية والبابلية والآشورية، واستمر ازدهار هذا المطبخ خلال العصر الإسلامي، وخاصة في العصر العباسي الذي كانت بغداد فيه عاصمة الخلافة. وقد جعل هذا التداخل الثقافي المطبخ العراقي مميزًا، حيث تأثر بالمأكولات والتقاليد من ثقافات مجاورة كالمطبخ التركي والإيراني والسوري.

على مائدة الإفطار العراقية، يلاحظ الزائر تنوع الأطباق، حيث يتبادل الجيران والأقارب الأطباق المعدة، وجلسات الإفطار لا تكتمل بدون هذه العادة القديمة التي تعزز الروابط الأسرية. وذلك يدل على الاهتمام الذي يوليه العراقيون للترابط الاجتماعي والقيم الأسرية.

“المطبخ العراقي يمثل ذاكرة جماعية وحضارية تتجاوز الزمن”، يقول الشيف العراقي المعروف، حسين الجبوري. “نحن نحتفي بتراثنا من خلال الطعام، ونعتبره جزءًا أساسيًا من هويتنا، خصوصًا في شهر رمضان الذي يجمع العائلات معًا.”

ألواح جامعة ييل

الإفطار الجماعي في المساجد: تجمع ينسج أطباق المحبة والكرم العراقي

تتجلى روح التعاون والمحبة في أرجاء العراق، حيث يحرص المصلون على مشاركة لحظات الإفطار خلال شهر رمضان بعد صلاة المغرب. ليس فقط بين الأسرة، بل يمتد هذا التلاحم ليشمل المجتمع بأسره، حيث يملأ الأجواء عطر الأطباق التقليدية في المساجد.

تعتبر عادة حمل طعام الإفطار إلى المساجد من التقاليد العريقة، إذ يقف المصلون معاً عند أذان المغرب حول مائدة غنية بأصنافٍ متعددة. يعتمد المطبخ العراقي على مكونات طبيعية مثل الحبوب واللحم، حيث تُعد الأطباق بتقنيات طهي بطيئة تعكس تاريخاً طويلاً من الإبداع والحنكة. ومن بين الأطباق الأكثر شهرة، يتصدر حساء العدس مائدة الإفطار، بالإضافة إلى طبق “المسكوف”، الذي يعتبر رمزاً من رموز المطبخ العراقي.

يعود تاريخ “المسكوف” لأكثر من 4500 عام، حيث تم اكتشاف بقايا عظام الأسماك في أواني أثرية تعكس طريقة الطهي الحالية. يتم تحضير هذا الطبق المميز عن طريق تشقّ السمكة من جهة الظهر، وتنظيفها، ثم تعليقها على أوتاد خشبية أو حديدية لتُشوى على نار هادئة، مما يمنحها طعماً فريداً ومميزاً.

“إن الإفطار في المساجد لا يمثل مجرد وجبة طعام، بل هو أسلوب حياة يجمع الناس على قيم التعاون والمشاركة”، يقول أحد المصلين. “إن الأطباق التي نقدمها تعكس تراثنا الثقافي وتاريخنا العريق”.

نكهات العراق: الدولمة والدليمية تضفيان سحر المذاق على المائدة العربية.

تتألق المائدة العراقية بمجموعة من الأطباق الفريدة التي تعكس غنى وتعقيد التراث الثقافي للبلاد، ومن أبرز هذه الأطباق “الدولمة” و”الدليمية”، اللذان يعكسان المذاق الفريد لمختلف المناطق العراقية.

تعتبر الدولمة من الأطباق الرائجة والمعروفة على المستوى العربي، حيث تتكون من خضراوات محشوة بالأرز المتبل بالبهارات العراقية، الذي يخلط مع اللحم المفروم وصلصة الطماطم. يتم طهي هذه الخضراوات في إناء عميق محكم الإغلاق، حيث توضع أضلاع الغنم في القاع، مما يضيف نكهة غنية إلى الطبق والمحافظة على العصارة. تختلف طرق إعدادها حسب المحافظات، فتضفي المحافظات الشمالية المزيد من معجون الطماطم، بينما تميل محافظات الوسط والجنوب إلى تقديمها ببهارات حارة مميزة.

أما في محافظة الأنبار، فيشتهر الأهالي بطبق “الدليمية”، الذي يحمل في طياته تاريخ وثقافة قبائل دليم. يتكون هذا الطبق من أرز العنبر المخلوط بالمكسرات فوق طبقة من الخبز المغمور في مرق اللحم، ويُزيَّن بقطع لحم الغنم من الأعلى، مما يجعله خيارًا لذيذًا ومميزًا في المناسبات.

“يتنوع المذاق العراقي كما يتنوع تراثه الثقافي، لذا فإن كل طبق يعكس تاريخ منطقة بأكملها”، تقول الطاهية العراقية الشهيرة آمنة الحسن. “إن الدليمية والدولمة لم تعكسا فقط مهارات الطهي، بل ترمزان للجودة والتنوع في المكونات.”

تشتهر محافظة الأنبار بطبق مميز هو “الدليمية”، وتأتي التسمية نسبة إلى قبائل دليم.

الأطباق العراقية التقليدية: فخر المطبخ العربي في رمضان ومناسبات العائلة

تعيش الأجواء الرمضانية الاستثنائية في العراق، حيث تتجلى تقاليد الطعام الفريدة التي تُقدم خلال هذه الفترة المباركة. من بين الأطباق التي لا يمكن استغناء عنها في الولائم وتجميعات العائلات، نجد طبق القوزي أو الأوزي، الذي يُعتبر رمزاً للضيافة العربية الأصيلة، بالإضافة إلى أطباق أخرى مثل كباب أربيل والباجة الموصلية.

طبق القوزي أو الأوزي يتطلب تحضيراً دقيقاً ومثابرة، حيث يتم طهي لحم الخروف ببطء على نار هادئة قد تمتد ليوم كامل، ليكتسب نكهات مميزة. يُحشى الأوزي بالأرز المتبل بمزيج من التوابل مثل الملح والفلفل الأسود والأبيض، مع إضافة ورق الغار والقرفة. ويمتاز الطبق بتزيينه بالمكسرات مثل الصنوبر واللوز والكاجو، مما يضفي عليه لمسة من الفخامة.

أما كباب أربيل، فلم يتميز فقط بجودة اللحم، بل أيضاً بنسبة الدهون المرتفعة التي تمنحه ملمساً هشاً ولذيذاً. يُطهى هذا الطبق على نار عالية وسريعة للحفاظ على قوامه وطعمه الشهي.

بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر الباجة الموصلية من الأطباق واسعة الانتشار والتي تُقدَّم بكثرة، حيث تحتوي على رأس الخروف أو العجل والأقدام، المعروفة في بعض الدول العربية بالكوارع أو المقادم. يقدم هذا الطبق مع المرق والخبز، ليجسد مفهوم الكرم والضيافة.

كما يقول أحد الطهاة العراقيين: “الأطباق العراقية ليست مجرد طعام، بل هي تجسيد للذكريات العائلية وتقارب الأرواح. في كل لقمة، نشعر بتاريخنا وثقافتنا”.

وللحلوى مكانة خاصة بين العراقيين، حيث يتفنَّنون في إعدادها سواء في المنازل أو في محلات الحلويات الشهيرة، ومن أشهر أطباق الحلوى الرمضانية في العراق حلاوة التمر التي تصنعها أغلب العائلات استعدادا للشهر الفضيل، وتتكون من مزيج من التمر والسمن، وقد يضاف إليها جوز الهند واللوز وحبوب الينسون. وهناك كذلك طبق “من السما”، وتُصنع من مادة المن، وهي عبارة عن مادة دبقة تُجمع من الأشجار في منطقة جبال بنجوين في السليمانية بشمال العراق، وبعد جمعها تُذاب في المياه المغلية ويُضاف إليها المكسرات وحب الهال. هذا بالإضافة إلى أطباق الشعرية والبرمة وزنود الست والبقلاوة والزلابية التي يتفنَّن العراقيون في إعدادها خلال أيام شهر رمضان.

مشروبات رمضان: نكهات تقليدية تزين موائد العراقيين

تحتل المشروبات الرمضانية مكانة بارزة على مائدة الإفطار في العراق، حيث تعكس تقاليد غنية وعراقة نكهاتها. يعتبر عصير الزبيب، المعروف بشربات الزبيب، من أكثر المشروبات شعبية، حيث يتزاحم الصائمون على دكاكينه بعد يوم من الصيام الطويل.

تمثل شربات الزبيب واحدة من أهم مشروبات الإفطار، وتلعب دورًا مهمًا في امداد الجسم بالسوائل والسكر التي يحتاجها بعد فترة الصيام. كما يُعتبر مشروب “النومي بصرة” أحد الرموز الثقافية في العراق، الذي يحمل اسم المدينة البصرية التي اشتهر منها. يُصنع النومي بصرة من الليمون الأسود المجفف ويباع بعد تحضيره بنقعه مع السكر والماء.

علاوةً على ذلك، تُضفي عصائر مثل الرمان والتمر الهندي لمسة مميزة على المائدة الرمضانية، مما يجعلها مثالية لتجدد نشاط الصائمين. بعد الإفطار وصلاة التراويح، يجد العراقيون متعة في احتساء الشاي التقليدي، حيث تُعد جلسات الشاي مع الأصدقاء والعائلة تقليدًا متأصلًا في الثقافة العراقية.

في قلب هذه الطقوس يحمل الشاي التقليدي مكانة خاصة، إذ يتم تحضيره ببطء على الفحم مع إضافة حبوب الهيل، مما يمنحه مذاقًا فريدًا. تعود تسميات “الاستكان” و”السماور” إلى فترة الاحتلال الإنجليزي، حيث يعكس المزيج بين الثقافات الشغف بالضيافة العراقية الرفيعة.

إحياء تقاليد الشهر الفضيل: تاريخ القصخون وألعاب رمضان التقليدية في العراق

تشهد ليالي رمضان في العراق عودة ملحوظة للتقاليد العريقة التي أسرت القلوب على مر العصور، حيث تستعيد المدن العراقية أجواء الشهر المبارك عبر قصص الحكواتي أو “القصخون” وألعاب الجماعات التقليدية.

تُعتبر حكايات القصخون جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العراقية، حيث كان يجلس الحكواتي في المقاهي بين المئات، وتُرفع أصواتهم وسط جو من الإبهار والشغف والاستمتاع، لتسرد قصصاً مثل عنترية و”المياسة والمقداد” وحكاية مريم الزنارية. ولكن مع تطورات العصر الحديث، ومع دخول أداوت التسلية كالتلفاز والراديو، تراجع دور القصخون. ومع ذلك، هناك جهود حثيثة لإعادة إحياء هذه التقاليد العظيمة.

إضافة إلى ذلك، تُعتبر لعبة المحيبس واحدة من الألعاب الشعبية الأكثر شعبية، حيث يشارك فيها فريقان في تنافس ممتع لمحاولة اكتشاف مكان الخاتم المخفي. تترافق اللعبة مع ترديد الأهازيج والمربعات، مما يبعث الروح في ليالي رمضان. يجري تبادل الحلويات بين الفائزين والخاسرين، مما يضفي مزيدًا من الجاذبية والمتعة على هذه اللعبة التقليدية.

“إن إحياء تقاليد القصخون وألعاب رمضان يتيح لنا فرصة لتقوية الروابط الثقافية والاجتماعية بين الأجيال المختلفة. هي طريقنا للحفاظ على موروثنا الثقافي الثري”، يقول أحد منظمي الفعاليات الثقافية في العراق.

كما تشتهر مدينة كركوك بلعبة شعبية أخرى هي لعبة الصينية التي يتخللها الغناء سواء بالعربية أو الكردية، ويتنافس فيها فريقان كلٌّ منهما يتألف من 3 لاعبين، والهدف هو العثور على نرد مخفي أسفل فنجان نحاسي ضمن مجموعة من الفناجين الموضوعة في إناء كبير يسمى الصينية، ويفوز الفريق الذي يتمكَّن من العثور على النرد بعد أن يبحث في أقل عدد من الفناجين.

العراق يحتفل بتقاليد المسحرجي والأغاني الرمضانية في ليالي الشهر الفضيل

تجسد ليالي رمضان في العراق أجواء خاصة من البهجة والترحيب، حيث يستيقظ الناس على صوت المسحرجي، الذي يُعتبر رمزًا للصبر والكرم في هذا الشهر المبارك. يقوم المسحرجي بجولة في الأحياء مرددًا “سحور سحور سحور” بينما يحمل على كتفه طبلة ضخمة، ليوقظ الناس لتناول السحور.

تأسست مكانة المسحرجي كجزء أساسي من الطقوس الرمضانية في العراق، حيث أصبح اليوم يتضمن فرقًا صغيرة من المسحراتية بدلاً من فرد واحد، مما يعكس التقاليد الجماعية التي يتمتع بها الشعب العراقي. يتم استقبال هؤلاء الضيوف بتقديم وجبات السحور، مما يُظهر كرم الضيافة الذي يُعرف به العراقيون.

ومع تقدم الشهر، يشارك الأطفال في عادة رمضانية تُعرف باسم “الماجينا”، والتي تُعتبر تقليدًا مميزًا يحمل معه الأغاني الفلكلورية. يتراقص الأطفال ويُنشدون “ما جينه يا ما جينه” بمزيج من الحماس والبراءة، مما يجعل هذه اللحظات تذكاراً لا يُنسى يشعر الجميع بفرحته.

“هذه العادات تُظهر لحمة المجتمع وكرم ضيافته”، قال أحد المسحرجيين، مضيفًا “رمضان هو شهر تكاتف الأسرة والأصدقاء، ونحرص على أن نظل محافظين على هذه التقاليد.”

ويدور الأطفال في الشوارع يُنشدون هذه الأغنية ويوزع عليهم الكبار الحلوى، ويقال عن أصلها إنه يعود إلى الاحتفال بولادة الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه وزَّع الحلوى على الأطفال احتفالا بهذه المناسبة. ويطوف الأطفال في ليالي 13 و14 و15 من رمضان يرددون الأهازيج ويرتدون الملابس الشعبية ويجمعون المكسرات والحلوى من بيوت الجيران والأهل.

وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان، تبدأ البيوت في التزيُّن استعدادا لاستقبال عيد الفطر المبارك، وتصنع ربات البيوت أنواع الحلويات الخاصة بالعيد، وأشهرها الكليجة، وهي واحدة من أشهر أنواع المعجنات التي توارث أهل العراق صنعها، حتى إن ابن بطوطة الذي توفي عام 779هـ كان قد ذكرها في كتابه الشهير “تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، في وصف مائدة أمير خوارزمي قائلا: “الدجاج المشوي والكراكي وأفراخ الحمام، وخبز معجون بالسمن يسمونه الكليجا، والكعك والحلوى”، وتُصنع الكليجة من الدقيق والسمن والسكر، وتُحشى بالتمر مع الهيل وماء الورد، أو السمسم والمكسرات.

في العراق، وكل دولنا العربية، يحاول الناس يوما بعد يوم أن يتكيفوا مع الواقع السياسي والاجتماعي المتغير، ومع القيود الاقتصادية المتزايدة، لكن يبقى رمضان في العراق مع ذلك حيا بتقاليده الراسخة وعاداته الأصيلة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى