
يقول الزعيم المناضل نيسلون مانديلا: إننا نقتل أنفسنا عندنا تضيق خيارتنا في الحياة”
عبارة تثير التأمل وإعمال العقل بأن الحياة ما زالت تُعطى الإنسان فرصا كثيرة للبحث عن حلول ومخارج لأزماته إلا أنه يُضيّق على نفسه عندما يَضيق أفقه وتنسد مدارك عقله ويستسلم للخيار الأسهل في حل مشكلاته فيهلك نفسه.
وقد تجلّت ترجمة تلك العبارة في حياة مانديلا إلى واقع عملي حين أعاد النظر في أفكاره النضالية وأدرك أن طريق السلم والحوار هو الأقرب إلى حل الأزمات بدلا من العنف والصدام، ليعلّمنا من خلال عصارة تجربة قاسية مر بها في السجون بسبب مكافحته لنظام “الأبرتهايد” أن الإنسانية التي نشترك فيها جميعاً يمكن أن تساعدنا على تجاوز الخطايا التي يرتكبها البعض منا.
وفي بعض الحقب التاريخية الفاصلة تحتاج الأمم لوحدة الصف وتكامل البنيان وتقوية السواعد لتتجاوز محنتها وتسمو بعظمتها في سماء التاريخ الإنساني رمزا للتسامح والاحتواء ومكارم الأخلاق، فلا تسود الأمم إلا بأخلاقها؛ يقول على عزت بيجوفيتش” كل هزيمة في العالم تبدأ بانهيار أخلاقي، وكل انتصار في العالم يبدأ بثبات أخلاقي.”
وما أحوج أوطاننا الآن في تلك الأوقات العصيبة الساخنة من نسيج اجتماعي أخلاقي متماسك، وصياغة رؤية سياسية منفتحة على الآخر تُصوّب الخطأ وتعظم من الصواب وتستفيد منه وتفسح المجال للمشاركة السياسية الواعية التى تقدم المصلحة العامة على الخاصة وتتخلى عن الطموح الشخصي في سبيل رفعة الوطن والدفاع عن أمنه القومي في ركب حضاري مفعم بالوطنية والإيثار.
وفي الأدبيات المهتمة بمسائل النزاع والسلام في العالم، تُعرّف المصالحة الوطنية بأنها سيرورة من الوفاق وطمأنة الرأي العام في أمة أو بلد ما، بعد حدث أليم يكون قد أصاب تاريخها الحديث، وبالتالي يأمن الجميع ضمن إطار من العيش المشترك في كنف الحرية والكرامة الإنسانية بعيدا عن الاستقطاب والمتاجرة.
عندما بدأ نيسلون مانديلا في كفاحه ضد العنصرية في جنوب إفريقيا كان شابا حدثا يفور الحماس بداخله، يقوده التعصب ويدفعه الغضب، وفي عام 1960 قامت مظاهرة في جنوب أفريقيا تطالب بالحرية والكرامة ومات 60 متظاهرا برصاص الشرطة فلجأ مانديلا حينذاك إلى العنف المسلح حتى قُبض عليه وسجن لمدة 24 عاما، وفي أثناء تلك الفترة سرعان ما انتبه واكتشف أن السلاح قد يكون وسيلة للقضاء على الأعداء لكنه لا يكون وسيلة لبناء وطن، فقال: “ستحقق في هذه الحياة بالرحمة أكثر مما ستحققه بالانتقام”.
وعقب خروجه من السجن لم يسمع لأحد ممن حاولوا أن يؤثروا عليه ليبدأ في تصفية خصومه الذين تسببوا في سجنه، بل كان شعاره التسامح والمصالحة كي يحرر أبناء وطنه من الظلم والعبودية، فتنازل عن حقه ولم يفكر في الانتقام لنفسه حتى تحول إلى رمز من رموز السلام في العالم.
لم يبخل مانديلا بنصائحه ونشر مبادئه حول العالم ليتعلم الجميع أن العنف لا يولد إلا العنف وأن الرحمة والتسامح دائما ما يحققا نتائج إيجابية تعود على الجميع بالأمن والسلام.
وبعد ثورات الربيع العربي نصح شعوب بعض الدول قائلا: لا بد من إعلاء مصلحة الوطن على المصالح الخاصة ووجوب القيام بمصالحة شاملة بين فرقاء الوطن، اقتداءً بموقف الرسول الكريم تجاه من آذوه وحاربوه حين قال لهم وهو في ذروة قوته: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
ومن مناقبه التاريخية الخالدة قوله للقاضي وهو يحاكمه: “لقد حاربت ضد الهيمنة البيضاء، وحاربت ضد الهيمنة السوداء، لقد أحببت المثل الأعلى لمجتمع ديمقراطي حر، يعيش فيه جميع الأشخاص معاً في وئام وتكافؤ في الفرص، إنه نموذج أتمنى أن أعيش من أجله وأحققه، وإذا لزم الأمر، فأنا مستعد للموت لأجله.”
فهل يعدم عالم اليوم من استنساخ ذلك النموذج مجددا، لربما خلص العالم من براثن الذل وانتهاك الكرامة الإنسانية، وعاشت المجتمعات على كلمة واحدة في أمن وسلام.