مقالات ورأى

إسلام الغمري يكتب: حتمية النصر.. عندما يتجذر الحق في أرض الشعوب

في كل صفحة من صفحات التاريخ، ثمة درسٌ لا يُمحى: الحق لا يضيع ما دام وراءه مطالبون، والشعوب التي تتجذر في أرضها لا تُقهر. فلسطين، تلك الأرض المقدسة التي تروي ترابها قصصًا من دماء وصمود، تقف اليوم شاهدةً على هذه الحقيقة الأزلية. ليست المسألة مجرد صراع على حدود أو أسماء على الخريطة، بل هي معركة وجود، معركة إرادة، معركة إيمان بشعبٍ رفض أن يُمحى من ذاكرة الأزمان.

منذ أن وطأت أقدام الاستعمار أرض فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت رحلة المقاومة. لم يكن وعد بلفور مجرد ورقة سياسية، بل كان إعلانًا لمحاولة اقتلاع شعب من جذوره. لكن الشعب الفلسطيني، بثورته عام 1936، وبنكبته عام 1948، وبنكسته عام 1967، أثبت أن الأرض لا تُنتزع من قلب من وُلِد عليها. كل حجر أُلقي في الانتفاضة الأولى، وكل صرخة ارتفعت في سماء غزة المحاصرة، كانت رسالة تقول: نحن هنا، وسنبقى.

إن تجذر الشعوب في أرضها ليس مجرد ظاهرة جغرافية، بل هو فعل إنساني عميق، ينبع من الارتباط الروحي والتاريخي الذي لا يمكن لأي قوة أن تقطعه. عندما نرى اليوم أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني يتشبثون بحق العودة، رغم مرور عقود على النكبة، ندرك أن هذا التجذر ليس مجرد حنين، بل هو إيمانٌ بأن الحق لا يموت. وعندما نشهد غزة، تلك البقعة الصغيرة التي تُدمر وتُعاد بناؤها مرةً بعد أخرى، نفهم أن الصمود ليس خيارًا، بل هو قدر الشعوب التي تقاتل من أجل وجودها.

لكن وسط هذا الصمود، تبرز الحقيقة الأكثر مرارة: العالم الذي يتغنى بالمبادئ الإنسانية يصمت أمام الظلم الفلسطيني. المجتمع الدولي، بمؤسساته وقراراته، يدين المقاومة ويبرر الاحتلال، يتحدث عن السلام بينما يغض الطرف عن المستوطنات التي تبتلع الضفة الغربية، وعن الحصار الذي يخنق غزة منذ 2007. في يوليو 2024، أعلنت محكمة العدل الدولية أن الاحتلال غير قانوني، لكن أين التطبيق؟ أين العدالة؟ إنها ازدواجية المعايير التي باتت عنوان العصر، حيث تُدعم مقاومة في أوكرانيا بينما تُسحق أخرى في فلسطين.

مع ذلك، تبقى الحقيقة التاريخية واضحة: ما ضاع حق وراءه مطالب. لم تكن النكبة نهاية المطاف، بل بداية مسيرة طويلة. كل طفل وُلِد في مخيمات لبنان أو الأردن، يحمل مفتاح بيته القديم، هو مطالبٌ جديد. كل شاب في جنين أو نابلس يواجه الدبابات بصدره العاري، هو صوتٌ يرفض النسيان. وكل أم في غزة تبني من ركام بيتها أملًا جديدًا، هي دليلٌ على أن الانتصار ليس مسألة وقت، بل مسألة إرادة.

لقد شهد التاريخ انتصارات عدة للشعوب التي قاومت الاحتلال والطغيان. انتصار الفيتناميين على الاحتلال الأمريكي عام 1975، وخروج الهند من قبضة الاستعمار البريطاني عام 1947 بفضل نضال شعبي واسع، وسقوط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا عام 1994 بعد مقاومة طويلة بقيادة نيلسون مانديلا، كلها شواهد تؤكد أن الشعوب التي تصر على حقوقها تنتصر في النهاية.

في كل عصر، حاول الظالمون كسر إرادة الشعوب، لكنهم فشلوا. سقطت إمبراطوريات، واندثرت جيوش، وبقيت فلسطين حاضرة في ضمير التاريخ. إن انتصار الحق حتمية لا تُرد، لأنه ليس مجرد انتصار عسكري، بل انتصار إنساني يتجاوز الحدود والأجيال. اليوم، ونحن نشهد دمار غزة وصمود الضفة، نرى بوضوح أن الشعب الفلسطيني ليس مجرد ضحية، بل هو بطلٌ يصنع نصره بيده، متمسكًا بأرضه، مؤمنًا بحقه.

فلسطين ليست استثناءً، بل هي القاعدة: الشعوب التي تقاوم لا تُهزم. ومهما طال الظلم، فإن فجر العدالة سيطلع، لأن ما ضاع حق وراءه مطالب، ولأن التاريخ لا يكذب.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى