مقالات ورأى

معصوم مرزوق يكتب: مش كتير على فلسطين

كنتُ سفيرًا في أوغندا في مارس 2002، وخرجتُ على رأس مظاهرة في العاصمة كمبالا، ومعي عكنتُ سفيرًا في أوغندا في مارس 2002، وخرجتُ على رأس مظاهرة في العاصمة كمبالا، ومعي عدد كبير من السفراء العرب والأفارقة وجماهير غفيرة، للتنديد باقتحام القوات الإسرائيلية للضفة الغربية وحصار ياسر عرفات في مقر قيادته.ليس هذا فحسب، بل عقدتُ اجتماعات في السفارة مع مجموعة السفراء العرب ومجموعة السفراء الأفارقة، واتفقنا على خطة تحرّك اشتملت على مقابلة في البرلمان الأوغندي، ونشر مقالات في الصحف الأوغندية، والظهور في محطات التلفزيون للتنديد بالعدوان الإسرائيلي.كما قمتُ، ومعي مجموعة مختارة من السفراء العرب والأفارقة، ومنهم سفير جنوب إفريقيا، بمقابلة الرئيس يوري موسيفيني، وقد دار معه حديث طويل سجلته في حينه. وكان من أطرف ما جاء فيه أنني قلت له: «إن المؤتمر الصهيوني الذي عُقد في سويسرا نهاية القرن التاسع عشر اختار عدة مواقع لتأسيس الدولة الصهيونية، وقد كانت أوغندا إحدى هذه المواقع، أي أن فخامتكم كان من الممكن الآن أن تكون محاصرًا في هذا القصر مثلما يحاصرون أبو عمار الآن في رام الله».رفع الرئيس حاجبيه، وهو يفتح عينيه على اتساعها (وقد كان خفيف الظل)، وقال بجدية مفتعلة: «لم أكن لأسمح لهم أبدًا بهذا، وكنتُ سأقاومهم في الأدغال كما فعلتُ لتحرير أوغندا».ورغم أنني كنتُ أرسل بشكل منتظم إلى الوزارة عن تلك الخطوات التي انتويتُ القيام بها، بما في ذلك الترتيبات للقيام بمسيرة في شوارع كمبالا، تتجه أولًا إلى مبنى UNDP التابع للأمم المتحدة كي نسلّمه رسالة احتجاج (قمتُ مع السفير السوداني بإعدادها سويًا)، ثم تسير المسيرة بعد ذلك إلى ميدان الدستور، الذي تتجمع فيه عادة كل المظاهرات المماثلة.ورغم أنني كنتُ، كما ذكرت، أحرص على إخطار الوزارة بكل الخطوات، ولم يصلني أي اعتراض، فوجئتُ فقط بعد يوم المظاهرة باتصال من مدير مكتب الوزير يخطرني بأن الوزير أحمد ماهر يطلب مني التوقف عن التظاهرات!شرحتُ أنني لا أخرج كل يوم في مظاهرة، وأنني أخطرتُ بترتيبات المظاهرة التي خرجتُ فيها بالأمس قبل القيام بها بأسبوع على الأقل، وأنها تمت وفقًا للقانون الأوغندي الذي لا يمانع في ذلك طالما تم الإخطار وحصلنا على الموافقة، وأن المسيرة كانت ناجحة وغطّتها وسائل الإعلام الدولية والمحلية، وأنني أدليتُ بأحاديث لبعض الوكالات بما لا يخرج عن مضمون موقف مصر الرسمي، كما ألقيتُ كلمة في جموع المتظاهرين، ضمن كلمات أخرى لسفراء آخرين، وبعض رجال السياسة والفكر والفن في أوغندا.وكنتُ قد اتفقتُ مع مجموعة السفراء العرب على أن نتحمل سويًا تكاليف المسيرة، من تأجير مقاعد في الميدان، وخيمة كبيرة، وطباعة منشورات، وقمصان وأغطية رأس مطبوع عليها عبارات عن تحرير فلسطين… إلخ، وكذلك أغذية سريعة ومشروبات وخلافه، وكان الاتفاق أن يتولى السفير الليبي دفع كل التكاليف، لأن ميزانيته تسمح بذلك، على أن يعود إلينا بتقسيم المبلغ بالتساوي، وقد اعتذر سفير عربي واحد عن المشاركة المالية منذ البداية لأن وزارته لن توافق على الدفع.فهمتُ من مكالمة الوزارة أنها لن تلبي ما أرسلته من مطالبة باعتماد مبلغ يغطي مشاركتنا بعد إرسال صور الفواتير والإيصالات وخطاب السفير الليبي، وقد اعترضتُ على ذلك لأنني، كما ذكرت، قد سبق أن أخطرتُ بكل هذه الإجراءات، بما فيها التبعات المالية، ولكن الوزير تمسّك بموقفه.بعد شهر تقريبًا من تلك الأحداث، وصل الوزير في زيارة رسمية لأوغندا لحضور مؤتمر في كمبالا، وكان موضوع المظاهرة ضمن الموضوعات التي أثارها معي، وكان السفير الليبي يقف على مقربة حين سألني الوزير مستنكرًا: «هو فيه سفراء بيمشوا في مظاهرات؟» فأجبته بأن كمبالا تشهد كل شهر تقريبًا مظاهرات يشارك فيها سفراء، وآخرها مظاهرة قامت سفيرة رواندا بتنسيقها معنا في ذكرى عمليات الإبادة التي حدثت في بلادها.قال الوزير ساخرًا: «وكنتَ تريد أن تتحمل الوزارة تكاليف المظاهرة أيضًا؟»فقال السفير الليبي للوزير وهو ينظر لي مندهشًا: «ولكن مصر دفعت فعلًا نسبتها في المشاركة!»وخشيتُ أن يفهم أنني التففتُ على قراره وحصلتُ على الاعتماد من الوزارة بشكل ما، فهمستُ له أنني دفعتُ من مالي الخاص قيمة المساهمة، فضحك معلقًا بصوت عالٍ: «هذا عقاب كافٍ لك»، ولم أكن أريد للسفير الليبي أن يستمع إلى هذا الجزء، لكن تعقيب الوزير أثار انتباهه، خاصة حين رددتُ بكل جدية وحسم: «يا فندم مش كتير على فلسطين، حضرتك عارف إني شاركتُ في الحرب، وكان ممكن أستشهد، الفلوس دي أرخص حاجة الواحد بيفكر فيها».المشكلة أن السفير الليبي ظل يطاردني فترة طويلة، وكلما تقابلنا يحاول أن يرد لي ما دفعته، متعللًا بأن الميزانية الرسمية لديه تسمح بذلك، وأنا أرفض بشدة، لدرجة أنه حاول أن يقنع السيدة حرمي، شفاها الله، وقد كانت لا تعلم بخلفية الموضوع، لكنها عندما سمعت رأيي، قالت له شاكرة: «فعلا مش كتير على فلسطين».ولابد في الختام أن أؤكد على موقف المرحوم الوزير أحمد ماهر الداعم دومًا للحقوق الفلسطينية، شأنه شأن كل مصري أصيل، ولقد فهمتُ أن بعض مراسلاتي لم تُعرض عليه، وبالتالي لم يعلم بالموضوع إلا بعد وقوعه، وقد ظل بعد ذلك كلما التقاني يقول مداعبًا: «هو فيه سفير بيطلع مظاهرات؟».

دد كبير من السفراء العرب والأفارقة وجماهير غفيرة، للتنديد باقتحام القوات الإسرائيلية للضفة الغربية وحصار ياسر عرفات في مقر قيادته.

ليس هذا فحسب، بل عقدتُ اجتماعات في السفارة مع مجموعة السفراء العرب ومجموعة السفراء الأفارقة، واتفقنا على خطة تحرّك اشتملت على مقابلة في البرلمان الأوغندي، ونشر مقالات في الصحف الأوغندية، والظهور في محطات التلفزيون للتنديد بالعدوان الإسرائيلي.

كما قمتُ، ومعي مجموعة مختارة من السفراء العرب والأفارقة، ومنهم سفير جنوب إفريقيا، بمقابلة الرئيس يوري موسيفيني، وقد دار معه حديث طويل سجلته في حينه. وكان من أطرف ما جاء فيه أنني قلت له: «إن المؤتمر الصهيوني الذي عُقد في سويسرا نهاية القرن التاسع عشر اختار عدة مواقع لتأسيس الدولة الصهيونية، وقد كانت أوغندا إحدى هذه المواقع، أي أن فخامتكم كان من الممكن الآن أن تكون محاصرًا في هذا القصر مثلما يحاصرون أبو عمار الآن في رام الله».

رفع الرئيس حاجبيه، وهو يفتح عينيه على اتساعها (وقد كان خفيف الظل)، وقال بجدية مفتعلة: «لم أكن لأسمح لهم أبدًا بهذا، وكنتُ سأقاومهم في الأدغال كما فعلتُ لتحرير أوغندا».

ورغم أنني كنتُ أرسل بشكل منتظم إلى الوزارة عن تلك الخطوات التي انتويتُ القيام بها، بما في ذلك الترتيبات للقيام بمسيرة في شوارع كمبالا، تتجه أولًا إلى مبنى UNDP التابع للأمم المتحدة كي نسلّمه رسالة احتجاج (قمتُ مع السفير السوداني بإعدادها سويًا)، ثم تسير المسيرة بعد ذلك إلى ميدان الدستور، الذي تتجمع فيه عادة كل المظاهرات المماثلة.

ورغم أنني كنتُ، كما ذكرت، أحرص على إخطار الوزارة بكل الخطوات، ولم يصلني أي اعتراض، فوجئتُ فقط بعد يوم المظاهرة باتصال من مدير مكتب الوزير يخطرني بأن الوزير أحمد ماهر يطلب مني التوقف عن التظاهرات!

شرحتُ أنني لا أخرج كل يوم في مظاهرة، وأنني أخطرتُ بترتيبات المظاهرة التي خرجتُ فيها بالأمس قبل القيام بها بأسبوع على الأقل، وأنها تمت وفقًا للقانون الأوغندي الذي لا يمانع في ذلك طالما تم الإخطار وحصلنا على الموافقة، وأن المسيرة كانت ناجحة وغطّتها وسائل الإعلام الدولية والمحلية، وأنني أدليتُ بأحاديث لبعض الوكالات بما لا يخرج عن مضمون موقف مصر الرسمي، كما ألقيتُ كلمة في جموع المتظاهرين، ضمن كلمات أخرى لسفراء آخرين، وبعض رجال السياسة والفكر والفن في أوغندا.

وكنتُ قد اتفقتُ مع مجموعة السفراء العرب على أن نتحمل سويًا تكاليف المسيرة، من تأجير مقاعد في الميدان، وخيمة كبيرة، وطباعة منشورات، وقمصان وأغطية رأس مطبوع عليها عبارات عن تحرير فلسطين… إلخ، وكذلك أغذية سريعة ومشروبات وخلافه، وكان الاتفاق أن يتولى السفير الليبي دفع كل التكاليف، لأن ميزانيته تسمح بذلك، على أن يعود إلينا بتقسيم المبلغ بالتساوي، وقد اعتذر سفير عربي واحد عن المشاركة المالية منذ البداية لأن وزارته لن توافق على الدفع.

فهمتُ من مكالمة الوزارة أنها لن تلبي ما أرسلته من مطالبة باعتماد مبلغ يغطي مشاركتنا بعد إرسال صور الفواتير والإيصالات وخطاب السفير الليبي، وقد اعترضتُ على ذلك لأنني، كما ذكرت، قد سبق أن أخطرتُ بكل هذه الإجراءات، بما فيها التبعات المالية، ولكن الوزير تمسّك بموقفه.

بعد شهر تقريبًا من تلك الأحداث، وصل الوزير في زيارة رسمية لأوغندا لحضور مؤتمر في كمبالا، وكان موضوع المظاهرة ضمن الموضوعات التي أثارها معي، وكان السفير الليبي يقف على مقربة حين سألني الوزير مستنكرًا: «هو فيه سفراء بيمشوا في مظاهرات؟» فأجبته بأن كمبالا تشهد كل شهر تقريبًا مظاهرات يشارك فيها سفراء، وآخرها مظاهرة قامت سفيرة رواندا بتنسيقها معنا في ذكرى عمليات الإبادة التي حدثت في بلادها.

قال الوزير ساخرًا: «وكنتَ تريد أن تتحمل الوزارة تكاليف المظاهرة أيضًا؟»
فقال السفير الليبي للوزير وهو ينظر لي مندهشًا: «ولكن مصر دفعت فعلًا نسبتها في المشاركة!»

وخشيتُ أن يفهم أنني التففتُ على قراره وحصلتُ على الاعتماد من الوزارة بشكل ما، فهمستُ له أنني دفعتُ من مالي الخاص قيمة المساهمة، فضحك معلقًا بصوت عالٍ: «هذا عقاب كافٍ لك»، ولم أكن أريد للسفير الليبي أن يستمع إلى هذا الجزء، لكن تعقيب الوزير أثار انتباهه، خاصة حين رددتُ بكل جدية وحسم: «يا فندم مش كتير على فلسطين، حضرتك عارف إني شاركتُ في الحرب، وكان ممكن أستشهد، الفلوس دي أرخص حاجة الواحد بيفكر فيها».

المشكلة أن السفير الليبي ظل يطاردني فترة طويلة، وكلما تقابلنا يحاول أن يرد لي ما دفعته، متعللًا بأن الميزانية الرسمية لديه تسمح بذلك، وأنا أرفض بشدة، لدرجة أنه حاول أن يقنع السيدة حرمي، شفاها الله، وقد كانت لا تعلم بخلفية الموضوع، لكنها عندما سمعت رأيي، قالت له شاكرة: «فعلا مش كتير على فلسطين».

ولابد في الختام أن أؤكد على موقف المرحوم الوزير أحمد ماهر الداعم دومًا للحقوق الفلسطينية، شأنه شأن كل مصري أصيل، ولقد فهمتُ أن بعض مراسلاتي لم تُعرض عليه، وبالتالي لم يعلم بالموضوع إلا بعد وقوعه، وقد ظل بعد ذلك كلما التقاني يقول مداعبًا: «هو فيه سفير بيطلع مظاهرات؟».

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى