ثقافة وفنونمقالات ورأى

أحمد عبدالمتجلي يكتب: مركز أحمد بهاء الدين الثقافي .. طموح البدايات ومسؤوليات المستقبل

في قلب صعيد مصر، حيث تتناثر قصص الكفاح والإبداع، يبرز “مركز أحمد بهاء الدين الثقافي” كصرحٍ ثقافي شامخ، ينبض بالحياة ويُضيء سماء الجنوب بفاعليته المتفردة.

ليس مجرد مركز ثقافي عادى ينتمى للمجتمع المدني، بل تجربة ثقافية فريدة تنجو من براثن البيروقراطية الحكومية التي تُحيل الكنوز إلى حجارة مبعثرة، وتتحدى حسابات السياسة الضيقة التي تُحوِّل المثقفين إلى أدواتٍ لتبادل المنافع، فتُهدر الطاقات وتُجفف ينابيع الإبداع تحت شعاراتٍ زائفة.

ويحضرني هنا – رفض جمعية أصدقاء الكاتب أحمد بهاء الدين الثقافية العرض الذى قدمه السيد محافظ أسيوط الأسبق بتقديم قطعة أرض داخل مدينة أسيوط لإنشاء مركز أحمد بهاء الدين الثقافي عليها،

وإصرار مجلس إدارة الجمعية- ممثلا في الدكتور زياد بهاء الدين – نائب رئيس مجلس الوزراء و وزير التعاون الدولي الأسبق – على إنشاء المركز الثقافي في قرية الدوير النائية الفقيرة؛ حيث أن الخدمات الثقافية المتميزة غالبا ما تتمتع بها العاصمة، وهو نفس موقف الكاتب أحمد بهاء الدين عندما أقترح نقل مقر الحكومة من القاهرة إلى أسيوط لمواجهة الإرهاب.

وتؤكد ادبيات التنمية على أن أي فعل تنموي حقيقي لا يمكنه ان يكون بعيدا عن الثقافة، فمن الثقافة تستمد التنمية المعنى و المضمون و الفعالية.

فالثقافة حاضنة القيم، و لا تنمية بدون دور للقيم، ولأن حالة التنمية تتحقق في موقف جديد، فإن التأسيس له يستلزم العودة للانطلاق من الثقافة،؛ حيث أن التنمية تتم دائما داخل المجال الثقافي منه و إليه.

ولقد تأكدت القناعة لدى العديد من الدول و الحكومات على ان المدخل الثقافي للتنمية هو المدخل الضروري في ظل التحول الرقمي و العولمة.

وتحضرني هنا مقولة للمهندس : إبراهيم محرم، الرئيس الأسبق لجهاز بناء وتنمية القرية :” إن الصعيد بحاجة إلى تنمية ثقافية تركز على تشخيص المشاكل التي أعاقت التنمية ومعالجتها بصورة مناسبة، وبحث لماذا الصعيد أكثر عصبية وتصلباً تجاه تقبل الجديد ؟ ولماذا ما يزال العرف أقوى من القانون .. وكلها تساؤلات تلعب التنمية الثقافية دورا هاما لعلاجها “.

وتحضرني – أيضا – مقولة فرانك أنلو: ” راقب أفكارك فإنها تتحول إلى كلمات .. راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالا. راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات .. راقب عاداتك فأنها تصبح طباعاً .. راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك”.

يشير الدكتور أحمد مصطفى على حسين- كاتب وباحث عضو اتحاد كتاب مصر- إلى أن مركز أحمد بهاء الدين الثقافي رغم ريادته؛ فإنه يقف اليوم على مفترق طرق؛ فالتحديات التي تواجهه ليست هينة: كيف يتخطى حدوده الجغرافية ليصبح صوته مسموعًا في كل قرية ومدينة؟

كيف يحطم قيود التاريخ والعادات البالية ليرسم مستقبلًا ثقافيًا أكثر انفتاحًا؟ وكيف يوظف الثورة الرقمية ليصنع حراكًا ثقافيًا يجتاح المحافظات ويصل إلى كل طفل موهوب في أسيوط وما حولها؟

الإجابة قد تكمن في تحويل التحديات إلى فرص: فبدلًا من حصر الأنشطة داخل جدران المركز، يمكن أن تنتشر ورش البرمجة والفنون والألعاب الإبداعية في كل ربوع المحافظة، بل وتتخطاها إلى محافظات الصعيد، معتمدًا على منصات رقمية تفجِّر طاقات الشباب عن بُعد.

ولعل نجاح “مبادرة مصر الرقمية” خير دليل؛ إذ استطاعت تدريب آلاف الأطفال في أسيوط عبر جلسات أسبوعية مُنظمة، وهو ما يؤكد أن الحلول التكنولوجية ليست حلمًا، بل واقعًا قائمًا بشرط إدارة حكيمة تعتمد على شراكات مع الأهالي والمدارس، وتقديم مكاسب ملموسة تنمي المواهب وتُحوّل المشاركين إلى قادة إبداعيين.

ويؤكد الدكتور أحمد مصطفى على أنه لكي يكتمل المشهد، يجب أن يُطلق المركز كل إنتاجه الفني عبر الإنترنت؛ مسرحياته، معارضه، إبداعات أعضائه، لتصبح الثقافة ميراثًا مفتوحًا للجميع.

فالثورة الحقيقية ليست في البناء وحده، بل في هدم الأسوار وبناء جسورٍ من المعرفة تصل لكل بيت، وتصنع حراكًا ثقافيًا يُعيد للجنوب بهاؤه.

ويرى الشاعر والمثقف فتحي عبدالسميع أن مركز أحمد بهاء الدين هو الصرح الثقافي الأهم في الصعيد، بعيدا عن منشآت وزارة الثقافة. وقد ظهر إلى الوجود بشكل يشبه الحلم، من حيث إمكانياته الكبيرة.

ووجوده في قرية صغيرة جدا، ليصنع نموذجا نادرا يكسر ارتباط الفعل الثقافي بالمدن، ويمنح أهل الريف جزءا من حقهم في خدمة ثقافية تساهم في بناء المواطن المصري ليواجه التحديات الكبيرة التي تنتظره في ظل العصر الحديث.

المركز يقدم تجربة تستحق الدراسة والمتابعة لرصد علاقة الجماعة المحيطة بالمركز ومدى نجاحه في تحقيق أهدافه. لأنه يقدم تجسيدا واقعيا لأفكار نظرية رائعة عن حاجة الريف إلى الثقافة، وقدرة الثقافة على القيام بدور فعال في حياة الناس المهمشين بسبب الجغرافيا.

وأوضح فتحي عبدالسميع أن المركز بدأ بداية قوية من خلال إقامة ملتقيات ثقافية على مستوى صعيد مصر تضمنت عمل مسابقات ثقافية، و بحثية، ومسابقات وعروض للفن التشكيلي والأشغال الفنية والتصوير الفوتوغرافي، والأفلام التسجيلية، وعروض فنون شعبية. كما أقام المركز مهرجانات مسرحية للفرق المسرحية المستقلة لصعيد مصر.

ونوه إلى أن الجانب الثقافي – وحده – كان كفيلا بضرب سياج من العزلة الشديدة على المركز. ومن ثم شاهدنا تحويلا للمسار، حيث بدأ المركز يتفاعل مع حاجات الناس المباشرة والملحة. وتحول إلى مركز للتنمية الاجتماعية لقرية الدوير والقرى المحيطة، خاصة في مجالي الصحة والتعليم.

لقد قامت جمعية أصدقاء الكاتب أحمد بهاء الدين – و التي تشرف على المركز – بتحريك قوافل طبية، وتنفيذ مشروع للتثقيف الصحي بالتعاون مع الهلال الأحمر المصري. كما قامت بتأسيس عيادتين بمستشفى الدوير، والتبرع بأجهزة غسيل كلوي وحضانات المبتسرين لمستشفى صدفا المركزي.

كما ساهمت الجمعية في تطوير خمس مدارس بإدارة صدفا التعليمية، من خلال تأسيس عيادات داخل المدارس، وتوزيع حقائب طبية على التلاميذ، وتوريد أدوات موسيقية ومعامل ومقاعد وسبورات ذكية وماكينات تصوير وأجهزة حاسب آلي وطابعات.

بالإضافة إلى استقبال زيارات المدارس بالمركز الثقافي، وعمل دورات خاصة بتعليم أساسيات الحاسب الآلي للأطفال والتلاميذ.

ويطالب فتحي عبدالسميع أن يستضيف المركز أساتذة في علم الاجتماع لمناقشة قضايا الريف مع أهالي القرية، مثل قضية الثأر أو الثقافة القبلية، و فتح المجال للباحثين لدراسة كل ما يرتبط بثقافة القرية.

إن دور مركز أحمد بهاء الدين الثقافي بالدوير- و الذى يقع بمنطقة نائية و محرومة في أفقر محافظات مصر – يختلف عن دور المئات من قصور و بيوت الثقافة المنتشرة في قرى و مراكز و مدن الصعيد – في أنه لا يقتصر على الدور التقليدي في تقديم الأنشطة الثقافية – بل يهدف إلى رفع مستوى الوعى حول قضايا المجتمع الهامة، والمساهمة في الارتقاء بالخدمات الاجتماعية في قرى الصعيد الأقل حظا،

وإتاحة الفرص للفئات الأكثر احتياجا في توفير حياة كريمة. فكان أن صمدت تلك الفكرة الفريدة، و اتخذ المركز موقعا ثقافيا عالي المصداقية بشهادة الجميع.

ويعتقد كاتب هذه السطور أن تجربة مركز أحمد بهاء الدين الثقافي بالدوير تعد علامة فارقة على خريطة الخدمات الثقافية و الاجتماعية في صعيد مصر، تجربة تستحق أن نعنى بتفاصيلها و ندعو لدعمها بكل الوسائل.

فالمركز بالإضافة إلى ما سبق يعنى بتقديم برامج تنمية المجتمع التي تهدف إلى الارتقاء بقرية الدوير و القرى المحيطة.

هكذا، قد يصبح “مركز أحمد بهاء الدين الثقافي بالدوير” بأسيوط ليس مجرد مركز ثقافي، بل شمسًا تشرق على صعيد مصر كله. فهل يُغيِّر المركز أدواره و يطورها كما نأمل، أم يظل حبيس الجغرافيا والتقاليد؟

أعتقد أننا يجب أن نردد مع فيروز .. ” الان الان .. و ليس غدا “.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى