
في مشهد حضاري مهيب، وقفت المقاومة الفلسطينية، ممثلة في كتائب القسام وسرايا القدس، على منصة تحرير الأسرى، حاملةً معها رسائل متعددة المستويات، سياسية وإنسانية وعسكرية، موجهة إلى الداخل الفلسطيني، والاحتلال الإسرائيلي، والعالم العربي والإسلامي. لم يكن المشهد مجرد عملية تبادل، بل كان لوحة رمزية ترسم ملامح الصراع وتعيد تصويب البوصلة نحو جوهر القضية الفلسطينية.
رسائل واضحة للعالم العربي والإسلامي
وسط هذا المشهد، لم تكن الأعلام العربية التي رفعتها المقاومة مجرد قطع قماش، بل كانت إعلاناً عن هوية الصراع وامتداده العربي والإسلامي. حضور علم مصر والسعودية، وغياب العلم الإيراني، جاء كرسالة صريحة بأن المقاومة تعي أهمية العمق العربي في معركتها، وتدرك أن دعم القضية لا يقتصر على محور واحد، بل يحتاج إلى كل من ينتمي وجدانياً وتاريخياً إلى فلسطين.
المقاومة تدرك أن القوى المعادية تسعى جاهدة لإحداث قطيعة بينها وبين الدول العربية، لكنها لا تزال متمسكة برسالتها الجامعة، التي ترى في العالم العربي والإسلامي العمق الاستراتيجي الحقيقي لصمودها. لم يكن غياب علم إيران إقصاءً، بل كان تأكيداً على أن فلسطين قضية الأمة كلها، وأن الدعم لها يجب أن يكون نابعاً من التزام مبدئي وليس من حسابات المحاور.
رسائل للداخل الفلسطيني: المقاومة تصنع الواقع الجديد
في الوقت الذي يحاول فيه الاحتلال فرض معادلاته عبر القتل والتدمير والاعتقالات، جاءت عملية التبادل لتقول إن المقاومة وحدها هي من يفرض القواعد، وهي التي تحقق الإنجازات التي تعجز عنها الأنظمة المطبّعة. هذا الحدث ليس مجرد صفقة، بل هو تأكيد على أن المعركة مع الاحتلال ليست يأسًا أو استسلامًا، بل استمرارًا في مشروع التحرير.
إن خطاب الأسرى المفرج عنهم جاء ليؤكد هذه الحقيقة، فقد حملوا رسائل واضحة للداخل الفلسطيني: أن الصبر والثبات هما طريق النصر، وأن المقاومة لم ولن تتخلى عن أسراها، كما أنها لن تفرط في دماء الشهداء الذين سبقوهم في طريق الحرية.
وكانت العبارة التي ترددت في هذا المشهد العظيم: “لا هجرة إلا للقدس”، رسالة تحمل دلالات عميقة، فهي تؤكد أن الفلسطينيين، رغم التهجير والشتات، لا يملكون خيار الرحيل عن أرضهم، وأن وجهة النضال الوحيدة هي القدس، لا بحثًا عن أوطان بديلة، بل عودةً حتمية إلى العاصمة الأبدية لفلسطين. إنها إعادة لصياغة المعادلة: لا استسلام ولا تفريط، بل مقاومة حتى التحرير.
رسائل إلى الاحتلال: لا أمن بلا حرية فلسطين
للاحتلال الإسرائيلي، كانت هذه العملية بمثابة ضربة سياسية وعسكرية ومعنوية. فقد أكدت المقاومة أن الأسرى ليسوا مجرد أرقام في سجون الاحتلال، بل هم جزء من معادلة الصراع، ولا يمكن للاحتلال أن يعيش بأمان وهو يعتقل الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني.
إن أي قراءة سياسية للأحداث ستوضح أن هذا المشهد يعيد إلى الأذهان معادلة “الجنود مقابل الأسرى”، التي فرضتها المقاومة في صفقة وفاء الأحرار عام 2011، وتعيد اليوم التأكيد عليها. هذه ليست مجرد عملية تبادل، بل هي جزء من استراتيجية المقاومة في استنزاف الاحتلال وكسر عنجهيته، وإجباره على دفع ثمن احتلاله.
ختامًا: المقاومة تصنع التاريخ
هذا الحدث، بكل تفاصيله، يعيد تأكيد أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل هي مشروع متكامل يحمل أبعادًا سياسية وعقائدية وشعبية. وهو يثبت أن فلسطين لا تزال قادرة على حشد الأمة خلفها، وأن العدو، رغم كل قوته العسكرية، يبقى عاجزًا أمام إرادة الصمود والتحدي.
“نحن الجنود يا قدس فاشهدي” لم تكن مجرد عبارة على منصة التبادل، بل كانت رسالة للعالم بأسره: أن فلسطين لها جنودها، وأن هذه الأمة، رغم جراحها، لا تزال تنبض بالعزة والمقاومة، وأنه لا هجرة إلا للقدس.