مقالات ورأى

حسين عمار يكتب: دفع الثمن في حُب الوطن

بعد أن انقشعت الغيوم وظهر العاهل الأردني ذليلا عاريا بغير هدوم أمام سيد الشياطين المدعو جلهوم في بيته الأحمر المبني على جثث أصحاب الأرض الأصليين وبعرق الأفارقة المخطوفين من بلادهم البعيدة في زمن ليس ببعيد عن أيامنا ليُعلن عن حضارة دموية تسيطر بمنطق الغاب على العالم الآن وتسمى أمريكا!

وذلك بإعلان جلهوم والملقب ب”ترامب” بثوب الغطرسة وإلى جواره أصحاب رؤوس منكسة, عن مضيه قدما نحو تهجير الشعب الفلسطيني وامتلاكه لغزة واقتطاع أجزاء من الأراضي الأردنية لتسكين المُهجرين وإنشاء وطن بديل فيها دون أن ينطق لسان العاهل الأردني بكلمة اعتراض مهذبة أو رفض على استحياء يحفظ به كرامته كإنسان وماء وجهه أمام نفسه قبل شعبه، ولا حتى أمام ابنه الذي بدت على ملامح وجهه الكسوف من مذلة والده
لقد ظهر مستسلما بخنوع، يسمع ويطيع، ليتبدد مع تلك المشاهد سراب البيانات الورقية التي لطالما أبدى فيها قوة وصمود ورفض قاطع، وموقف كالشمس ساطع في مواجهة مخطط التهجير وتصفية القضية الفلسطينية.
استوقفني في تصريحات العاهل الأردني القليلة في قيمتها قبل وقتها أثناء المؤتمر الصحفي المذل مع ترامب جملتين لم استطع تجاوزهما على الإطلاق.

الأولى عندما قال "سيأتي مسؤولين عرب لتوضيح الموقف العربي! إذن لماذا ذهبت إليه قبل أن يجتمع الحكام العرب و يتخذوا قرارهم؟ إذن هو استدعاء كما كتبت بعض الصحف الأمريكية الأسبوع الماضي وبالتالي فإنه لا يملك إلا تنفيذ الاستدعاء.
الثانية: حول تهجير سكان غزة بموجب خطة ترامب قال "دعنا ننتظر خطة مصر حول هذا الشأن" لم يقل أنه يرفض التهجير! رمى كرة النار على السيسي وقفز من المركب مبكرا جدا! وهو نفسه الذي حرج علينا وعلى الغرب منذ أيام بعيون جاحظة وكلمات حاسمة معلنا بالإنجليزية باسمه وباسم السيسي رفضا لا رجعة فيه مخطط التهجير وأكد أنه لا لاجئين إلى الأردن ولا لاجئين إلى مصر. فما الذي تغير وتبدلت به الأحوال لتسقط بهذه السرعة خطابات خداع الشعوب والاستهبال على عتبة بيت أعداء الإنسانية الكائن في واشنطن.
لم يبقى إذن إلا من باعه أمام ترامب, إنه السيسي التي تتجه كل الأنظار نحوه مترقبة وما سيسفر عنه اللقاء المرتقب مع ترامب في البيت الأحمر (الأبيض) ١٨ فبراير الجاري، فالجميع ينتظر مصر صاحبة أقدم حضارة إنسانية التي قُدر لها أن تكون كبيرة من الأبد وحتى الأزل مهما أرادوا إضعافها وتركيعها.
هل سيذهب كرئيس لأكبر دولة عربية بموجب دعوة رسمية مؤكدا بوضوح وقوة الموقف المصري الذي أعلن عنه مرارا وتكرارا عبر كل القنوات الرسمية المصرية، أم سيكون تنفيذا لاستدعاء من ترامب (كما أشارت الصحف الأمريكية)، ليظهر عن قصد من الأمريكان على ماظهر عليه العاهل الأردني بلا قيمة ولا وزن أمام ترامب يأخذه إلى جواره أمام الكاميرات متبوع يفرض على تابعه ما يريد دون أن ينطق كلمة؟

مما لاشك فيه ولا غبار عليه أو ريب يعتريه أن رصيد السيسي لدى الشعب المصري لا يدعو للتفائل ولا ينتظر منه موقف عزة لنصرة غزة وإنصاف أمة أمام ترامب ومواجهته برفض التهجير والتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني بأن يعيش على أرضه ويخبره باسم شعبه بلسان حاد ونظرات الجاد في غضبه الصادق في قوله رفض مصر خطته واستعدادها لمواجهتها وإجهاضها!

كيف له أن يأتي بهذه القوة وهو نفسه من تسول شرعيته الزائفة منهم وسولت له نفسه ارتكاب كوارث في حق وطنه وشعبه لا يعلم أحد كيف سنتخلص منها وكم من الوقت يستلزم لإزالة أضرارها بدءً من الاستيلاء على السلطة واستباحة دماء المصريين وأموالهم وأعمارهم مرورا بتيران وصنافير وغاز المتوسط وسد النهضة ورأس الحكمة وإغراق مصر في بحر ديون ملعون. وصولا إلى تقنين جرائم سلطته وتجريم حقوق المواطنين.
هذه النظرة على رجاحتها وتلك الرصيد لسلطة ما أكثر بجاحتها يجعلنا دائما نشعر بالريبة من مواقفها المعلنة وعدم الثقة في جديتها في قضايا ندفع ثمنا باهظا على يدها بسبب تمسكنا بها، خاصة عندما تتخذ السلطة الموقف المناسب فلا تهدأ ثورة الأسئلة بداخلنا هل حقا هم صادقون أم أنه مجرد دعاية إعلامية لتجميل وجه السلطة أم أنه ابتزاز للحصول على أعلى سعر لتمرير المطلوب مهما كانت خطورته أو تعاظمت أضراره على الشعوب.
حالة تمثل في حد ذاتها اختبار لكل من يسعى إلى اتخاذ موقف وتكوين رأي يطمئن له، ويجد فيه صالح الأمة. وهذا ما نعيشه الآن مع موقف السلطات المصرية من مخططات تهجير غزة وتصفية القضية الفلسطينية، مواقف أقل بكثير من المنتظر من مصر بقيمتها ولكنها مقبولة مادامت ضد التفريط.

لا يعنيني إن كان هذا الموقف بقرار من السيسي وخلفه القوات المسلحة المصرية أو أنه يواجه اجماع داخل المؤسسة العسكرية برفض المخطط وبالتالي سيره وحيدا عكس التيار حتما سينهي حكمه ولن يستطيع أحد حمايته. وإن كنت أرى أنه بين مطرقة ترامب وسندان الجيش المصري ولولا إدراكه بعواقب المضي قدما نحو تنفيذ المخطط لنفذه على الفور ما دام هناك ثمن! فكل شيء عنده مباح ويمكن أن يباع!

هناك أحد التصورات القائلة بأن الصهاينة والأمريكان جادين في تنفيذ المخطط، واذا ما سلمنا لذلك فإنهم لن يسمحوا للسيسي إفساد مخططهم وسيحل عليه غضبهم باعتباره حاكم استمدّ شرعيته منهم وسيُنظر إليه على أنه خائن، حالة الانتقام من السيسي سيكون لها بعدين، بعد متعلق بمعاقبته والبعد الثاني والأهم هو عمل حالة تخبط في مصر وفراغ في السلطة ولو لأيام تستطيع في وعصاباتهم تنفيذ المخطط وفرض أمر واقع مرير.
وهنا مربط الفرس، بأسئلة يُدق بها جرز، لعلنا نسمع هل ستقبل المعارضة أشخاصا وكيانات أن يُنفذ تصور كهذا؟ إزاحة السيسي وافساح المجال لهم مقابل تمرير مخطط التهجير وسط حالة الفراغ التي من الممكن أن تحدث على غرار بشار! هل هناك خيرا في هذا التصور إذا تدحرجت الأمور إلى هذا الحد بأن يستمر من نعاني من شر فعالة المر في تنفيذ ما يريد في بلادنا فتارة يمكن السلطة علينا ظلما وتجبرا ثم يستخدمنا كأداة في معاقبتها تحقيقا لمصالحه الغير مشروعة في بلادنا والتي تعتبر كوارث على أمتنا كتصفية القضية الفلسطينية ؟ ماذا عساك أن تفعل ببلد تم تركيعها هل تستطيع المعارضة “الفقيرة في كوادرها والممزقة في نسيجها و المنهكة من شدة التنكيل” بأن تبني بلد وتؤسس لنظام سياسي قائم على الديموقراطية وقادر على مواجهة قوى الشر الدولية والإقليمية المتربصة بمصر على الدوام؟ هل مصر كما يراها المساعير حقا هي في شخص من يحكمها؟ وهل اتخاذ مجرد موقف إسناد ودعم في قضية بهذه الخطورة مرتبط بترحيب السلطة؟

أسئلة أرى أن الإجابة عليها تأخذنا نحو تبني رؤية سليمة واتخاذ موقف سديد دون غلبة لحظ نفس أو تنشيف رأس تعزلنا عن الواقع حتى نجد انفسنا شركاء مع السلطة في كارثة بعد ان تخاصمنا معهم سنوات من أجل مصالح البلاد والعباد! فمصر ليست في شخص حاكمها ولا نظام يديرها.

فمواقف الرجال ليست بالأمر الهين لما فيها من أثمان تدفع، ومشاعر في أعماق النفس تدفن، وإلا طغى الهوى بأحكامه وفسدت الأعمال كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

إن مساندة مصر في هذا الموقف قد يكون فرض على كل مصري ومصرية، وخاصة المنتمين لثورة يناير ولا تعني مناصرة السيسي او الاصطفاف خلفه او تبرئة ساحته. سيظل في عيون من يراه سبب لكل هم عاشته وتعيشه الأمة ولن تكون مساندة مصر دليل على التفريط، قد تكون كذلك إذا كان الدعم عبر توافقات سياسية (الاصطفاف مقابل كذا وكذا) ولا أرى في وضع شروط ومطالب مهما كانت عادلة لمجرد التعبير عن موقف مساندة لبلادنا في هذه المعركة التي من الممكن أن تكون في طور التمهيد، أي وجاهة لسببين:
الأول: دعم الوطن في أوقات الشدة والحروب غير مشروط ولا يمكن التعامل فيه بالقواعد السياسية.

الثاني: لا يجب رهن الموقف بترحيب السلطة مهما كانت سوء إدارتها وعدم تراجعها عن سياساتها الداخلية لأنك ان احتجبت لعدم ترحيب السلطة أرحت بالها وضمنت لها شريكا تُقحمه معها عند الهزيمة، تتقاسم معه الحساب، أما إن أعلنت دعمك لبلدك لا لحاكم تُعارض حكمه ولا لنظام تراه ظالما حتى يرجع أو يرحل، ستكون قد أقمت عليهم الحجة ليدخلوا -إن حدث- المعارك خاسرين، لم أرى في التاريخ دولة تعاني الضعف والانقسام في جبهتها الداخلية، أو يقبع في سجونها عشرات الالاف من خيرة رجالها ونسائها تبدد فيها أعمارهم، خرجت من حرب منتصرة.
على الجانب الآخر لا سبيل أمام السلطة إلا بترميم الجبهة الداخلية من خلال تصفير السجون ووقف كل الأعمال العدائية من تشويه إعلامي وملاحقة وتوقيف وتضييق لكل صاحب رأي وإفساح المجال السياسي للجميع حتى يجتمع الشمل في مشهد قوة بعد شتات كان مصدرا للهزيمة. هذا ما يجب على السلطة أن تفعله من تلقاء نفسها دون أن تنتظر مطالب، إذا كانت جادة في المواجهة المرتقبة والحرب الحتمية عاجلا أو اجلاً مع الصهاينة وداعميهم الغربيين.
دعونا ننتظر ما ستسفر عنه الأيام القادمة من أخبار ومواقف يُقطع بها الشك باليقين، ومن يدري لعل هذه الشدة تأتي بخير وسرور لا يتوقعه أحد، وتكون بمثابة نقطة انطلاق نحو عهد جديد تستعيد معه مصر عافيتها وتسترد كل مصادر قوتها ويجتمع ابناؤها من جديد، عهد تجبر فيه الخواطر ويعود لداره كل غائب سجنا أو نفيا ونرى يوما يموت فيه الظلم ويحيى العدل.
أما عن الأشباح المتربصين بكل مختلف معهم في طرحه حول هذه القضية بالتحديد فأقول لهم، إن المواقف سهلة الوصول دون إعمال العقول بحكم الهوى هي استمرار لمرار معركة على جثة وطن، وما أسهل حمل نبلة وجمع أظرف بنكلة، يُكال بها لدعاً بالتشويه والتخوين والتسفيه وتجميل العفن.
هذا والله أعلم

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى