![](https://www.ghadnews.net/wp-content/uploads/2025/02/د.أيمن-نور.jpg)
في يوم من أيام فبراير الباردة، استيقظنا كعادتنا وبدأنا في ممارسة طقوسنا اليومية التي بدأناها منذ ثمانية عشر يوماً، انتهينا من صلاة الجمعة ثم كانت المسيرات الحاشدة في معظم ميادين الجمهورية، طالبة الحرية، متشبثة بالأمل تنادي بالرحيل، وسط بعض الأصوات التي كانت تردد حينها “ريحوا نفسكم .. مش هيمشي”، لكن العجيب أن أحداً لم يلتفت لتلك الأصوات، وكلما كانت تظهر دعوات التثبيط والتهبيط كانت تعلو الحناجر بالهتاف “مش هنمشي .. هو يمشي”.
كان مشهدًا يفيض بالقوة والعزيمة، ويثبت أن الإرادة الشعبية لا تُقهر، وأن الصمود أمام محاولات الإحباط لم يكن مجرد شعار، بل كان عقيدة آمن بها الثوار في كل شبر من أرض مصر المحروسة.
تواصلت الهتافات تصدح في الميادين، تتحدى كل محاولات الترويع والتشكيك، وكانت الأعداد في تزايد مستمر، حتى باتت الشوارع بحرًا بشريًا يهتز بهتافاته الصاخبة، يُعلن بكل وضوح أن الشعب قرر، ولا رجعة في القرار.
لم تفلح محاولات الالتفاف على مطالبهم، ولم تثنهم الوعود ولا التهديدات، ولم تفت في عضدهم الخطابات العاطفية، كان الهدف واضحًا: “الرحيل، والرحيل فقط”.
ومع اقتراب المساء، ساد بعض الهدوء الحذر، مع ترقب الموقف، وبينما كانت الأنظار تترقب بقلق، خرجت الرسالة المنتظرة، ظهر نائب رئيس الجمهورية ورئيس المخابرات في لقاء سريع مقتضب، تبدو قسمات وجهه صارمة، وهو يخاطب الشعب المصري العظيم، بكلمات سُطرت في صفحات التاريخ، وحُفرت في قلوب جيل لطالما حلم بالحرية، حتى نزلت تلك الكلمات برداً وسلاماً “الشعب المصري العظيم، في هذه اللحظات العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية”.
ولم تلتفت الميادين المختلفة من أقصى البلاد إلى أقصاها إلى بقية الخطاب، حتى انفجرت الشوارع فرحًا، يتعانق الجميع، بكى البعض، وهلل آخرون، وسجد كثيرون شكرًا لله.
كان ذلك إعلانًا رسميًا بانتصار الشعب، بانتصار ثمانية عشر يومًا من الصمود، بانتصار الحق على الاستبداد، بانتصار الأمل والتفاؤل على اليأس والإحباط.
لم تكن تلك اللحظات مجرد رحيل رئيس، بل كانت ميلادًا جديدًا للأمل، ورسالة بأن الشعوب حين تثور، فإنها تنتصر، وأن إرادة الجماهير أقوى من أي نظام، مهما بدا متجذرًا، وأن نور الفجر آت مهما بدا ظلام الليل حالكاً، وهنا هتفت الجماهير مع رائعة أبو القاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر”.
وهكذا، رحل مبارك ليسجل الشعب المصري واحدة من أعظم صفحات التاريخ الحديث، لكنها لم تكن النهاية، بل كانت بداية الطريق، فالثورات لا تكتمل بسقوط الطغاة، بل تبقى رسالتها حية في القلوب، تنبض في وجدان الأحرار، وتُذكِّر الأجيال بأن الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وأن الكرامة لها ثمن، وأن الشعوب حين تؤمن بعدالة قضيتها، فإنها تنتصر، ولو بعد حين.
وقبيل الفجر، عاد المصريون إلى بيوتهم، يملؤهم الفخر، وعزيمتهم لا تلين. كانت الميادين قد فرغت شيئًا فشيئًا، لكن الهتافات لم تغادر الصدور، بقي صداها محفورًا في ذاكرة الأمة، يردد على مر الأيام: “ارفع رأسك.. أنت مصري”.
ومع مرور السنوات، ورغم تعثر مسار الثورة، تظل يناير شاهدًا على قوة شعب لم يعرف اليأس أو التراجع، ليثبت دائما أن ظلام الليل الحالك، سيتبعه إشراقات الفجر، لتؤذن في العالم بزوال الظلم، ولو بعد حين، لتبقى يناير نوراً يضيء الدروب المعتمة، ويبعث بشعاع الأمل من جديد