يشهد المجال العام في مصر تحديات متعددة تؤثر على فاعليته ودوره في تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة. فمنذ سنوات طويلة، تتداخل العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية لتشكل واقعاً معقداً يحتاج إلى معالجة شاملة ومتوازنة.
يمثل التدخل الأمني في مختلف مجالات الحياة العامة أحد أبرز التحديات التي تواجه تطور المجال العام في مصر. فقد امتد هذا التدخل ليشمل المجالات السياسية والمدنية والأكاديمية والإعلامية، مما أدى إلى تقييد حركة المجتمع وتراجع دور مؤسسات الوساطة. فعلى سبيل المثال، تخضع الفعاليات السياسية والمؤتمرات العلمية والأنشطة المدنية لنظام معقد من التصاريح والموافقات المسبقة، مما يؤدي إلى بطء الإجراءات وأحياناً تعطيل الأنشطة والمبادرات المجتمعية.
وقد انعكس هذا الواقع على المستوى المؤسسي في شكل تراجع لاستقلالية المؤسسات المدنية وقدرتها على المبادرة والابتكار. فالجمعيات الأهلية، على سبيل المثال، تواجه قيوداً متعددة في الحصول على التمويل وتنفيذ المشروعات والتعاون مع المنظمات الدولية. كما تواجه النقابات المهنية والعمالية تحديات في ممارسة دورها في الدفاع عن مصالح أعضائها والمشاركة في صنع السياسات العامة.
أما على المستوى الفردي، فقد أدى هذا المناخ إلى تنامي ظاهرة الرقابة الذاتية وتراجع المشاركة المجتمعية والعزوف عن العمل العام. فالمواطنون، وخاصة الشباب، يترددون في المشاركة في الأنشطة العامة أو التعبير عن آرائهم بحرية، مما يؤثر سلباً على حيوية المجال العام وقدرته على التجدد.
وعلى المستوى الاقتصادي، أدى تشديد القيود الأمنية إلى عزوف بعض الاستثمارات عن مجالات معينة وتراجع التنافسية في بعض القطاعات وزيادة تكلفة ممارسة الأعمال. كما أثر ذلك على مناخ الابتكار وريادة الأعمال، خاصة في المجالات التي تتطلب حرية في تدفق المعلومات والتواصل مع الخارج.
إن معالجة هذا الواقع تتطلب رؤية شاملة تجمع بين متطلبات الأمن والتنمية. فمن الضروري العمل على تحديد واضح لصلاحيات الأجهزة الأمنية ووضع ضوابط قانونية لتدخلها في المجال العام، مع تعزيز الرقابة القضائية لضمان عدم تجاوز هذه الضوابط. كما يجب تطوير آليات العمل المؤسسي وتعزيز دور المؤسسات المدنية وبناء قنوات حوار مؤسسية فعالة.
وعلى المستوى التنفيذي، هناك حاجة ملحة لتبسيط إجراءات الموافقات وتحديد أطر زمنية واضحة للردود وتفعيل آليات التظلم. فالبيروقراطية المعقدة والإجراءات الطويلة تمثل عبئاً ثقيلاً على المبادرات المجتمعية وتحد من فاعليتها.
إن نجاح هذه الجهود يتطلب التزاماً من جميع الأطراف. فعلى مستوى الدولة، يجب تبني رؤية متوازنة للأمن والتنمية وتطوير قدرات المؤسسات المدنية وبناء الثقة مع المجتمع. وعلى مستوى المجتمع، يجب العمل على تعزيز المبادرات المجتمعية المسؤولة وتطوير آليات العمل المشترك وبناء ثقافة الحوار.
كما أن الانفتاح على التجارب الدولية الناجحة وتطوير التعاون الدولي البناء يمكن أن يساهم في تعزيز جهود الإصلاح وتحسين صورة مصر على المستوى الدولي. فالتوازن بين متطلبات الأمن والحريات العامة ليس مستحيلاً، بل هو ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة وبناء مجتمع حيوي وفاعل.
إن تطوير المجال العام في مصر ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة تنموية وأمنية في آن واحد. فالمجتمع القادر على التعبير عن نفسه بشكل سلمي ومنظم، والمشاركة في صنع القرارات التي تمس حياته، هو مجتمع أكثر قدرة على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة. والتحدي الحقيقي يكمن في إيجاد التوازن المناسب بين متطلبات الأمن القومي وحيوية المجال العام، وهو توازن ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية اللازمة لتحقيقه.
المصدر : بوابة الحرية الإخبارية الإليكترونية