ترامب لن يتردد في استخدام كل ما في حوزته من أدوات الإكراه والترغيب معا، أي العصا والجزرة، من أجل تمكين “إسرائيل”، وليس بالضرورة نتنياهو بالذات، من الحصول بالوسائل السياسية على ما عجزت عن تحقيقه بقوة السلاح.
جدل صاخب يعلو في هذه الأيام ويدور بشأن مسألتين: الأولى تتعلق بحسابات المكسب والخسارة ومعايير النصر والهزيمة، وخصوصاً بالنسبة إلى الأطراف المنخرطة في الجولة الحالية من الصراع.
والثانية تتعلق بالتأثيرات المحتملة لمآلات هذه الجولة في الأوضاع الاستراتيجية والجيوسياسية للفاعلين الرئيسين في المنطقة. صحيح أن هذه الجولة من الصراع لا تزال مفتوحة، ولم تُغلَق نهائياً بعدُ، غير أن ما طرأ مؤخّراً من تطورات، في الساحتين الإقليمية والدولية، وخصوصاً عقب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وتولي دونالد ترامب مقاليد السلطة، لفترة ولاية ثانية، في الولايات المتحدة الأميركية، يوحي بأن منطقة الشرق الأوسط دخلت مرحلة “ما بعد الطوفان”، وبدأت تستعد لـ “اليوم التالي”. لذا، يُعتقد، على نطاق واسع، أن الملامح الرئيسة لهذه التحولات الاستراتيجية والجيوسياسية بدأت تتشكل بالفعل، وأصبحت بالتالي قابلة للرصد والتحليل.
لا توجد قراءة واحدة لهذه التحولات. ومع ذلك، يمكن اختزال القراءات المتباينة وإعادة دمجها في قراءتين تقفان على طرفي نقيض. الأولى تفترض أن معيار النصر والهزيمة يُقاس بحجم الخسائر التي تكبّدتها الأطراف، التي انخرطت في هذه الجولة من صراع الشرق الأوسط. ولأن “إسرائيل” تمكّنت من توجيه ضربات قاسية إلى جميع خصومها، فلقد توصلت هذه القراءة إلى نتيجة مفادها أن “إسرائيل” هي الطرف المنتصر في هذه الجولة.
وبالتالي، يُتوقع أن تصبح في وضع يتيح لها إعادة تشكيل المنطقة على هواها، والتحكم فيها. أما القراءة الثانية فتفترض أن معيار النصر والهزيمة يجب أن يقاس بالقدرة على تحقيق الأهداف، المعلنة منها والمضمرة. ولأن “إسرائيل” عجزت عن تحقيق أيّ من الأهداف، التي حدّدتها لنفسها، فلقد توصلت هذه القراءة إلى نتيجة مفادها أن “إسرائيل” عجزت عن تحقيق النصر في هذه الجولة، التي اضطرت فيها إلى خوض أطول مواجهة عسكرية في تاريخها وأعلاها تكلفة، ثم يُتوقع أن تواجه خيارات صعبة في المرحلة المقبلة، تفرض عليها أن تختار بين السيئ والأسوأ.
تشير القراءة الأولى إلى أن “إسرائيل” تمكّنت من تكبيد جميع خصومها في المنطقة خسائر فادحة. ففي الساحة الفلسطينية، تمكنت من تدمير قطاع غزة بالكامل، وحولته إلى مكان غير قابل للحياة، وقتلت وجرحت ودفنت تحت الأنقاض ما يقرب من مئتي ألف مواطن، يمثلون ما يقرب من 10% من إجمالي سكانه. وفي الساحة اللبنانية، تمكنت من تحييد عدة آلاف من مقاتلي حزب الله، سواء عبر عمليات تفجير عن بعد لأجهزة البيجر وأجهزة الاتصالات اللاسلكية، أو عبر عمليات اغتيال مباشِر للكوادر والقيادات الرئيسة، على رأسهم السيد حسن نصر الله نفسه، الأمين العام للحزب، كما تمكنت من تدمير معظم قرى الجنوب اللبناني ومدنه، ومعظم مباني الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت.
وفي الساحة السورية، ساهمت بفعّالية في تهيئة الظروف الدولية والإقليمية، والتي أفضت إلى سقوط النظام الحاكم وهروب رئيسه بشار الأسد، الأمر الذي مكّنها لاحقاً من احتلال أراضٍ سورية جديدة، تصل إلى ما يقرب من 500 كم مربع، ومن تدمير كل مقدّرات الجيش السوري، من أسلحة وذخائر وقدرات تصنيعية وبحثية وخلافها.
فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن “إسرائيل” تمكنت أيضاً من توجيه ضربات موجعة إلى إيران، سواء عبر اشتباكات عسكرية مباشرة معها، أو عبر عمليات استخبارية ضد القوات الحليفة لها في المنطقة، لَتبيّن لنا بوضوح أنها حققت مكاسب استراتيجية ضخمة، أهمها تفكيك “محور المقاومة”، الذي لطالما عدّته إسرائيل بمنزلة تهديد وجودي لها، وإخراج إيران نهائياً من سوريا، وبالتالي قطع طريق الإمدادات العسكرية الإيرانية لحزب الله.
وتلك كلها إنجازات توحي بأن “إسرائيل” باتت في وضع يسمح لها التحكم في عدد من المعطيات الاستراتيجية والجيوسياسية المتعلقة بالمنطقة ككل، الأمر الذي يسمح لها بإعادة تشكيل موازين القوى فيها من جديد على نحو يتلاءم مع أهوائها ومصالحها.
غير أن هناك من يعترض على هذه القراءة، التي يرى أنها منحازة، لأنها تغفل عما تكبّدته “إسرائيل” في هذه الجولة من خسائر جسيمة، على الصعيدين المادي والمعنوي، ولأنها أيضاً لا تفسر لماذا عجزت “إسرائيل” عن حسم جولة قتال طالت أكثر من خمسة عشر شهراً، للمرة الأولى في تاريخها.
لذا، تبدو الحاجة ماسّة إلى قراءة أخرى أكثر توازناً وصدقيةً، وهو ما تقدمه قراءة ثانية ترى أن القدرة على تحقيق الأهداف يجب أن تكون المعيار السليم للتمييز بين النصر والهزيمة، وتؤكد، في الوقت نفسه، أن “إسرائيل” عجزت عن تحقيق أي من أهدافها في جولة الصراع الحالية، على رغم الضربات الموجعة التي تمكنت من توجيهها إلى جميع خصومها في المنطقة. فحين أعلنت “إسرائيل” الحرب، رداً على “طوفان الأقصى”، أوضحت أنها تستهدف تحطيم قدرات حماس العسكرية، وإسقاط حكمها في قطاع غزة، واستعادة جميع “الرهائن” المحتجزين فيه.
ولأن هذه الحرب سرعان ما أخذت شكل الإبادة الجماعية والتهجير القسري للشعب الفلسطيني، ولم تقتصر على ملاحقة حماس وسائر فصائل المقاومة المسلحة، فسرعان ما تبيّن، بصورة قاطعة، أن نتنياهو اتّخذ عملية “الطوفان” ذريعة لتحقيق مآرب أخرى، في مقدمتها إخلاء قطاع غزة من سكانه، تمهيداً لإعادة احتلاله واستيطانه، والتصعيد ضد سكان الضفة الغربية أيضاً، تمهيداً لضم أجزاء منها. المثير للتأمل هنا أن هذه الأهداف لم تبقَ في حيز الكتمان، وإنما تحدّث عنها علناً وزراء في حكومة نتنياهو، في مقدمتهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما.
اليوم، بعد أكثر من 15 شهراً من حرب الإبادة الجماعية هذه، يمكن التأكيد بثقة أن إسرائيل لم تتمكن من تحقيق أي من أهدافها. فحماس، ومعها سائر فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، ظلت تقاتل حتى اللحظة الأخيرة، وهي التي قادت بنفسها عملية التفاوض، التي استهدفت التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ووقّعت عليه نيابة عن سائر الفصائل الفلسطينية، وتتولى مسؤولية الإشراف على تنفيذه وتنظيم عمليات الإفراج عن الأسرى. وأشارت تقارير إعلامية متعددة، نقلاً عن مصادر عسكرية أميركية وإسرائيلية، إلى أن حماس تمكّنت من تجنيد ما يقرب من 15000 مقاتل في أثناء الحرب.
تجدر الإشارة هنا إلى أن حماس لم توقع على صفقة تبادل الأسرى والمحتجزين إلا بعد التأكد من أنها تلبي جميع شروطها المعلنة، وهي: وقف دائم لإطلاق النار؛ انسحاب كامل من القطاع؛ معونات إنسانية كافية لإغاثة الشعب الفلسطيني المنكوب؛ إعادة الإعمار… إلخ. ولأن المشاهد، التي نقلتها وسائل الإعلام العالمية في إبان عمليات تبادل الأسرى، توحي بأن حماس لا تزال في كامل لياقتها، فليس لذلك سوى معنى واحد، وهو أنها لم تُهزَم، لا عسكرياً، ولا سياسياً.
فإذا أضفنا إلى ما تقدَّم أن مشهد الزحف الجماهيري للأهالي من جنوبي القطاع إلى شماليه، والذي ذكّر الجميع بمشهد توجّه الحجيج إلى جبل عرفات، أكد بما لا يقبل الشك فشل مشروع التهجير القسري للفلسطينيين، فليس لذلك سوى معنى واحد، وهو أن “إسرائيل” أخفقت، في مختلف الصعد. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن جولة القتال، التي دشنها “طوفان الأقصى”، لم تُحسَم بعد.
لقد أُرغم نتنياهو على توقيع اتفاق من ثلاث مراحل، قَبِلَ بموجبه وقفاً موقتاً لإطلاق النار (يجب أن يتحول إلى وقف دائم في بداية المرحلة الثانية، لكن بعد مفاوضات جديدة تضمن الولايات المتحدة ومصر وقطر استمرارها إلى أن تُكلَّل بالنجاح). غير أن نتنياهو يكره هذا الاتفاق، ويتحيّن الفرصة من أجل التنصل منه. وفي حكومته وزراء ما زالوا يطالبونه علناً بالاكتفاء بالمرحلة الأولى، والعودة إلى القتال من جديد من أجل السيطرة على كامل القطاع وبدء استيطانه.
صحيح أن نتنياهو قد لا يستطيع العودة إلى القتال من جديد، لأسباب داخلية وخارجية كثيرة، لا مجال للخوض فيها هنا، لكنه يراهن على ترامب، الذي يستعد لاستقباله في البيت الأبيض، خلال الأسبوع المقبل.
يعتقد نتنياهو أن ترامب قادر على إخراجه من ورطته، وخصوصاً بعد التصريحات التي أدلى بها مؤخراً، والتي أشار فيها إلى رغبته في تهجير سكان قطاع غزة إلى كل من مصر والأردن. غير أن قدرة ترامب على المضي قدُماً في سيناريو التهجير، سواء كان قسرياً أو طوعياً، تبدو محدودة إلى درجة كبيرة، وخصوصاً في ظل الإصرار الأسطوري للشعب الفلسطيني على التمسك بأرضه والبقاء فيها حتى الموت، من ناحية، ولأن قبول هذا السيناريو ينطوي على مخاطر أمنية شديدة بالنسبة إلى الأنظمة العربية، من ناحية ثانية. ولا شك في أن مصر والأردن أحسَنا صُنعاً حين صرّحا، علناً ورسمياً، برفضهما القاطع لسيناريو التهجير.
ومع ذلك، يجب الانتباه لحقيقة مهمة، وهي أن ترامب لن يتردد مطلقاً في استخدام كل ما في حوزته من أدوات الإكراه والترغيب معا، أي العصا والجزرة، من أجل تمكين “إسرائيل”، وليس بالضرورة نتنياهو بالذات، من الحصول بالوسائل السياسية على ما عجزت عن تحقيقه بقوة السلاح.
بقي أن أشير إلى أن فصائل المقاومة الشعبية العربية في كل من فلسطين ولبنان واليمن أدت دورها بكفاءة عالية وباقتدار تامّ، على رغم أنها تُركت تقاتل وحيدة في هذه الجولة. وبعد أن نجحت في دفع القضية الفلسطينية من جديد إلى صدارة جدول أعمال النظام الدولي، أظن أن الكرة في طريقها الآن إلى الانتقال إلى ملعب الأنظمة العربية الرسمية، التي بات عليها أن تكمل المشوار وأن ترفض القيام بأي خطوة إضافية في اتجاه التطبيع، إلا بعد قيام دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية. أما إذا خشيت عصا ترامب، أو طمعت في جزرته، فسوف تكون شاركت بنفسها، ليس في تصفية القضية الفلسطينية فحسب، وإنما أيضاً في فتح الباب واسعاً من جديد أمام ترسيخ حلم المشروع الصهيوني بدولة “إسرائيل الكبرى”.