مقالات ورأى

أنور الهواري يكتب: قوة الشعوب

تتضافر ثلاث قوى لإنهاك شعوب الشرق الأوسط، ولولا أن هذه الشعوب وريثة حضارات عريقة ضاربة بجذورها في عمق المكان والزمان؛ لكانت نجحت القوى الثلاث في الإجهاز النهائي الحاسم على حيويتها وحوافزها وروح الفعل التاريخي الجبارة الكامنة فيها. هذه القوى الثلاث هي بالترتيب: الديكتاتوريات المحلية، الصهيونية، أمريكا والغرب. 1- الديكتاتوريات تنزع من الإنسان ما ينبغي له من حريات وحقوق، وتحرمه مما يستحقه من عدالة ومساواة وكرامة، وتضع فوق رأسه سقوفاً منخفضة غير مسموح له برفع رأسه وتجاوزها، كما تغلق عليه آفاق النمو الروحي والإنساني والعلمي؛ ليبقى أسير الأقفاص التي تفرضها الديكتاتوريات على شعوبها تحت مزاعم الوطنية والأمن القومي، فلا يكاد يوجد في الشرق الأوسط كله برلمان غير مزور وغير موجه من الحكام، إلا ربما باستثناء تركيا بعد صراع مائة عام مع ديكتاتورية الحزب الواحد. 2- الصهيونية نجحت منذ اللحظة الأولى لتأسيس دولة الكيان في كسب الاعتراف الرسمي من تركيا 1949، ثم إيران 1950، وقد تغيرت وجهة إيران بعد الثورة الإسلامية 1979م وقطعت العلاقات مع إسرائيل، وما زالت تمثل قوة التشيع المناضل ضد الصهيونية، ثم تركيا نفسها تغيرت على الصعيد الشعبي، فجاءت أحزاب تلتزم باتفاق السلام مع إسرائيل، لكنها في الوقت ذاته تعطف وتتعاطف مع الحق الفلسطيني، وقد بقي الشعب المصري منذ ظهرت الفكرة الصهيونية في حالة عداء كامل ضدها وفي حال تعاطف كامل مع الحق الفلسطيني، لكن الصهيونية رغم ذلك نجحت سواء وهي فكرة، أو عندما أصبحت دولة في الارتقاء إلى وضع مهيمن في الشرق الأوسط، فهي تخطط لتكون- في الأجل المنظور سيدة الإقليم دون منازع، سيدة الشرق، كوكب الشرق، فوق شعوب الحضارات العظيمة من فرس وكرد وترك وعرب وأمازيغ وأفارقة. لكن جاءت حرب طوفان الأقصى بين خريف 2023، وشتاء 2025 لتضع المشروع الصهيوني- الفكرة والدولة- في امتحان وجودي عنيف، وقفت الديكتاتوريات العربية والإسلامية من الحرب مواقف تتراوح بين الضعف والخنوع والتخاذل والتواطؤ، لم ترتفع دولة عربية واحدة، ولم ترتفع دولة إسلامية واحدة، ولم يرتفع العرب مجتمعين، ولم يرتفع المسلمون مجتمعين لمستوى النجدة والنخوة والهمة والمروءة، ولو في الحد الأدنى الذي تقتضيه الأخوة العربية والإسلامية مع الشعب الفلسطيني، بل إن الديكتاتورية الفلسطينية الرسمية في رام الله وقفت، مثلما وقفت كافة ديكتاتوريات العروبة والإسلام مواقف تتراوح بين الضعف والخنوع والتخاذل والتواطؤ. 3- أمريكا والغرب من نابليون بونابرت، حتى دونالد ترامب، وبينهما موجات الاستعمار الأوروبي ثم الصهيونية ثم الهيمنة الأمريكية، قوة طغيانية ضاغطة فوق الشرق الأوسط، اخترقت كافة حصون الإقليم من إيران القاجارية إلى تركيا العثمانية، ولم تتوان في إفشال المشروع العظيم لمحمد علي باشا في القرن التاسع عشر، ثم في الربع الأول من القرن العشرين، فككت الجميع، فلم تترك شبراً في الشرق الأوسط، دون أن تفككه وتخترقه وتحتويه من كل جانب، واستثار ذلك حوافز الشعوب التي انخرطت في ثورات واحتجاجات ونضالات، لم تتوقف سواء ضد الهيمنة الأجنبية أو ضد الديكتاتوريات المتواطئة معها، وعند منصف القرن بدأت الشعوب تنال استقلالها عن الاستعمار الأوروبي القديم، لكن في الوقت ذاته بدأت تتلقفها أيادي الاستعمار الأمريكي الجديد الذي بلغ ذروته مع مطلع القرن الحادي والعشرين، متزامناً مع أعنف ضربة مهينة ومذلة لكبرياء القوة الأمريكية في 11 سبتمبر 2000، هذه الضربة كشفت ضعف أمريكا مرتين: مرة في أنها حدثت بالفعل، ثم مرة ثانية، في أن أمريكا فشلت في حروبها التي أعقبتها في أفغانستان والعراق وفي مجمل العالم الإسلامي، ربع قرن من الفشل الأمريكي، أعاد انتاج نفسه في حرب طوفان الأقصى، فهي كانت في جوهرها حرباً مع أمريكا ذاتها.

المقاومة لم تكن فقط تحارب إسرائيل، لكن كانت تحارب أمريكا والغرب بالدرجة الأولى، كما أن الشعوب كان لديها هذا الوعي، كان لديها طوال الحرب التي دارت رحاها قريباً من خمسمائة يوم، أن الحرب إنما هي مع أمريكا وأوروبا، ولولاهما ما كان لإسرائيل أن تصمد، ومن ثم فإن أمريكا ومعها أوروبا مسئولون عن جرائم الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني.

في هذه الحرب، اختبرت الصهيونية وأمريكا والغرب مواهبهم الأصيلة في الإجرام والوحشية والبربرية التي لا تتورع عن ارتكاب كافة الموبقات ضد الإنسانية، اختبرت الصهيونية ومعها الحضارة الغربية قدرتها على التجرد من شرف الإنسانية الذي هو لب وجوهر النشاط الاستعماري الحديث، منذ جاءنا الفرنسي بونابرت حتى جاءنا الأمريكي ترامب.

أخطر فكرة تتوافق عليها القوى الثلاث – الديكتاتوريات والصهيونية وأمريكا ومعها الغرب- هي أن هذه المنطقة، بلا شعوب يُحسب لها حساب، أو يؤخذ رد فعلها في الاعتبار، فالديكتاتوريات تستطيع ترويضها بسهولة، ما دامت تتبع معها سياسة القبضة الحديدية، هذه الديكتاتوريات المحلية تؤدي مهمة تاريخية نافعة ومفيدة للصهيونية وأمريكا ومعها الغرب، هذه المهمة هي إبقاء همة الشعوب وحميتها وعزيمتها وغضبها وكرامتها وردود فعلها عند أدنى الحدود فلا يظهر لها ولا منها أي خطر، والأسلوب مجرب ومتبع هو حرمان هذه الشعوب من الحريات العامة مثل حريات التفكير والتعبير والتنظيم والتظاهر لتظل الشعوب حبيسة الخوف والصمت تحت مطارق القمع والقهر، هذا يفسر لك أمرين: 1 – أولهما أثناء الحرب وهو تدني مستويات الغضب المعلن في العواصم العربية والإسلامية إذا قورن بالغضب الإنساني النبيل في عواصم الاستعمار ذاته سواء الاستعمار القديم بريطانيا أو الاستعمار الجديد أمريكا ، بالقطع شعوبنا غاضبة أشد الغضب لكن مقادير الحريات المتدنية والمكبوتة حجبت وحبست مشاعر الشعوب أن تتجلى للعلن إذ لم تتورع الديكتاتوريات عن اعتقال شباب غض في عمر الزهور استجاب لعاطفته النبيلة وخرج إلى الشارع يتظاهر من أجل فلسطين .تعرف الصهيونية ، كما تعرف أمريكا ومعها الغرب، حقيقة أن الديكتاتوريات المحلية تزيف وتزور البرلمانات الوطنية وتضع يدها على منابر الصحافة والإعلام و تقيد ممارسة كافة الحريات العامة، ومن ثم فإن الصهيونية ومعها أمريكا والغرب تعتقد اعتقاداً جازماً أن الاتفاق مع الحكام كاف جداً لتحقيق أغراضها، يكفي أن يستجيب الحاكم فتنال الصهيونية مبتغاها دون خوف من رد فعل شعبي رافض، وإذا حدث رد فعل فهو في الغالب هامشي ومحدود تستطيع الديكتاتورية قمعه والفتك به في مهده.. 2 – ثانيهما بعد الحرب ، فبعد أن ساعدت إدارة الرئيس الديمقراطي بايدن الصهيونية في إبادة ما أمكن إبادته من غزة، جاء الرئيس الجمهوري دونالد ترامب بأوامر لتهجير من بقي من أهل غزة في جريمة اقتلاع بربرية أقل ما توصف به أنها تصفية وحشية للقضية الفلسطينية بصورة نهائية، أوامر ترامب لا تعني فقط أن بلادنا لا شعوب فيها لهم إرادة وهمة وعزيمة وكرامة، لكنها تعني أن لديه اعتقادا أن حكام المنطقة لا خيار لهم إلا أن يستجيبوا لأوامره، يكفي فقط تواصل عبر التلفون، اتصال شفوي غير مكتوب، لا أوراق ولا مباحثات ولا مفاوضات، هذا تطور خطير في ممارسة الهيمنة الأمريكية، هيمنة لا تكتفي فقط بازدراء الشعوب، لكن تنسف فكرة السيادة الوطنية من جذورها، تحطم بصورة كاملة، ما بقي من الاستقلال الوطني الذي كافحنا وكافحت الأجيال لأجله أحقاباً متطاولة، ليست فقط تنسف فكرة السيادة، وليست فقط تحطم بقايا الاستقلال الوطني، لكن تطعن شرف الشعوب العربية، إذ تقبل- بهذه التلفونات المذلة المخزية المهينة- تهجير من بقي من الإبادة من أهل غزة واقتلاعهم من جذورهم وإزالتهم من فوق أرضهم وتسليمهم للذوبان في المجهول من المصير والزمان والمكان.

تلفونات ترامب التي تطلب من الحكام العرب الموافقة على تهجير من بقي من أهل غزة، هي ذروة الاستعمار منذ جاءنا بونابرت، كما هي ذروة الصهيونية منذ صدر وعد بلفور، كما هي ذروة الغطرسة الأمريكية منذ ورثت الاستعمار الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية عند منتصف القرن العشرين، لكنها- مع تجميع الغطرسة ثم الفشل الأمريكي على مدى ربع قرن منذ 11 سبتمبر 2000، حتى يومنا هذا- سوف تكون بداية لاستحضار قوة الشعوب، بدلاَ من ضعف الحكام، شعوب هذه المنطقة هم أوتادها الصلبة الضاربة بجذورها في الأعماق زماناً ومكاناً وروحاً وضميراً وهمةً وعزيمةً وحمية، هذه الشعوب تؤرخ يقظتها ووعيها ونهضتها ووطنيتها وقوميتها بتاريخ التحدي والمواجهة مع الاستعمار والصهيونية وأمريكا والغرب.

منذ غزوة نابليون بونابرت حتى حرب طوفان الأقصى، والشعوب تكشف عن معدنها وجوهرها الأصيل، وتتحدى صعوبة ظروفها الشاقة، وتتجاوز مواقف حكامها الرخوة، وتنتصب لمواجهة أعدائها، وتتولى بنفسها مهمة حماية وجودها، إنها قوة الشعوب التي لم تتوقف عن التعبير عن نفسها على مدار أكثر من قرنين من عدوان الغرب علينا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى