مصر

حمدين صباحي يكتب: الخطأ الثاني.. التراخي عن التوافق على مرشح للرئاسة في 2012



واتتنا الفرصة للتطهر من الخطيئة الأولى مع حلول موعد انتخاب أول رئيس جمهورية بعد الثورة، بأن نتوافق على مرشح يصل بالثورة إلى موقع السلطة ويُصلح خطأنا الأول، لكننا أضعنا الفرصة ووقعنا في الخطأ الثاني.

ومن جديد تأكَّدت الحقيقة نفسها: أصاب الشعب وأخطأت النخبة.

الذين دخلوا جنة التحرير اكتسبوا لأنفسهم، أو اكتشفوا في أنفسهم بعض صفات أهل الجنة؛ طُهرًا في القلب ورقيًا في السلوك. تشاركوا فى الحلم والهتاف ولقمة العيش وكمامة الغاز وضُمادة الجرح وشجاعة المواجهة وبسالة الشهادة وفرحة الانتصار الأول. رغم تنوعهم وتعددهم الديني والطبقي والثقافي والجيلي والجندري والجهوي والحزبي، اتّحدوا وارتقوا فوق ما بينهم من فروق وخلافات ومرارات؛ واقتربوا من مقام “ونزعنا ما في قلوبهم من غلٍّ”.

كان التحرير جنّة للعدل والمحبة. فلما خرجوا من الجنة استعادوا سلوك أهل الأرض وفروقهم وخلافاتهم ومراراتهم ومناكفاتهم ومنافساتهم، وأخذت الشقوق تتسع ما بين شركاء الثورة. وفيما بعد، صارت الشقوق شقاقًا وخروقًا تتسع على الراتق.

وفي هذه البيئة جرت -وبسببها فشلت- محاولات الاتفاق على مرشح الثورة.

المحتَمَلُون الذين أضاعوا الاحتمال
كانت جماعة الإخوان المسلمين أكبر تنظيم حزبي، لكنها لم تكن أوسع تيار شعبي. إذ كان التيار الشعبي الأوسع وفديًا قبل ثورة 23 يوليو، وناصريًا ما بعدها.

ومع أول انتخابات تشريعية في أعقاب الثورة، تحوّلت الجماعة من شريك متكافئ بين شركاء الميدان إلى طرف مهيمن على البرلمان. كانت الانتخابات نزيهة، لم يشكك فيها أحد. لكن نتائجها ألقت بظلال الشك في قدرة شركاء الثورة على احترام قاعدة أساسية كرسها الميدان؛ “لا هيمنة ولا استبعاد”، وفي إمكانية وفاء الثورة بوعدها بإقامة دولة ديمقراطية حديثة تخدم التنوع والتعدد وتتسع مؤسساتها لتمثيله. كما أثارت نتيجة الانتخابات تخوفًا مشروعًا من هيمنةٍ تُفضي إلى إعادة إنتاج الاستبداد، حتى لو جاء المستبد عبر صناديق انتخاب نزيهة.

كان الوعي السائد لدى الجمهور والنخبة أننا مُقدمون على معركة حاسمة؛ فإما أن تكسب الثورة وتصل إلى السلطة وإما أن تخسر ويحكم الكابوس
ومن حسن حظ الثورة والإخوان أنهم تفهموا الرسالة وأقدموا على استجابة ذكية رشيدة، فأعلنوا التزامهم بمبدأ “مشاركة لا مغالبة”، وقطعوا وعدًا أذاعوه على الشعب بعدم الترشح لانتخابات الرئاسة.

ومن سوء حظ الثورة والإخوان أنهم نقضوا التزامهم وأخلفوا وعدهم، وتقدموا لانتخابات الرئاسة لا بمرشحٍ واحد؛ بل باثنين المهندس خيرت الشاطر أصليًا، والدكتور محمد مرسي احتياطيًا. وكان ذلك إعلانًا بتبنّي الجماعة منهجَ المغالبة والسعي للهيمنة على السلطة التنفيذية، بعد أن هيمنوا على السلطة التشريعية.

ورأى الشعب ذلك غير حسن.

وكذلك رآه معظم شركاء الثورة، خصوصًا من بادروا وشاركوا في مساعي التوافق على مرشح رئاسي واحد. وقد تأسست هذه المساعي على تقدير موقف منطقي، يرى أن الصراع الانتخابي سيتركز بين مرشح النظام السابق، وكان اسم الفريق أحمد شفيق هو المرجّح، ومرشح الثورة. وأن القوة التصويتية لجمهور الثورة أوسع بكثير من أنصار النظام السابق بشرط التوافق على مرشحٍ واحد، فإذا تعدد المرشحون باسم الثورة وانقسم جمهورها عليهم، فإننا أمام خطر عودة النظام السابق عبر صناديق الانتخاب.

وكان هذا التقدير المنطقي الصائب يحسب القوة التصويتية لجمهور الثورة بكل شركاء الميدان؛ بمن فيهم الإخوان.

كانت كل الحسابات والتقديرات تنتهي إلى أن الفرصة مواتية لإصلاح الخطأ الأول. وكان الوعي السائد لدى الجمهور والنخبة أننا مُقدمون على معركة حاسمة فاصلة؛ فإما أن تكسب الثورة وتصل إلى السلطة وتبدأ في تحقيق الحلم، وإما أن تخسر ويحكم الكابوس.

وكان التقدير السائد أنه لا يمكن الوصول إلى التوافق الضروري قبل المرور بمرحلة يُتاح فيها لكل من يرى في نفسه القدرة، أو حتى الرغبة، أن يطرح نفسه مرشحًا رئاسيًا، وأن يعرض نفسه وبرنامجه على الشعب، وأن يحسب فُرصَهُ وحظوظه من النجاح، ويقارنها بفُرَص وحظوظ غيره من المرشحين.

وفي هذا المناخ حمَل كثيرون صفة “المرشح الرئاسي المحتمل”. بينهم ثلاثة من قبل تفجر ثورة 25 يناير، هم -بالترتيب الزمني لطرح أسمائهم- الدكتور أيمن نور، وكاتب هذه السطور، والدكتور محمد البرادعي. واتسعت القائمة بعد الثورة لأسماء عديدة أهمّها الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، والدكتور محمد سليم العوّا، والسيد عمرو موسى، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والمستشار هشام بسطاويسي، والبرلماني أبو العز الحريري، والمحامي خالد علي.

وكان هؤلاء جميعًا يقدّمون أنفسهم، أو يقدّمُهم أنصارهم، من موقع الشراكة في الثورة، وتبنّي أهدافها ومطالبها.

محاولات التوافق على الجانب الآخر


منصور حسن، عمرو موسى، أحمد شفيق
على الجانب الآخر، كان معسكر النظام القديم. ورغم تعدد الأسماء المحتملة للترشح فإنهم توافقوا بنجاحٍ على اسم الفريق أحمد شفيق.

وفي منزلة بين المنزلتين، جرت محاولات لإقناع شخصيات وازنة بالترشح من منطلق حيازتها أرضًا للتفاهم مع معسكر الثورة دون استعداء لمعسكر الدولة، كان أهمها السيد منصور حسن.

وقد دعاني حسن إلى حوارٍ ودود في منزله، سألني فيه إذا ما كنت مع فكرة التوافق على مرشح رئاسي وكانت إجابتي: نعم. واستطلع استعدادي للاتفاق مع الفريق أحمد شفيق، وكانت إجابتي: لا. ثم خلص إلى أنه يفكر جديًا في الترشح للرئاسة واقترح عليّ أن أكون نائبًا للرئيس.

شكرت ثقته التي أعتز بها، واستأذنته في مهلة للتشاور والتفكير. ولم يُتح لي إبلاغه باعتذاري قبل أن يعلن هو تخليه عن فكرة الترشح.

الفرص الضائعة
تعدَّدت مساعي التوافق على مرشح الثورة، وتميزت بينها ثلاثة مسارات.

المسار اﻷول كان أبكرها. دعا إليه جمع من قيادات شباب الثورة، وحضر أولى جلساته السادة محمد البرادعي، وعمرو موسى، وهشام بسطاويسي، ومحمد سليم العوّا، وعبد المنعم أبو الفتوح، وحازم صلاح أبو إسماعيل، وكاتب هذه السطور، وعدد من قيادات الحملات الانتخابية، من بينهم حسام مؤنس مدير حملتي، الذي واصل حضور الجلسات القليلة التالية.

إذا كان قرارهم التوافق على أبو الفتوح سأعلن تنازلي لصالحه وتأييدي له غير أني لن أقبل موقع نائب الرئيس
لكن هذا المسار لم يصل إلى نتيجة، وترشَّح كل المشاركين في جلسته اﻷولى عدا البرادعي، واستُبعدَ الشيخ أبو إسماعيل بعد تقديم أوراق ترشحه، كما شمل الاستبعاد الدكتور أيمن نور، والمهندس خيرت الشاطر، واللواء عمر سليمان.

المسار الثاني هو “لجنة المائة”، التي تشكلَّت من طيف متنوع من المثقفين والقادة السياسيين الذين لعبوا دورًا مشهودًا في الثورة، وطوال سنوات التحضير لها تحت حكم مبارك. وأدار معظم جهودها الدكتور عبد الخالق فاروق، وكان بين أقطابها الدكتور عمار علي حسن الذي نشر شهادته عنها منذ سنوات.

استهدفت اللجنة التوافق على “فريق رئاسي”، بمن فيه من رئيس ونائب للرئيس، وخَلُصَت إلى أن الأكثر فُرصًا تصويتيًا هما عبد المنعم أبو الفتوح وكاتب هذه السطور. وفي لقاء الهيئة الممثلة للجنة معي أبلغتهم موقفي بوضوح، وهو أنني أثق في نزاهتهم وحرصهم على مستقبل الثورة، وسألتزم بالقرار الذي يصلون إليه ويبلغونني به، فإذا كان قرارهم هو التوافق على الدكتور عبد المنعم فإنني سأعلن تنازلي لصالحه وتأييدي له، غير أني لن أقبل موقع نائب الرئيس، وهذا يعطيه فرصة انتخابية أفضل مع التزامي بدعمه رئيسًا في حال نجاحه.

وإذا كان قرارهم التوافق على شخصي، فإنني ألتزم وأرحب بأبو الفتوح نائبًا للرئيس.

ولم تبلغني اللجنة حتى يوم إجراء الانتخابات بما دار مع عبد المنعم وقتها، ولم تبلغني بأي قرار، لأنها -كما علمت فيما بعد- لم تتمكن من الوصول إلى قرار.


عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي في مسيرة متجهة إلى ميدان التحرير للاحتجاج على الأحكام الصادرة بحق الرئيس المخلوع حسني مبارك، 5 يونيو 2012
المسار الثالث استهدف توحيد موقف اليسار المصري بالاتفاق على مرشح واحد من بين الأربعة المنتمين له فكريًا وحركيًا. وقد أدار هذا المسعى قادة الحملات الانتخابية الأربعة وممثلوها، وانتهوا إلى تحضير اجتماع حاسم يحضره المرشحون اﻷربعة ليصلوا إلى قرار يُعلن في مؤتمر صحفي مشترك.

انتظرنا.. لكن خالد علي لم يصل فلم نصل إلى قرار
وفي الموعد والمكان المحددين، وبعد نقاش وتبادل للمعلومات، أعلن المستشار هشام بسطاويسي عزمه التنازل لصالحي. وأعرب الأستاذ أبو العز الحريري عن موافقته على رأي المستشار بسطاويسي مبدئيًا، غير أنه طلب الانتظار لحين وصول الأستاذ خالد علي -وكان متأخرًا- والاستماع لرأيه لنصل إلى قرار نهائي جماعي. فانتظرنا.. لكن خالد علي لم يصل، فلم نصل إلى قرار.

خسرت الثورة.. الفائزة
جرت الانتخابات الحاسمة، وأُعلنت النتائج، فجاءت الأرقام كاشفة وصادمة: 51.11% من الأصوات للثورة، 24.78% لجماعة الإخوان المسلمين، و23.66% للنظام القديم. ورغم هذا خسرت الثورة.

خسرت الثورة لأن الجماعة اتفقت على مرشح واحد، والنظام القديم اتفق على مرشح واحد، لم يحصل أي منهما على ربع الأصوات، لكنهما تصدرا النتيجة وتأهلا لجولة الإعادة. أما الثورة التي حصلت على أكثر من نصف الأصوات، وكانت تكفيها للفوز في الجولة الأولى، فقد أهدرت فرصتها بسبب فشل نخبتها في التوافق. وتفرّقت أصواتها على المرشحين باسمها: حمدين صباحي 20.72%، عبد المنعم أبو الفتوح 17.47%، عمرو موسى 11.13%، محمد سليم العوّا 1.01%، خالد علي 0.58%، أبو العز الحريري 0.17%، هشام البسطاويسي 0.13%.

وحتى لو أخذنا بالرأي القائل أنه ليس من الدقة حساب أصوات عمرو موسى ضمن أصوات الثورة، فإن النتيجة ستبقى حيازة الثورة المركز الأول بنحو 40%.

مجددًا، وبالأرقام، يتأكد صواب الشعب ويتكرر خطأ النخبة.

بين الأسى والامتنان
إعلان النتيجة الرسمية كان، ولم يزل، لحظة غمرني فيها شعور عميق باﻷسى والامتنان معًا. اﻷسى ﻷن الثورة أضاعت من يدها فرصة استكمال مسيرتها بالوصول إلى السلطة، وفتحت بابًا واسعًا لتراجعها وانكسارها؛ وكنت مع باقي المرشحين سبب هذا الانكسار.

والامتنان، من بعد الله، لخمسة ملايين من المصريات والمصريين أعطوني أصواتهم، وطوقوني بدين الثقة والمحبة الذي أسعى، ولآخر العمر، لسداد قسط منه. وﻵلاف المتطوعات والمتطوعين الذين كوّنوا حملتي الانتخابية بتلاحمهم الواسع مع النواة التنظيمية من قيادات وأعضاء حزب الكرامة، الذي أشرُف بانتمائي له. هؤلاء انتشروا في كل قرية ومدينة، بإيمان وحماس وحيوية مبهرة، بمبادرات ذاتية مبدعة، وبتنسيقٍ راقٍ مع إدارة متفانية وواعية، يتقدمها القائد الكفء الواعد أخي/ابني حسام مؤنس.

حين سُئلت عن موقعي وأنصاري في جولة الإعادة قلت هم شركاء لا أتباع
والامتنان كذلك لعشرات الخبراء والباحثين وأساتذة الجامعات والمفكرين والمثقفين الذين أسهموا في صياغة البرنامج الانتخابي باجتهاد منجز، عبر لجنة أدارها بدأبٍ كريمٍ المفكر الموسوعي والعالم الجليل الدكتور بهي الدين عرجون.

كما شرُفت بمساهمات لامعة من عميد التربويين العرب الأستاذ الدكتور حامد عمار، وشيخ خبراء الشؤون الإفريقية الأستاذ حلمي شعراوي، وخبيرة التنمية الريفية الأستاذة الدكتورة ماجدة غنيم، وأستاذ العلوم الزراعية الدكتور زكريا الحداد، وترأس لجنتها الاقتصادية الباحث اللامع رائد سلامة.

والامتنان كذلك للنخبة الثقافية والسياسية اللامعة التي أضفى تأييدها على حملتي ألقًا ووهجًا وتأثيرًا شعبيًا واسعًا. وﻵلاف المتبرعين لتمويل حملتي، خصوصًا من الفقراء والبسطاء والطبقة الوسطى؛ الذين تبرعوا بنصيب اﻷسد من تكاليف الحملة، دون أن نعدم دعم بعض الميسورين ماليًا وعينيًا، ومن بينهم الدكتور ممدوح حمزة، الذي صمَّم وموَّل أطول لافتة/بانر تأييد فيما عرفت من انتخابات، امتدت بضعة كيلومترات على كوبري أكتوبر في قلب القاهرة.

وسط شباب الحملة ووسائل الإعلام أعلنت قبولي بنتائج الانتخابات. وحين سُئلت عن موقعي وأنصاري في جولة الإعادة، قلت هم شركاء لا أتباع ولهم حرية الاختيار. أما أنا فيُحزنني أن شعبنا قد فُرض عليه الآن أن يختار بين الرمضاء والنار.

لقاء على النيل
دعاني الدكتور محمد مرسي، كما دعا الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، إلى لقاء ثلاثي في فندق يطل على نيل القاهرة. وعرض عليّ أن أكون نائبًا لرئيس الجمهورية معه حال نجاحه، فقلت له إنني طلبت تجميد عضويتي في حزب الكرامة الذي أشرُف بالانتماء إليه، وأعلنت ذلك يوم ترشحي لأن يقيني أن رئيس الجمهورية في مصر يجب أن يكون مستقلًا متحررًا من أي قيد حزبي، لا يخضع إلا للدستور ومصالح كل الشعب. فإذا أكدت لي الآن أنك ستجمد عضويتك في جماعة الإخوان فإنني أرحب بمناقشة العرض الذي تفضلت به.

لم يقدم الدكتور مرسي جوابًا شافيًا، وما كان بمقدوره أن يجمّد عضويته في الجماعة. وما كان بمقدوري أن أقبل العرض. فشكرت ثقته واعتذرت.

وجرى في الاجتماع نفسه مع الدكتور عبد المنعم ما جرى معي، ووصل إلى النتيجة نفسها للسبب نفسه.

واعتذاري عن قبول موقع نائب رئيس الجمهورية الذي عرضه عليَّ الدكتور محمد مرسي منتصف 2012، يستدعي التذكير بأنني في نهايات 2011 كنت اعتذرت أيضًا عن قبول موقع نائب رئيس الوزراء الذي وافق عليه الفريق سامي عنان، رئيس أركان القوات المسلحة حينها، باقتراح من الصديق العقيد محمد بدر، الذي كان قبل دوره السياسي ومشاركته في ثورة يناير، ضابطًا مقاتلًا في جيش مصر.

وكان بدر هو الذي أبلغني وطلب موافقتي أن نكون -عبد المنعم أبو الفتوح وأنا- نائبين لرئيس الوزراء في حكومة الدكتور كمال الجنزوري، بقرار يُصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فاعتذرت له شاكرًا، ومنوهًا بأنني سأدعم أبو الفتوح حال قبوله العرض.

إن تنازُلَ عدد من المرشحين لصالح أحدهم لا يمنحه أصواتهم فقط بل أضعافها من الأصوات المترددة
كان جمع من شباب الثورة بانتظارنا عقب الاجتماع مع مرسي، وكان الإحساس بمرارة الاختيار الذي فرضته نتيجة الانتخابات طاغيًا، واقترح معظمهم أن نذهب إلى ميدان التحرير حيث يحتشد الآلاف. وذهبت إلى الميدان، لم أُعلن أبدًا رفضي لنتيجة الانتخابات، إلا أن هذه الزيارة فُسِّرت على هذا النحو. وهو تفسير له منطقه في سياقه. وتلقيت انتقادات بسببها، وهي انتقادات تقبّلتُها مدركًا أنني أخطأت التقدير بإقدامي عليها في تلك الظروف.

حين أُراجع نفسي في هذا الخطأ لا أجد لي فيه نصيبًا يوجب الاعتراف به والاعتذار عنه. لكن نفسي اللوامة تنبهني إلى تقصير يستحق اللوم في موضعين:

الأول، أنني لم أُصمّم على استكمال شوط التوافق الذي كان معلقًا على رأي خالد علي. كنا قد قطعنا ثلاثة أرباع الطريق بالموقف الراقي المسؤول الذي اتخذه المستشار هشام بسطاويسي وموافقة أبو العز الحريري. لماذا لم نُكمل الربع المتبقي من هذا الطريق؟ لماذا لم نُتابع خالد علي ونجتهد في إقناعه، فلربما وافق، ولو فعل لتفادينا هذا المآل المأساوي بين الرمضاء والنار؟ فقد كنت، كما قالت الأرقام، قاب قوسين أو أدنى من جولة الإعادة.

ومن خبرة التجارب الانتخابية فإن تنازل عدد من المرشحين لصالح أحدهم لا يمنحه أصواتهم فقط، بل أضعافها من الأصوات المترددة التي تفضل التصويت لمرشح التوافق. لو أنجحنا هذا التوافق الرباعي لكان دخول الإعادة راجِحًا، ومن بعده الفوز في الإعادة مؤكَدًا. هذا المسعى كانت أمامه إمكانية النجاح، لكنني قصّرت فيه.

الموضع الثاني كان قُبيل يوم الانتخابات؛ حضر إلى مقر حملتي المهندس أبو العلا ماضي والأستاذ عصام سلطان، ممثلَين لحملة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، يحمِلان اقتراحًا بتنازلي لصالحه، لأن فرصه في التصويت أكبر من فُرصي.

واستمعا إلى الرد من منسق حملتي الأستاذ حسام مؤنس، وقُطبَي الحملة المهندس خالد يوسف والأستاذ سيد الطوخي. وهو الرد ذاته الذي استمعا إليه في لقاءٍ مماثل عقداه قبلها في فندق بالدقي مع المهندس محمد سامي رئيس حزب الكرامة والمهندس كمال زايد نائب رئيس الحزب.

وكان ردهما أن التقدير المتوافر لديهم من متابعة سير الحملة، أن كاتب هذه السطور سيحصد أصواتًا أكثر من أبو الفتوح تؤهله للمنافسة على المركز الأول، وأنه في كل الأحوال يضمن موقعًا في المراكز الثلاثة الأولى التي لن يتمكن منها أبو الفتوح. وبما أن المُفاضلة ليست بين الرجلين في ذاتيهما، وإنما بين فرصهما في التصويت، وبما أن المعركة فاصلة وحاسمة في تحديد مستقبل الثورة، فإن الواجب يفرض تنازل عبد المنعم أبو الفتوح. وزاد خالد يوسف على طريقته أنه يراهنهما على صحة تقديره. ولم يتفق الطرفان.

الآن في هذه المراجعة وبعد ما شهدته مصر من انحسار الحلم وتغول الكابوس ألوم نفسي
لم أكن حاضرًا هذا اللقاء، ولو كنت حاضرًا في هذين اللقاءين لما اختلفت في تقدير الموقف الانتخابي، فقد كنت أثق في دقة تقديرات حملتي، فضلًا عن ثقتي في الله والشعب، وفي حدسي. لكنني كنت سأختلف في النتيجة التي خرج بها اللقاءان.

فرغم أن نتائج الانتخابات أثبتت صحة تقديرات حملتي، فإنني الآن، في هذه المراجعة، وبعد ما شهدته مصر من انحسار الحلم وتغول الكابوس، ألوم نفسي لأنني لم أهتدِ وقتها إلى الحكمة التي تناقلها تراثنا في قصة “أم الوليد”.

تحكي القصة عن امرأتين تنازعتا أمومة طفل وليد، ولم يكن برهان إحداهما ظاهرًا موثقًا، فأمر القاضي بمنشار ليقطع الطفل نصفين ويعطي كل منهما نصفًا، وعندها صاحت الأم الحقيقية متنازلة عن طفلها إنقاذًا لحياته.

أقول لنفسي الآن لو عاد بي الزمن لما تراخيت، ولدعوت كل مرشحي الثورة لاجتماع موحد أستهله بتقديم تنازلي ودعمي للمرشح الذي نتوافق عليه. ولما اعتبرتها تضحية، بل إنقاذ للثورة وتزكية لنفسي. وألوم نفسي الآن لأنني لم أتمكن وقتها من صعود هذا المرتقى الصعب.

هذه القصة من ملف المنصة تنشر مراجعات حمدين صباحي عن ثورة يناير
نصيبي من الخطأ| مساهمة في النقد الذاتي
حمدين صباحي _ كل امتناني لمن يشاء أن يتكرم بقبول اعتذاري. لكنني أرجو ما هو خيرُ وأبقى: أن نتشارك التعلم من أخطائنا، كي لا تنكسر ثورةٌ أخرى.

نصيبي من الخطأ| الخروج من الجنة
حمدين صباحي _ فشلنا في تشكيل قيادة مُفوضة شعبيًا نحاسبها على إدارة الدولة واستكمال الثورة. وقد كنت واحدًا من هؤلاء. أشهد أنني أخطأت وأُقر بنصيبي من الخطأ وأعتذر عنه.

نصيبي من الخطأ| أصاب الشعب وأخطأت النخبة
حمدين صباحي _ رغم أن نتائج الانتخابات أثبتت صحة تقديرات حملتي، فإنني الآن في هذه المراجعة، وبعد ما شهدته مصر من انحسار الحلم وتغول الكابوس، ألوم نفسي.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى