مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: أطالب وزير الثقافة بتحقيق فوري في فساد قصور الثقافة

منذ عدة أيام، تلقيت محادثة خاصة من أحد قيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة ردًا على إحدى مقالاتي، حيث ذكرني بأنه لا ينبغي لي أن أنسى أنني أحد كتاب الأقاليم.

وأود أن أقول له، سواء كنت متهكمًا أو مادحًا، فإن فخري يكمن في كوني أحد كتاب الأقاليم، بل وأحد أبناء الهيئة العامة لقصور الثقافة التي كانت في يوم من الأيام قلعة من قلاع الثقافة المصرية.

لا أحتاج أن أذكرك بكل كتّاب الأقاليم الذين أثروا الحركة الثقافية ليس في مصر فحسب، بل في العالم أجمع. وسأكتفي بالحديث عن بعضهم من بلدي أسيوط، مثل الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي، الشاعر حافظ إبراهيم، الكاتبة أمينة السعيد، الدكتور مجدي يعقوب، الكاتب كمال الملاخ، الكاتب لويس جريس، الكاتب أحمد بهاء الدين، الشاعر محمود حسن إسماعيل، الوزير والكاتب جمال العطيفي، والشاعر صلاح عبدالصبور، وغيرهم الكثير.

ولكنني أيضاً لا أستطيع أن أغفل الحديث عن أحد كتاب الأقاليم رائد التنوير الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي يئن في قبره بسبب سرقة مخطوطاته من مكتبة قصر ثقافة طهطا منذ عام 2018، وهو دليل حي على الفساد الذي يحل بصرح ثقافي كان في الماضي مصدر إشعاع للمعرفة.

فلا يمكننا الحديث عن الثقافة المصرية اليوم دون أن نشير إلى الانهيار الكارثي الذي يعصف بمؤسساتها، خاصة الهيئة العامة لقصور الثقافة، التي تحولت على مدار الأعوام الأخيرة إلى مرتع للفساد والإهمال الإداري.

تكاد جميع الأقلام الحرة من داخل أروقتها أن تكتب عن تلك الفوضى المدمرة التي جعلت من هذه الهيئة، التي كانت يوماً ما منارة للثقافة والإبداع، مكانًا لامتصاص الأموال وتدمير الأحلام.

فمنذ 5 شهور وتحديداً يوم 28 من شهر أغسطس عام 2024، كنت قد كتبت مقال عن فساد قصور الثقافة، معترفًا بتأثير الفساد المدمر على الحركة الثقافية، لكن لم يكن يعقل في حينها أن يكون هذا الفساد قد وصل إلى أبعاد كارثية، تجذر في كل زاوية من زوايا الهيئة وأقسامها، كما نراه اليوم.

فوجئتُ، كما فوجئ الملايين من قراء موقع “أخبار الغد“، بحجم الفساد المستشري في الهيئة العامة لقصور الثقافة، الذي تم الكشف عنه عبر سلسلة من الملفات التي نُشرت على الموقع.

جاءت هذه الملفات لتكشف عن تفاصيل صادمة حول الفساد المستشري في مختلف الإدارات، وفي مقدمتها الإدارة العامة للمراجعة الداخلية والحوكمة “التي كانت تعرف سابقًا بالإدارة العامة للتفتيش”، بالإضافة إلى الإدارة المركزية لإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي، والإدارة المركزية لإقليم وسط الصعيد الثقافي.

كما تم تسليط الضوء على التلاعب في الإدارة العامة لفرعي ثقافة أسيوط والمنيا، مما يثبت حجم الأزمة التي تعصف بالهيئة ويجعلنا نطرح أسئلة مشروعة حول أسباب غياب المحاسبة والإجراءات الفعالة ضد هؤلاء المتورطين في الفساد والوقوف علي صدق ما نشر من عدمه قد يكون الزملاء محرري التقارير قد جانبهم الصواب

لذلك أطالب من هنا وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو بتشكيل لجنة مختصة تحت إشرافه المباشر من وزارة الثقافة، لتولي مهمة التحقيق في ملفات الفساد المنتشرة في الهيئة العامة لقصور الثقافة، وبشكل خاص في الإدارات الخمس التي تم الإشارة إليها.

يجب إحالة المتورطين في هذه القضايا، بغض النظر عن مناصبهم، إلى نيابة الأموال العامة للتحقيق معهم بشأن الجرائم المالية المرتكبة واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقهم.

كما يجب إحالة المتورطين في قضايا الفساد الإداري إلى النيابة الإدارية لتطبيق الجزاءات المناسبة، وإقالة المسؤولين المتورطين على الفور، لأنهم لا يسيئون فقط إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة، بل أيضًا إلى وزارة الثقافة بشكل عام ولضمان الشفافية والنزاهة في المؤسسة الثقافية .. يجب الوقوف على صدق ما تم نشره من عدمه، وإثبات أن هناك إرادة حقيقية للتغيير والمحاسبة.

فأنني أسجل اليوم ما أراه أشد من مجرد كلماتٍ على ورق أو مجرد مقال رأي شخصي من دون مبالغة، فإن الفساد الذي استشرى في الهيئة العامة لقصور الثقافة جعلها عاجزة عن القيام بأبسط مهامها الثقافية، حتى تحولت إلى مجرد واجهة فارغة لا تعكس الصورة الحقيقية للثقافة المصرية.

فقد تحدث الوزير الدكتور أحمد هنو بعد توليه الوزارة عن خطط كبيرة لبناء الشخصية المصرية وتعزيز الريادة الثقافية، لكن للأسف، جرى تهميش هذه التصريحات لصالح المصالح الخاصة التي تسير عكس الاتجاه تمامًا. قوبل حديثه عن الإصلاح بعقبات هائلة تمثلت في شبكة معقدة من الفساد الذي يكاد يكون بلا حدود.

ما حدث لا يمكن أن يُقبل على الإطلاق. إن الفساد في الهيئة لا يتوقف عند مستويات إدارية بسيطة، بل يتغلغل حتى يصل إلى العمق، ويشمل أقسامًا حيوية في أكبر الهيئات الثقافية في مصر.

تتساقط في الظلام ملفات الفساد التي تشير إلى اختلاس الأموال وتهريبها إلى جيوب الفاسدين. تضاعف هذا الوضع الكارثي في الأقاليم، حيث لا تكاد تخلو محافظة من وجود انتهاكات وفضائح متورط فيها رجال كانوا بالأمس مجرد موظفين على ورق، واليوم أصبحوا فاسدين يعيثون فسادًا دون رقيب أو حسيب.

تم تحطيم هياكل كبيرة من أجل مصالحة ضيقة، ومصالح شخصية تمتد من الإدارات المركزية والإدارات العامة إلى الفروع الثقافية، تاركة وراءها تأثيرات كارثية على الثقافة المصرية.

كل هذا يُعرض على طاولة وزارة الثقافة منذ أشهر، ولا نرى تحركًا حقيقيًا يذكر. إعلانات إصلاح ووعود لا تغني ولا تسمن من جوع، والنتائج صفر.

الفساد يتمدد بينما يواصل المسؤولون تجنب المسؤولية، مما يجعلنا نطرح سؤالًا حقيقيًا: هل هناك بالفعل إرادة صادقة للتغيير؟ هل من الممكن أن نراهن على تطهير حقيقي، أم أن النظام الثقافي سيظل في حالة تراجع مستمر حتى يصل إلى نقطة اللاعودة؟

الفساد ليس مجرد قضية مالية، بل قضية حياة أو موت لكل فكرة إبداعية وكل مشروع ثقافي. فكما قتلوا آلاف الأفكار بفسادهم، قتلوا روح الإبداع التي كانت يومًا تشع من داخل قصور الثقافة.

إن كان الإصلاح سيعني شيئًا، فإنه يتطلب شجاعة غير تقليدية. يتطلب رجالًا يضعون الثقافة نصب أعينهم أكثر من أي شيء آخر.

بينما تظل الكارثة تتراكم، لا يبدو أن أحدًا في موقع المسؤولية على استعداد لتحمل المسؤولية. الفساد في الهيئة العامة لقصور الثقافة قد أصبح من القضايا الحاسمة التي لا يجب تجاهلها بعد اليوم. يجب أن نصر على تحقيق العدالة وتقديم الفاسدين إلى المحاكمة، مهما كانت مناصبهم أو خلفياتهم.

مصر تستحق أكثر من مجرد هياكل فارغة تُسمى قصور الثقافة. تحتاج إلى عقل جديد، إلى روح جديدة، هي بحاجة إلى رؤية جديدة، إلى تجديد في الفكر والإرادة الحقيقية من أجل استعادة بريقها الثقافي من بين يدي الفساد الذي أدمى جسدها الثقافي على مدار سنوات طويلة.

يجب أن نتحرك الآن، ليس فقط لمحاكمة المتورطين، بل من أجل استعادة الأمل والمستقبل الثقافي، واستعادة الحق في المعرفة والفن بعيدًا عن براثن الفساد الذي عصف بكل زاوية في المنظومة الثقافية.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى