في لحظة استثنائية ليست كسائر اللحظات، وسط مشهد تجاوز حدود الزمن وأسر الألباب، وقف القائد يحيى السنوار بين مقاتليه. الغبار يكسو ملابسه البسيطة، السماء تهتز من فوقه بصوت المعركة. وأزيز القصف يخترق الأجواء، بينما هو، بثباته الراسخ وعينيه التي تشع عزماً، يرفع صوته مردداً كلمات تجاوزت حدود الزمن لتُصبح رمزاً للنضال والصمود.. “وللحرية الحمراء باب… بكل يد مضرجة يُدق”.
لم يكن المشهد عادياً، ولم تكن تلك الكلمات مجرد اقتباسٍ عابر من صفحات التاريخ. كانت صرخةً خالدة استنهضت الأرواح، كلماتٌ خطها أمير الشعراء أحمد شوقي قبل ما يقارب القرن، لتصبح صرخةً تتردد في ميادين النضال، بدايةً من دمشق وصولاً إلى غزة. وبينما كان شوقي يرثي الثورة السورية الكبرى عام 1926، كانت كلماته تُهيئ لتاريخٍ ممتدٍ من المقاومة، حيث الحرية هي الغاية، والتضحية هي الثمن.
بينما كانت دمشق غارقة تحت نيران القصف الفرنسي، وأخبار المجازر ترتجف لها القلوب. في ذلك الوقت، كان أحمد شوقي يجلس في حديقة الأزبكية بالقاهرة، يحمل في قلبه هموم الأمة العربية، ويبحث عن كلمات تعبر عن آلام الثورة السورية الكبرى. وبينما كانت قصص صمود الثوار تُحكى، من جبل العرب إلى ساحات دمشق، خطر له بيتٌ سيُخلد في الذاكرة “وللحرية الحمراء باب… بكل يد مضرجة يُدق.”
في إحدى الأمسيات، احتشد الناس في حديقة الأزبكية لحضور حفل تضامني مع سوريا. صعد شوقي إلى المنصة، يكسو وجهه الحزن. بدأ بإلقاء قصيدته الشهيرة “نكبة دمشق”، تلك القصيدة التي رثى فيها الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي. وعندما وصل إلى البيت الخالد:
“دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نور وحق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يُدق”
اهتز المكان بالتصفيق والهتافات. لم تكن مجرد أبياتٍ شعرية، بل كانت نداءً صادقاً يحاكي جراح الشعب السوري وثورته.
في ذلك الوقت، كانت الكلمات تجد طريقها إلى الثوار في الجبال. كانت بمثابة تعويذة ترفع الروح المعنوية وتُذكر الجميع أن الحرية ليست هبة، بل تُنتزع بالتضحيات.
مرت السنوات، وظل بيت شوقي يعيش في ميادين النضال، شاهداً على كل تضحية وكل دمعة وكل صرخة حُر. وفي عام 2024، عاد البيت ليصدح من جديد، حين وقف يحيى السنوار وسط رفاقه في غزة. تحت سماءٍ يعصف بها الغبار وأصوات الانفجارات، ردد السنوار بصوتٍ قوي:
“وللحرية الحمراء باب… بكل يد مضرجة يُدق.”
كان المشهد رسالةً صريحة بأن النضال مستمر، وأن غزة اليوم تسير على خطى دمشق بالأمس. الدماء التي سالت دفاعاً عن الكرامة في سوريا هي ذاتها التي تُراق اليوم في فلسطين، والرسالة واحدة: الحرية لها ثمن، وثمنها هو التضحية.
ما قاله السنوار لم يكن مجرد بيتٍ شعري، بل رسالة إلى العالم أجمع. الحرية ليست شعاراً يُرفع في المؤتمرات أو خطاباتٍ تُلقى، بل هي معركة تُخاض، ودماءٌ تُراق، وتضحياتٌ تُقدَّم.
“وللحرية الحمراء باب… بكل يد مضرجة يُدق.”
هذا البيت الذي خطه شوقي قبل مائة عام، أصبح إرثاً خالداً يربط الماضي بالحاضر، وحلقةً تجمع بين أحرار الأمة. من دمشق إلى غزة، ومن سلطان باشا الأطرش إلى يحيى السنوار، يبقى الدرس واضحاً: الكرامة لا تُوهب، بل تُنتزع.
الحرية، ذلك الباب المضمخ بالدماء، سيظل شاهداً على تضحيات الأبطال. ورغم مرور الزمن، ستظل كلمات شوقي شعلة تنير طريق النضال.
رحم الله أحمد شوقي، أمير الشعراء، ورحم الله يحيى السنوار، أمير الشهداء، وجميع من حملوا راية الحرية بدمائهم وأرواحهم.