تقاريرمقالات ورأى

حمدين الصباحي: نصيبي من الخطأ .. مساهمة في النقد الذاتي

إلى حسام مؤنس وجيله

إلى كل المعتصمين بالأمل

والذين هجروا الأمل ويراودهم الحنين إليه


أقعد في ظلال الصورة وأتردد في النظر إليها، كلما ارتفعت نظرتي إلى مقامها العالي أضاءني الأمل وأعتمني الأسى.

أتأمل الحشد الهادر في الميدان، أُمعن التحديق في الوجوه، وجهًا وجهًا، أراهم يتألقون بتوهج الحلم وجسارة الفعل وسطوع اليقين.

أين هم الآن؟ وأي مشاعر تكسو وجوههم بعد سنوات الخذلان؟ إنهم جسد الثورة الذي توزعت أشلاؤه على الطرقات والبيوت والسجون، ينتظر إيزيس لعلها تستعيد لُحمة لَحمه المنثور.

كنت هناك، خاشعًا في صلاة الحرية، في التجلي الأبهى لشعب عظيم، الكل في واحد، بالقلوب والحناجر والسواعد ودماء الشهداء، يخلقون “جنة التحرير” ويشرعون أبوابها للحالمين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

حمدين صباحي في مكتبه المنزلي بشرق القاهرة، 23 يناير 2025

“الشعب يريد إسقاط النظام”، فلما سقط رأسه -فقط رأسه- كنس الحالمون الطيبون أرصفة الميدان وخرجوا من الجنة. في نشوة اللحظة المنتصرة طغى العَشَم، والغُشم، فلم ننتبه لهول ما سنقاسي طوال أربع عشرة سنةً عجاف ينحسر فيها الحلم ويتغوَّل الكابوس.

لم تكتمل ثورة يناير، لم تنتصر لكنها لم تُهزم. لقد انكسرت وانتكست وحُوصرت وانحسرت وشُوهت وسُرقت ولاقت من صنوف التنكيل ما يشفي غليل الكابوس في انتقامه من الحلم. لكنها لم تزل على قيد الحياة والأمل. لم تزل طاقة الفرح في قلوب حزينة وطريق الخلاص لشعب مثقل بالمظالم والحرمان.

لم تنكسر الثورة فقط بسبب أساطين الكابوس بكل لؤمهم وبطشهم وترابطهم، وإنما -أيضًا- بسبب أولياء الحلم بكل غفلتهم وأخطائهم وتفرقهم. وأنا واحد مِمَّن أخطأوا. ولعل أخطائي أفدح وأوجع بقدر اتساع دائرة من أحبّوني وتعشمّوا فيَّ وراهنوا عليَّ.

أشهد أنني أخطأت.. وأقدم لكم اعتذاري

كم يحزنني شعورهم بخيبة رجائهم وبأنني خذلتهم.

لهذا أكتب هذه الرسالة، لأقول لهم: أشهد أنني أخطأت، وأقدم لكم اعتذاري. اعتذار لا يقتصر على من أحبوني، وإنما يمتد إلى كل من أحببتهم، وقد أحببت كل من شاركوا في “جنة التحرير”، وافقوني أو خالفوني، من الشهداء والجرحى والمعتصمين والمتظاهرين، إلى الذين لم يدخلوا الميدان لكنهم استحضروه في قلوبهم، إلى كل من حدثته نفسه بالدعاء أن ينصر الله الثورة ويحمي الثوار.

كل امتناني لمن يشاء أن يتكرم بقبول اعتذاري. لكنني أرجو ما هو خيرٌ وأبقى: أن نتشارك التعلم من أخطائنا، كي لا تنكسر ثورةٌ أخرى.

أبدأ بنفسي

انكسرت ثورة يناير ،”واللي انكسر يتصلّح”

انكسرت ثورة يناير ،”واللي انكسر يتصلّح” كما تقول حكمة شعبية بسيطة عميقة تُلهم أولياء الحلم في مواجهة “اللي انكسر عمره ما يتصلح” التي يتسلح بها مروجو الكابوس.

ثورات الشعوب ليست طريقًا ممهدًا ولا خطًا مستقيمًا، وما أكثر وأعظم الثورات التي تعرضت للانتكاسات والهزائم المؤقتة والانكسارات، وخاضت جولات من الكر والفر ومقاومة الحصار حتى اكتمل لها الانتصار؛ هذه إحدى سنن التاريخ وليست 25 يناير استثناءً منها.

لكنَّ انتصارَ ما انتكس وإصلاحَ ما انكسر مرهون بتوافر ظروف مواتية ومقومات كافية، في القلب منها تبلور بديل منظم كفء قادر، حائز على تأييد شعبي متسع. وهذا هو الواجب الأول والأهم الذي يتطلب الكثير من الاجتهاد الفكري والدأب الحركي.

إنه واجب الوقت، وكل وقت، والذين يندبون أنفسهم للنهوض به سيكونون أقرب للنجاح كلما حرصوا على استيفاء شرطين متكاملين؛ أولهما تجديد الإيمان بضرورة وإمكانية الثورة، وثانيهما القدرة على نقد مسيرة هذه الثورة. فكل نقد من موقع الولاء للثورة هو تحصين لأولياء الحلم من تكرار أخطائهم وتمكينهم من إصلاح ما انكسر.

لم يكن الإنسان ليتمكن من بناء حضارته وتجديدها عبر التاريخ لولا قدرته على اكتشاف أخطائه والتعلم منها، وهذا جوهر النقد ومقصده، ثم تأهيل نفسه للتصحيح وامتلاك مقومات تمكين الصواب. حتى ليمكن القول إن التاريخ هو تجلي اجتهاد الإنسان في تصويب الخطأ وإصلاح ما انكسر وتطويع ما استعصى، عبر سعيه لإشباع حاجاته ونيل حقوقه وتحقيق غاياته.

وكم ترافق النقد مع مراحل التطور والتجديد والازدهار، قدر ما تلازم التواطؤ والإنكار مع فترات الركود والتخلف والانحدار. وهذه سُنَّة أخرى من سُنن الاجتماع البشري، تدعو للقول بأن ممارسة النقد فريضة واجبة على كل عاقل يريد حياة أفضل للإنسان. أو فضيلة يليق بكل راشد حر أن يتحلى بها.

كان الربيع العربي تجليًا تاريخيًا عظيمًا وفريدًا لقوة الشعب، ثم سرعان ما حل الخريف موحشًا

كان الربيع العربي، وفي القلب منه ثورة 25 يناير، تجليًا تاريخيًا عظيمًا وفريدًا لقوة الشعب، وإلهامًا آسرًا تجاوبت معه الدنيا بأكملها، وتفتحت معه مليون زهرة تُبشِّر بزمن جديد للعدل والمحبة والكرامة. ثم سرعان ما حل الخريف موحشًا، وطاردت كوابيس الأمس أحلام الغد السعيد، وانتكست ثورات الربيع في أقطار الوطن العربي، ما عدا الثورة الناجية -حتى الآن- في تونس، التي لم تزل تتعثر في محاولتها لتجسيد ما بشرت به.

ورغم مرور السنين، فإن هذا الحدث التاريخي الجلل -رغم إسهامات ثاقبة عديدة- لم يحظَ بما يليق به من درس وفحص، ولم يقدم المنتمون إليه ما يليق به وبهم من نقد ونقد ذاتي، يعينهم والآتين من بعدهم على استيعاب درس النكسة والتهيؤ لاستكمال الثورة. فما بين هتاف من امتدحوا الثورة صادقين وسباب من لعنوها حانقين، وفي حمى الاستقطاب وترويج الكراهية، لاقت الثورة فائضًا من المدح أو السباب، وندرةً في النقد.

كلنا يعرف أن كل ابن آدم خطاء، وبعضنا يؤمن أن خير الخطائين التوابون، وقليلنا يُقدم على الاعتراف بالخطأ. حتى أمسى النقد والنقد الذاتي فضيلة متروكة أو فريضة مهجورة، علينا أن نؤذن لأدائها.

ومن أذّن لفريضة وجب عليه أداؤها، ومن دعا لفضيلة سُئل عن التحلّي بها. لهذا أبدأ بنفسي. لكنني لا أطمئن للقيام بواجب النقد ما لم أسبقه بالنقد الذاتي، فنقدي لنفسي واعترافي بأخطائي في مسيرة الثورة يسبق نقدي لسواي، هذا أوجب وأليق وهو أزكي للنفس.

حتى لا تنكسر ثورة أخرى

بهذا يتحدد مضمون هذا النص في عرض “نصيبي من الخطأ” دون استغراق في التفاصيل، فلست بصدد التأريخ للثورة، وإنما التركيز على أخطائي في مسيرتها، والتي أعرضها في خمس نقاط: 

  1. الفشل في تشكيل مجلس رئاسي مدني يتولى السلطة في المرحلة الانتقالية
  2. التراخي في التوافق على مرشح يمثل الثورة في انتخابات 2012
  3. العجز في مواجهة بوادر الردة بعد 3 يوليو 2013
  4. ترشحي لانتخابات الرئاسة 2014
  5. التقصير في بناء التنظيم

ثم أختم هذا النص بمحاولةٍ لنقدِ وعيى الذاتي، ووعي النخبة التي شاركت في الثورة، أعرض فيها باختصار لبعض المفاهيم التي أراها أنضج وأنفع، تعلمتها من أخطائي ومن تأمل مسار ومآل التجربة.

في مناخ التربص كل اعتراف منّا بأخطائنا يذخِّر بنادق الثورة المضادة المصوبة نحو صدورنا

بهذه الرسالة أؤدي واجبي الإنساني والأخلاقي، راجيًا أن تصل لقلوب وعقول من يتلقاها، وأن تحقق لهم ما حققت لي من سلام مع النفس. وأؤدي بعض واجبي تجاه المستقبل وأجياله الجديدة، لعل الوعي بأخطائنا يجنبهم تكرارها.

وأرجو لمساهمتي هذه أن تُشجِّع شركاء الميدان على أن يسهموا بنقدهم لمسيرة الثورة، ونقدهم الذاتي لدورهم فيها، فلعلنا معًا نثري حوارًا نقديًا جماعيًا رشيدًا يليق بنُبْل حلمنا ودماء شهدائنا وتضحيات مصابينا ويعيننا على أن نكمل المشوار. نحتاج إلى مشاركة جماعية، لأن كل نقد فردي لا بد أن يتأثر بوعي الناقد وانحيازاته، مهما تحرَّى الموضوعية والإنصاف.

وخلف كل مساهمة نقدية يكمن مثال نظري من القيم والمعايير والتصورات والـ”ينبغيّات” التي تُشكِّل مرجعية الناقد في حكمه على الحدث، وتكون مسطرة القياس التي تحدد درجة الخطأ أو الصواب فيما ينتقد.

والنقد ليس مجرد إصدار حكم قيمي على الواقع قياسًا على المثال؛ بل هو تقييم للواقع في سياق الظروف المتعينة التي حكمته في زمانه ومكانه، وإدراك خلَّاق للبدائل الممكنة في نفس الظروف. وهو ما أتحراه هنا قدر استطاعتي، فضلًا عن تحرِّي الإنصاف المستطاع في نقدٍ ذاتيٍّ مهددٍ بالانزلاق إلى إحدى نزعتين: التواطؤ على النفس تجمُّلًا أو جلد الذات تطهُّرًا.

وأعلم أنه في مناخ التربص وغياب قيمة الإنصاف، فإن كل اعتراف منّا بأخطائنا يمكن أن يذخِّر بنادق الثورة المضادة المصوبة نحو صدورنا منذ سنوات، وأن يُنزع من سياقه ليرمي حطبًا في نار الكابوس الموقدة لشَيِّ أولياء الحلم. وما كان لهذا التربص أن يمنعنا من أداء فريضة النقد. وما كنا لننتقد أنفسنا لولا ثقتنا بالنفس وبالثورة من بعد ثقتنا في الله والشعب، ولولا اليقين المُطمَئِن أننا اخترنا الطريق الصحيح.

نعم؛ أخطأنا أثناء السير لكننا لم نخطئ اختيار الطريق. نعم؛ انكسرنا لكننا لم نهزم. نعم؛ خسرنا لكننا لم نستسلم. والهزيمة المرحلية لا تنزع بطولة الثورة، والخسارة لا تنزع شرف الثوار. ما ينزع البطولة والشرف هو الاستسلام، هو الكف عن المحاولة، هو التخلّي عن الأمل. وبنا أمل لا نتخلى عنه ولا يتخلى عنّا، يحيا بنا ويُحيينا، نحرسه ويحمينا، ومعًا سنبقى حتى نحققه ويحققنا. ولنا من الإيمان والعزم والنقد ما يعيننا على تصويب أخطائنا وتجاوز انكسارنا ومواصلة الطريق حتى اكتمال النصر.

وسأحمل هذا الحنين

 إلى أوَّلي وإلى أوله

وسأقطع هذا الطريق 

 إلى آخِري وإلى آخِره(*)


اقرأ أيضا

ما بعد يناير: مذكرات جيل يحاول التجاوز


في نهاية المقدمة، أقدم واجب الشكر لصديقي الأستاذ محمد غريب، الشاعر المرهف الذي حرّضني على الشروع في هذا النقد الذاتي، والعرفان والامتنان لابنتي الأستاذة منى سليم الصحفية والكاتبة النابهة، التي لولا عونها الكريم ومثابرتها الملهمة ما أنجزت هذا النص، وللنخبة المتميزة من أخوتي وأصدقائي الأحباء، الذين راجعوا هذا النص وكان لملاحظاتهم الصائبة عظيم الفضل في تدقيقه(**).


(*) محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيدًا.

(**) شرعت في تدوين هذا النص أغسطس/آب 2018 وظل قيد التدقيق والصياغة لمدة عام.

هذه القصة من ملف  المنصة تنشر مراجعات حمدين صباحي عن ثورة يناير


نصيبي من الخطأ| مساهمة في النقد الذاتي

حمدين صباحي _  كل امتناني لمن يشاء أن يتكرم بقبول اعتذاري. لكنني أرجو ما هو خيرُ وأبقى: أن نتشارك التعلم من أخطائنا، كي لا تنكسر ثورةٌ أخرى.

المصدر: بوابة المنصة الإليكترونية

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى