مقالات ورأى

يوسف عبداللطيف يكتب: فؤاد باشا سراج يتحدى الاحتلال ويصنع ملحمة لن تُنسى

شهد التاريخ المصري لحظة فارقة في 25 يناير 1952، حينما رفض فؤاد باشا سراج الدين، وزير الداخلية في ذلك الوقت، الخضوع لأكبر قوة احتلالية آنذاك إذ تصدي لهم ورفض الاستسلام بشجاعة وبطولة نادرة .. ومنذ ذلك اليوم، يحتفل الشعب المصري بعيد الشرطة سنويًا تكريمًا لهذا القرار التاريخي، الذي أثبت أن السيادة الوطنية لا تُباع، وأنه لا مجال للمساومة على الكرامة الوطنية.

وأرسى فؤاد باشا سراج الدين معاني الفداء التي خلّدها التاريخ، هذه هي الشخصيات التي يقتدي بها كل مواطن يؤمن بوطنه .. إذ وجه أوامره الصريحة للشرطة المصرية في الإسماعيلية بالصمود .. وقاد رجال الشرطة معركة غير متكافئة، لكنهم أبوا أن ينحنوا أمام جبروت الاحتلال البريطاني. حاصر البريطانيون مبنى المحافظة بقوة هائلة، فيما لم يمتلك رجال الشرطة سوى بنادق قديمة، لكن الإرادة لم تهتز.

تحدى فؤاد باشا سراج أوامر البريطانيين بصلابة، وأمر رجاله بعدم تسليم أسلحتهم، وأعاد تصوّر معركة الإسماعيلية، وقد أمر رجال الشرطة بالثبات أمام مدافع الإنجليز، ليشهد الجميع معركة من نوع نادر قلّما يواجهه التاريخ الحديث. ارتفعت قامة الشرطة المصرية يومها، كما ارتفع الدم في العروق، وصار المشهد وكأنه مسرح من القوة والتحدي؛ معركة لم تكن متكافئة، لتشتعل المواجهة بين 850 شرطيًا و7 آلاف جندي بريطاني. قاوم رجال الشرطة لأكثر من 6 ساعات، بينما كان الاحتلال يقصفهم بمدافعه الثقيلة.

استدعى الإنجليز ضابط الاتصال المصري وأمروه بتسليم الأسلحة، ولكن سراج الدين أظهر موقفًا لا يتكرر في التاريخ. أمر بالصمود رغم كل المعطيات التي كانت تشير إلى أن المعركة خاسرة. لم يكن الفارق في العدد ولا العتاد ليمنع رجال الشرطة من تقديم التضحيات. هذه التضحيات يجب أن تكون اليوم في الذاكرة الوطنية كدرس لا ينسى، وتذكير لكل رجل شرطة بأن شرف المهنة يرتبط بالدفاع عن الوطن لا بمصالح ضيقة أو فساد.

لم يسأل أحد عن فرص النصر، ولم يبحثوا عن مخرج، بل تمسكوا بمواقفهم رغم علمهم بعدم وجود أي احتمال للنجاة .. فقد أذهلت الشجاعة التي أظهرتها الشرطة المصرية في هذه المعركة العالم، وأذهل القائد البريطاني أكسهام نفسه أمام الشجاعة المصرية، إذ رأى 50 شهيدًا والعديد من المصابين دون أن يرفع أحدهم الراية البيضاء، ورفض هؤلاء الأبطال الاستسلام حتى الرمق الأخير.

لم تكن المسألة مجرد موقف سياسي أو مقاومة سطحية، بل كان هناك موقف كرامة خالص، موقف يعبر عن روح مصرية لا تقبل الانحناء. من المؤكد أن رجال الشرطة الذين قاتلوا في ذلك اليوم، لم يكونوا مجرد جنود يخوضون معركة عابرة، بل كانوا يكتبون صفحات من الشرف التي يندر أن تتكرر في التاريخ.

أيقن القائد البريطاني أكسهام أن روح الشرطة المصرية لا يمكن كسرها .. فكانت المعركة غير عادلة من حيث العدد والتسليح، لكن ذلك لم يثن رجال الشرطة عن أداء واجبهم، لكن فؤاد باشا رفض الانصياع لأي تهديد. جعل هذا القرار الباشا رمزًا للصمود الوطني.

واجه فؤاد باشا سراج هذه الأزمة بروح قائد لا يقبل الهزيمة، وأثبت أن الكرامة الوطنية لا تقاس بعدد الجنود أو نوعية السلاح، بل بالإرادة والعزيمة .. واستدعى البريطانيون القوة العسكرية الضخمة في محاولة لترهيب الشرطة المصرية، ولكنهم لم يتمكنوا من تحقيق نصر معنوي. كتب رجال الشرطة يومها صفحة مشرقة من تاريخ الكفاح الوطني.

طالب فؤاد باشا بالصمود حتى آخر جندي، ما جعل معركة الإسماعيلية لحظة فاصلة في تاريخ المقاومة المصرية ضد الاحتلال. أرسل الباشا رسالة قوية إلى الشعب المصري والعالم، مفادها أن مصر لا تخضع لقوة خارجية مهما كان جبروتها. تحدى الشرطة البريطانية ولم يترك فرصة للهروب أو الاستسلام، وبدلاً من ذلك، قرر فؤاد باشا بوضوح أن يرفض أي محاولة من الإنجليز للتفرد بالشعب أو استغلال اللحظات الصعبة للسيطرة.

طلب فؤاد باشا من كل شرطي في الإسماعيلية أن يستمر في القتال حتى النهاية، ولم يتراجع، ولم يتفاوض على الكرامة، فكانت تلك المعركة أيقونة للصمود المصري وقد واجه رجال الشرطة مدافع العدو ببنادق قديمة، دون تردد أو خوف وهكذا كان. لم تكن تلك مجرد معركة عسكرية، بل كانت رسالة إلى العالم، أن مصر لن تكون أبدًا أرضًا مستباحة. أي جنون هذا الذي قاده فؤاد سراج الدين، إذ حول مواجهة محسومة عسكريًا إلى انتصار أخلاقي وسياسي ما زال يتردد صداه إلى اليوم.

استمر الإنجليز في إطلاق النار، لكنهم لم يتمكنوا من كسر إرادة الشرطة المصرية. فقدوا السيطرة على الوضع النفسي، رغم تفوقهم العسكري. تصرف فؤاد باشا بعقلية الزعيم الذي يرى في كل معركة فرصة لإظهار عظمة بلده، حتى لو كان الثمن أرواحًا غالية. أراد الإنجليز احتلال القاهرة لتكميم أفواه الفدائيين، لكنهم لم يستطيعوا اختراق جدران الإسماعيلية إلا على جثث الشهداء.

كرس فؤاد باشا سراج جهوده لحماية الكرامة المصرية، ونجح في تحويل المواجهة إلى رمز تاريخي للصمود. كان من السهل تسليم الأسلحة والخروج من المواجهة، ولكن فؤاد باشا قرر أن يخوض هذه المعركة المستحيلة ليضع بصمة لا تُنسى في الذاكرة الوطنية.

سعى فؤاد باشا سراج إلى تحويل الشرطة إلى أداة حماية للوطن والمواطن، ولم يسمح للاحتلال باستفراد الشعب. رفض الرضوخ لأي تهديدات، واستخدم شجاعته لتكون قدوة لكل من جاء بعده في سلك الشرطة. تحتم علينا اليوم أن نتذكر تلك اللحظة، ونتمنى أن يلفظ جهاز الشرطة كل من يسعى لتشويه صورته أو يضر بسمعة مصر.

صارت الإسماعيلية رمزًا لتحدي الظلم والاستبداد، وأصبح فؤاد باشا سراج الدين أحد أعمدة الوطنية المصرية التي لا تعرف التنازل. وبينما يحتفل المصريون كل عام بعيد الشرطة، لا يمكن أن يغيب عن الأذهان الدور البطولي الذي قام به هؤلاء الرجال في أصعب الأوقات. ليس فقط في الماضي، بل نتطلع اليوم أن تستكمل الشرطة مسيرتها المشرفة، وأن تُلفظ كل من يحاول تشويه سمعتها أو يلحق الضرر بسمعة الوطن.

استلهم رجال الشرطة الشرفاء اليوم الدروس من تلك اللحظة التاريخية، وعلينا أن نرى فيهم تلك الروح التي أظهرها رجال الإسماعيلية. يتطلب الوضع اليوم من الشرطة المصرية مواصلة هذا الإرث النضالي والتخلص من أي فرد يسيء إلى الوطن أو الشعب.

ونتمنى اليوم أن يسير رجال الشرطة على خطى أسلافهم، وأن يطهروا جهاز الشرطة من كل من تسول له نفسه الإساءة لسمعة هذا الجهاز الوطني. أن يكون لكل شرطي في مصر نفس الروح القتالية التي كانت لدى رجال الإسماعيلية. وإذا كانت تلك المعركة قد رسمت صورة مشرفة للشرطة في الماضي، فإن الشرطة اليوم مدعوة لاستكمال تلك الصورة بالدفاع عن حقوق المواطنين وحماية الوطن بكل نزاهة.

بقي فؤاد باشا سراج الدين رمزًا للقيادة الحقيقية. لم يكن مجرد وزير داخلية، بل كان زعيمًا عرف كيف يقود معركة كرامة أمام أكبر قوة احتلالية في ذلك الوقت.

المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى