مقالات ورأى

د.عدنان منصور يكتب: الإمبراطور والإمبراطورية! من سياسة الأخلاق إلى أخلاق السياسة!

أن يتحدث رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب أثناء حفل تنصيبه عن برنامج وخطة عمله في الداخل الأميركي، فهذا شأنه وشأن مواطنيه الأميركيين. لكن أن يتعاطى منذ انتخابه وحتى هذه اللحظة في سياسته الخارجية كالثور الهائج الذي لا يعير أيّ أهمية لمن يجده في طريقه من دول على الساحة العالمية، أكانت صديقة أو حليفة للولايات المتحدة أو معارضة وعدوّة لها، فهذا أمر مستهجَن وغير مقبول.
قد يسلك الإمبراطور الأميركي طريق القوة الغاشمة ويفرضها فرضاً على الآخرين، لكنه لا يستطيع اكتساب ثقتهم واحترامهم ومحبّتهم له، ولا لإمبراطوريته، طالما يجسّد في داخله أخلاق السياسة المقيتة والعنجهية القبيحة للولايات المتحدة، التي لا تختلف مطلقاً عن سياسات القهر والاستبداد، والعنصرية، والاستغلال، والاستعباد، التي عرفتها معظم شعوب العالم، ومارستها قوى الاستعمار القديم بكافة أنواعه وأشكاله وعيوبه.
يريد الإمبراطور أن تكون الولايات المتحدة، قوية، وأعظم دولة في العالم، وهذا حقه، لكن كيف؟! ليس على حساب الشعوب، وحريتها، وكرامتها، وسيادتها، واستقلالها.
هو ترامب الذي جاهر بضمّ كندا كي تصبح ولاية من الولايات المتحدة، دون أيّ اكثراث بإرادة وقرار شعب كندا وحكومتها.
هو ترامب الذي يريد ضمّ جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك إلى بلاده، أو بالسيطرة عليها «لضمان الأمن الدولي»، غير عابئ بالقوانين الأممية، ولا بسيادة الدنمارك عليها، التي ترتبط والولايات المتحدة بالحلف الأطلسي!
هو ترامب، الذي جاهر علانية دون أيّ اعتبار للآخرين، غير مكترث بهم، فاتحاً شهيته الواسعة التي لا حدود لها، لا تعرف لياقات ولا ضوابط، يطالبهم باستخفاف ما بعده استخفاف، بالمال وبما يملكون مقابل حمايتهم، وضمان استمرارية حكمهم، وبقائهم على كراسيهم!
هو ترامب الذي يريد أن يفرض الرسوم والضرائب على الحلفاء، والأصدقاء، والأعداء أياً كانت التداعيات والنتائج على اقتصاداتهم، وعلى معيشة شعوبهم. هو يريد فرض رسوم بنسبة 25%على السلع الواردة من المكسيك وكندا اعتباراً من أول شباط/ فبراير المقبل، ويريد نصف قيمة الـ «تيك توك»، في حال التوصل معها إلى اتفاق، وإلا وقف نشاطها داخل الولايات المتحدة.
هو ترامب الذي بقراره أعاد وضع اسم كوبا على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، قرار رأت فيه الصين أنه «يكشف تماماً وجه الولايات المتحدة المتسلّط والمتنمّر»، والذي يثير الشكوك حول صدقية واشنطن بعد أن أزيلت كوبا عن القائمة وأعادها ترامب مجدداً.
هو ترامب المصمّم على استرجاع قناة بنما، وكأنها ملك الولايات المتحدة! عندما تقرَّر بناء قناة بنما لربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ، في السنوات الأولى من القرن الماضي، طلبت الولايات المتحدة ورئيسها ثيودور روزفلت من كولومبيا، حيث كانت بنما جزءاً من الأراضي الكولومبية، أن توقع مع واشنطن معاهدة تسلّم كولومبيا بموجبها القناة إلى اتحاد مالي أميركي شمالي. عندما رفضت كولومبيا طلب واشنطن، أرسل الرئيس روزفلت سفينة حربية محمّلة بالجنود، حيث قاموا بغزو بنما وأعلنوا بنما دولة مستقلة، ومن ثم تمّ تعيين حكومة عميلة وقّعت مع واشنطن معاهدة القناة الأولى عام 1903 التي أتاحت لأميركا إنشاء منطقة أميركيّة على طرفي الممر المائي، كما شرّعت التدخل العسكري الأميركي الذي أدّى إلى سيطرة أميركية فعلية على هذه الدولة الجديدة، التي حكمتها عائلات ثريّة، وضعت نفسها في خدمة المصالح الأميركية، ونسقت مع «سي أي آي»، وكانت خير عون لشركات النفط الأميركية وشركة الفواكه المتحدة.
استمرّ الحال حتى عام 1977 حيث تقرَّر تسليم القناة لدولة بنما، وذلك بموجب معاهدتين وقعتا بين الرئيسين الأميركي جيمي كارتر والزعيم الوطني لبنما عمر نوريغس الذي تصدّى بكلّ قوة للنفوذ الأميركي، والاستغلال الذي كانت تمارسه الشركات الأميركية العاملة في بلده. المعاهدة الأولى نصّت على تسليم تدريجي للقناة إلى السيادة البنمية بحلول 1999. والمعاهدة الثانية حدّدت كيفية ضمان حياد القناة بعد نقلها لتظلّ مفتوحة أمام الدول كافة.
في عام 1999 تسلّمت بنما رسمياً السيطرة الكاملة على القناة منهية قرناً من النفوذ الأميركي المباشر على الممرّ المائي الحيوي وأيضاً على دولة بنما.
هو ترامب الذي يريد تغيير اسم خليج المكسيك المتعارَف عليه جغرافياً ودولياً إلى خليج أميركا.
هو ترامب الذي أبدى على الملأ انحيازه الكامل للاحتلال «الإسرائيلي»، لم يتردّد «بعدالته»، و»مناقبيته الأخلاقية والإنسانية»، في إلغاء عقوبات فرضتها إدارة بايدن على مستوطنين «إسرائيليين» ارتكبوا أعمال عنف في الضفة العربية!
هو ترامب الذي يريد أن يفرض اتفاقات «أبراهام» عن طريق القوة، والتهديد، والابتزاز، والضغوط على الدول العربية التي لا تزال حتى إشعار آخر خارج فخ اتفاقات «أبراهام»، وما تحمله في ثناياها من مشاريع خطيرة تمسّ الأمن القومي العربي، وترمي إلى جعل العالم العربي مستقبلاً في قبضة الإمبراطورية، تديره وتسيّره ربيبتها في تل أبيب.
هو ترامب الذي يهدّد إيران إنْ لم تتجاوب مع واشنطن لإجراء مفاوضات حول ملفها النووي السلمي، متوعّداً بفرض المزيد من العقوبات الخانقة بحقها.
هو ترامب الذي لوّح بالتوقف عن شراء النفط من فنزويلا، لأنّ لدى الولايات المتحدة ما يكفي، لكنه لم يتوقف عن فرض العقوبات عليها.
هو ترامب الهائج الذي فرض رسوماً جمركية مشدّدة على الواردات الصينية أثناء ولايته الأولى، متهِماً الصين بممارسات تجارية «غير نزيهة»، ومتوعّداً بزيادة الرسوم الجمركية مجدّداً على المنتجات الصينية، ما جعل نائب رئيس الوزراء الصيني في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس يحذر من «أن لا رابح في الحروب التجارية، وأنّ
الحمائية لا تقود إلى مكان».
هو ترامب الذي قرّر أن يعيد «العصر الذهبي لأميركا»، ويريد فرض رسوم جمركية وضرائب على دول أجنبية ومنها دول منطقة اليورو، وبالذات ألمانيا، ما دفع بالمفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية، ليحذر بعد خطاب ترامب، من أنّ أيّ نزاع تجاري ستكون كلفته الاقتصادية كبيرة على الجميع بما في ذلك الولايات المتحدة.
رئيس وزراء فرنسا فرانسوا بايرو حذّر من انّ فرنسا والاتحاد الأوروبي قد يُسحقان بسبب سياسة ترامب المعلنة إذا لم يتحركا لمواجهتها، ورأى أنّ الولايات المتحدة تريد اتّباع سياسة مهيمنة بشكل لا يصدق من خلال الدولار.
كما أنّ المسؤولة في البنك المركزي الأوروبي إيزابيل شنابل لم تستبعد حرباً تجارية مع الولايات المتحدة، ورأت أنه أمر محتمل جداً في ظلّ رئاسة ترامب، محذرة من أنّ الأمر ستكون له عواقب سلبية على الحركة التجارية والأسعار.
هذا الذي ينتظره العالم من ترامب، وهو بهيَجانه وتلويحه بالقوة، يذكّرنا بعبارة شهيرة للزعيم الصيني ماو تسي تونغ يقول فيها: «تولد القوة من ماسورة البندقية». فكيف الحال مع ترامب إذا كانت قوة الولايات المتحدة تولد ليس فقط من فوهة بندقية واحدة، وإنما من فوهات بنادق عديدة: عسكرية، واقتصادية، ومالية ونقدية، وإعلامية، ما يجعل الرئيس الأميركي على الدوام أكثر هيجاناً، يفعل ما يشاء على الساحة العالمية، ويثور متى أراد ودون أي اعتبار لحقوق الآخرين، ضارباً عرض الحائط بالقوانين والأعراف، والاتفاقات الدولية، التي تلزم دول العالم وبالذات الولايات المتحدة لتوقف سطوتها واستبدادها، وعنجهيتها، وفلتانها الذي تجاوز كلّ الحدود.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى