مقالات ورأى

د. عادل راشد يكتب: وما رفعت غزة الراية البيضاء

ما إن تم توقيع عقد الهدنة وخروج أهل غزة فرحين معلنين انتصارهم؛ إذا بطابور طويل من الفَشَلة فاقدي أهلية المواجهة الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وكانت تدور أعينهم من الخوف كالذي يُغشى عليه من الموت يحسبون كل صيحة عليهم، يصطفون على طريق الذل ويقذفون المقاومة من كل جانب، ويكتبون بأقلام الخزي ومِداد الهوان كلمات العار، ليغتالوا الفرحة وليجعلوا النصر هزيمة.

عندما فصل الشهيد يحيى بجنوده -بعد مرحلة إعداد لا تخطر على قلب بشر-، وقال لهم: من يبايعني على الموت؟ رفعوا أيديهم مبايعين وأكف ضراعتهم إلى الله مستنصرين، ثم نادى في المسلمين عربا وعجما: مَن ينصرنا وله الجنة؟ فجاءه الجواب بلسان الحال قبل المقال: اذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا إنا ها هنا قاعدون لا طاقة لنا اليوم بنتنياهو وجنوده، ولا قوة لنا بأمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ولئن عمّ الطوفان، فإننا سنأوي إلى جبل الذل يعصمنا من الماء، إنكم توردون أنفسكم موارد التهلكة.

ولما اشتدت الحرب وحَمِيَ وطيس المعركة، وبدأت آلة القتل تعمل وأخذت مواكب الشهداء تأخذ طريقها إلى الجنة، قال هؤلاء: هذا ما قلناه لهم وحذرناهم منه، أما نحن، فقد أنعم الله علينا إذ لم نكن معهم شهودا، وأخذ هؤلاء المرجفون يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، مستغلين جراحات إخواننا وصرخات أطفالهم، ودموع ثكلاهم وتهديم بيوتهم؛ لمزيد من همز المقاومة ولمز المقاومين والنيل منهم، فماذا هم قائلون اليوم؟

هل سيكف هؤلاء المعوقون من شيوخ العار ولِحى الزور وعمائم السوء، وكُتّاب العلمانية ومرتزقة الأنظمة وعملاء أوسلو ودايتون وخفافيش التنسيق الأمني مع العدو المجرم؛ عن سلقكم بألسنة حِداد؟

لن ينتهي المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في كل المدائن، حتى يغيض الماء وترسو سفينة التحرير رافعة عَلَمَ الحق وتستوي على أرض فلسطين المباركة. ومن أجل ذلك، لم ترفع غزة الراية البيضاء.

يقولون -ويقول بعض المخلصين أيضا-: لقد كانت حسابات الطوفان خاطئة وقد خلّفت خمسين ألف شهيد ومائة ألف جريح، ناهيك عن التدمير الشامل لكل مظاهر الحياة، وما كان لحماس أن تستفز عدوها على هذا النحو دون حسابات موازين القوى!!

وأنا أرجع بهم إلى التاريخ سريعا لعلي أُنَشِط ذاكرتهم؛ هل استفزتهم حماس -بل هل كانت موجودة أصلا- وتسببت في مؤتمر بازل سنة 1897، أو اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916، أو وعد بلفور سنة 1917، أو مجزرة دير ياسين سنة 1948، أو اجتياح مصر والجولان سنة 1967، أو حريق المسجد الأقصى سنة 1969، أو مجزرة بحر البقر سنة 1970، أو احتلال جنوب لبنان سنة 1978، أو احتلال بيروت سنة 1982، وماذا فعلت حسابات القوة إذ تلقت جيوشكم العربية مجتمعة هزيمة نكراء سنة 1948؟ من أجل ذلك “لم ترفع غزة الراية البيضاء”.

لم تسلم المقاومة من التواطؤ أو الرغبة في الخلاص منها فقال الذي أبغضهم من مصر لعدوهم لا تكرموا مثواهم، بل زاد وزايد عليهم، وقال نصا يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2023: “بإمكان إسرائيل إذا كان هناك نية لتهجير الفلسطينيين من غزة توجد صحراء النقب في إسرائيل تنقلهم إليها لحين الانتهاء من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة، والتخلص من حماس والجهاد الإسلامي وغيرها من الجماعات المسلحة، ثم ترجعهم بعد كده إذا شاءت”.

ثم ها هم أولاء يخرجون علينا بأثواب الوطنية ومسوح الدفاع عن القضية ناهيك عن جهود الوساطة!!

وهنا ما رأيك في أن إسرائيلكم تلك، لم تستطع تهجير أهل غزة طوعا أو كرها إلى صحراء النقب ولا إلى غيرها؟

ما رأيك في أن إسرائيلكم تلك، لم تستطع تصفية المقاومة ولا القضاء على حماس والجهاد الإسلامي ولا غيرها؟

وما رأي جهابذة التحليل السياسي الذين يأبون تسمية ما حدث نصرا، وما زالوا يرون أن حسابات المقاومة كانت خاطئة وأن الكلفة باهظة؟

  • أليست خطة التهجير قد سقطت؟
  • أليست خطة الجنرالات قد سقطت؟
  • أليست خطة التمركز وعدم الانسحاب من نتساريم وفيلادلفيا قد سقطت؟
  • أليست خطة القضاء على المقاومة قد سقطت؟
  • أليست خطة استرداد الرهائن بالقوة قد سقطت؟
  • وبعد ذلك وقبل ذلك، أليست معركة كسر الإرادة قد فشلت؟

غزة الصامدة التي لم ترفع الراية البيضاء، تحتاج الآن إلى إعمار النفوس المكلومة قبل البيوت المهدومة، تحتاج إلى مواساة الأمهات الثكالى والأطفال اليتامى والزوجات الأيامى. غزة لا تحتاج إلى حساباتكم السياسية وتحليلاتكم العبقرية، فإما أن تقولوا خيرا، أو لتصمتوا.

المشكلة عند الكثيرين، هي منطلقات التفكير واختلاف المقاييس والمعايير. وهنا يحضرني حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الطائفة المقاومة ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين”. فاعتناق الحق والدفاع عنه والظهور به والموت في سبيله، هو عين النصر وهو عقيدة المسلم، أما مسألة حسابات تكافئ القوى وحسابات العدد -رغم أهميتها-، فمردود عليها قديما وحديثا بنصوص القرآن والسنة أو بشواهد التاريخ. ولا يفوت فتى مميز أن جهاد الدفع غير جهاد الطلب، وهو متعين على كل مسلم ومسلمة إذا انتهكت الحرمات واستبيحت المقدسات واحتلت الأرض واعتدي على العرض، فوجب الجهاد بالمستطاع فقال تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”، وقال عز وجل: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”.

من أجل ذلك أخذت غزة بالأسباب وجاهدت بالمستطاع.. ولم ترفع غزة الراية البيضاء.

غزة صمدت في وجه عدوها وحلفائه من قوى الاستكبار والاستعمار، وما وهنت لِما أصابها من أسراب الطائرات وترسانات الأسلحة وأساطيل البحر ودبابات البر ومدافع البغي.

غزة لم تخطئ في حساباتها، اللهم إلا تقديرها لحجم الدعم والنصرة من الدول العربية والإسلامية، ولم يخطر على قلب قادتها هذا الخذلان والخزي والعار والانبطاح، بل ومساعدة البعض لأعداء الأمة، وما حدث في الداخل من خونة التنسيق الفاجر مع العدو الغاصب.

غزة الصامدة التي لم ترفع الراية البيضاء، تحتاج الآن إلى إعمار النفوس المكلومة قبل البيوت المهدومة، تحتاج إلى مواساة الأمهات الثكالى والأطفال اليتامى والزوجات الأيامى. غزة لا تحتاج إلى حساباتكم السياسية وتحليلاتكم العبقرية، فإما أن تقولوا خيرا، أو لتصمتوا.

وسلام على أهل فلسطين سلام على شعب غزة العظيم.

سلام على غزة روح الروح.

سلام على غزة التي أحيت ما مات من الأمة.

سلام على غزة ما وهنت لما أصابها في سبيل الله، وما ضعفت وما استكانت وما استسلمت، وما رفعت الراية البيضاء.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى