كشف أكذوبة “المليون كتاب” وتداعيات فساد قطاع النشر في وزارة الثقافة
تسعى وزارة الثقافة بشكل مستمر إلى تصدير حلول سطحية لمشاكل قطاع النشر داخل مؤسساتها، دون أن تحرك ساكنًا في معالجة جذرية للمشاكل التي تؤثر في جودة العمل الثقافي.
من أبرز هذه المشاكل هي قضية “مبادرة المليون كتاب” التي تمت إطلاقها تحت شعار تفعيل استراتيجية بناء الإنسان المصري. ورغم الهدف المعلن لهذه المبادرة،
إلا أن الوقائع تشير إلى أن هذه الخطوة ما هي إلا محاولة لتغطية الفساد الذي ينخر في العديد من قطاعات الوزارة المسؤولة عن النشر.
تنتشر في مختلف قطاعات وزارة الثقافة المسؤولة عن النشر، مثل المركز القومي للترجمة والهيئة العامة لقصور الثقافة وصندوق التنمية الثقافية والهيئة المصرية العامة للكتاب ودار الكتب والوثائق القومية والمجلس الأعلى للثقافة، حالة من الازدواجية والتضارب.
تقوم هذه المؤسسات بنشر نفس العناوين بصورة مكررة دون تنسيق أو مراعاة لاحتياجات السوق. بل إن البعض منها يقوم بتكديس الكتب في المخازن، في وقت يشهد فيه القطاع الثقافي أزمات كبيرة في مجال توزيع وتوفير الكتب للمواطنين.
تتراكم كتب المؤسسات المذكورة بآلاف النسخ، تصل أعدادها إلى المليون نسخة في بعض الأحيان، تتكدس في المخازن ولا تجد طريقها إلى الجمهور بسبب تكرار العناوين وضعف الجودة الفنية.
وتشير التقارير إلى أن هذه الكتب يتم نشرها في أوقات غير مناسبة، وتخضع لمجاملات سياسية أو شخصية دون مراعاة لحاجة السوق.
تزداد المنافسة بين هذه المؤسسات بشكل غير صحي، حيث تتنافس الهيئة العامة لقصور الثقافة مع الهيئة المصرية العامة للكتاب على نشر نفس العناوين، في حين أن العوائد المالية لهذه الكتب، التي في النهاية تصب في موازنة وزارة الثقافة، يتم تقاسمها بين هذه المؤسسات دون أي تنسيق أو تكامل.
مثال على ذلك ما حدث مع كتب طه حسين، حيث قامت الهيئة المصرية العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة بنشر نفس العناوين في توقيتات متقاربة، دون أن يتم مراعاة العواقب المالية لهذا التكرار.
تسعى وزارة الثقافة إلى تخفيف الضغط عن هذه المؤسسات عبر ما يعرف بـ “الإهداء” وهو أسلوب لتوزيع الكتب غير المباعة أو التي تحتوي على أخطاء فنية.
يتم إرسال هذه الكتب إلى جهات عديدة في الدولة، مثل الوزارات والجامعات، كنوع من التخلص من الكتب الزائدة وتغطية هذه الأخطاء.
إلا أن هذه العملية لا تحل المشكلة بقدر ما تزيدها تعقيدًا، حيث يتم تكرار نفس العناوين والأخطاء دون أي محاسبة أو تحقيق في أسباب تراكم الكتب وإهدار المال العام.
ويأتي دور “مبادرة المليون كتاب” ضمن محاولات وزارة الثقافة للهروب من مواجهة هذه المشاكل الحقيقية، حيث تقوم الوزارة بالإعلان عن توزيع مليون كتاب على مختلف الهيئات والمؤسسات، منها وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي، وغيرها من الهيئات الحكومية.
بينما يكتشف الجميع أن الكتب التي يتم توزيعها هي ذات الكتب المكدسة في المخازن، والتي لا تتوافق مع احتياجات السوق أو الجمهور. في الواقع، لا تساهم هذه المبادرة في تعزيز الوعي الثقافي أو نشر المعرفة كما يُروج لها، بل إنها مجرد واجهة لتغطية العيوب والفساد المتفشي في هذه المؤسسات.
تنظيم الوزارة للمبادرة على أرض الواقع كان محاطًا بالعديد من المشكلات. وبدلاً من أن يكون هذا المشروع خطوة مهمة نحو تحسين قطاع النشر، تحول إلى وسيلة لزيادة أعباء الميزانية على حساب المواطنين.
تم توزيع كتب مليئة بالأخطاء الفنية والإملائية، وأخرى تحمل نسخًا مكررة من أعمال قديمة. فلم يكن الهدف من هذه المبادرة إلا تقديم مظهر من التقدم الثقافي، بينما الواقع يعكس صورة مختلفة تمامًا عن الفشل المتكرر.
تتمثل إحدى أكبر مشكلات هذه المؤسسات في غياب التنسيق الكامل بينها. حيث لا توجد لجنة عليا للنشر قادرة على وضع خطة متكاملة لتنظيم النشر في الوزارة.
بدلاً من أن تعمل هذه القطاعات على التعاون من أجل تحقيق رؤية موحدة للنشر، أصبحت هيئات الوزارة في حالة تنافس مستمر على مشاريع بلا جدوى. تنافس أدى إلى مضاعفة النفقات وزيادة الفوضى في مخازن الكتب.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن هناك خللاً كبيرًا في عملية التدقيق والمراجعة داخل هذه المؤسسات. الكتب التي تطبع وتوزع تفتقر إلى الدقة اللغوية والإملائية بسبب نقص الكوادر المؤهلة،
وهو ما يؤدي إلى طباعة كتب تحتوي على أخطاء فادحة في الأغلفة والمتون. هذه الكتب لا تلبى حاجة السوق الثقافي، ولا تساهم في تطوير ثقافة القراءة في المجتمع.
علاوة على ذلك، يعاني المركز القومي للترجمة من تردد واضح في تنفيذ خطط الترجمة. حيث يقوم المركز بشراء حقوق ترجمة لكتب معينة لعدة أعوام،
إلا أنه يتباطأ في عملية الترجمة والطباعة حتى تمر الأعوام المقررة لحقوق الانتفاع. وعند انتهاء مدة الانتفاع، تعود الكتب إلى المخازن دون أن يتم الاستفادة منها، وهو ما يمثل إهدارًا آخر للمال العام.
من ناحية أخرى، لا يقوم المسؤولون عن المخازن بمراجعة العهدة بشكل دقيق، مما يؤدي إلى وجود اختلافات بين البيانات المدونة في السجلات المخزنية والكتب الفعلية المخزنة في الواقع. بالإضافة إلى ذلك، يتم تكديس الكتب في المخازن دون أي تنظيم أو تنسيق بين الإدارات المختلفة في الوزارة.
لم يقتصر الفساد على عدم التنسيق فقط، بل امتد إلى عمليات الطباعة التي تتم في أماكن غير مناسبة، بل إن بعض القطاعات تتجه إلى طباعة كتبها في شركات خاصة لأغراض شخصية،
مما يؤدي إلى إهدار المال العام بشكل كبير. تراكمت الكتب بشكل غير مبرر في المخازن، والبيانات المدونة عنها في السجلات المخزنية لا تعكس الواقع.
في النهاية، بدلاً من التحقيق في أسباب تراكم الكتب في المخازن وإهدار المال العام، تقوم الوزارة بتصدير المشكلة إلى مخازن الوزارات والهيئات الأخرى.
وبالتالي، يتم تقاسم المسؤولية بين عدة أطراف مما يجعل من الصعب محاسبة المسؤولين الفعليين عن إهدار المال العام.
ما يسمى “مبادرة المليون كتاب” هو مجرد محاولة فاشلة لتمرير مشهد من الإنجازات الوهمية أمام الرأي العام. الوزارة تواصل إهدار المال العام دون أية محاسبة حقيقية، وتغرق في مستنقع الفساد الإداري والمالي الذي يضر بالقطاع الثقافي في مصر.