يغرق الفساد شركات الدولة في دوامة من الخسائر والفشل، في مشهد يضع علامات استفهام حول الممارسات التي تتم في القطاع العام.
تتكشف خيوط الفساد تدريجيًا في شركة “غاز مصر”، التي أصبحت بمثابة مثال حي لغياب الرقابة وسوء الإدارة. تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات يكشف عن عدة مخالفات جسيمة وانتهاكات صارخة داخل الشركة،
التي باتت تواجه أزمات مالية نتيجة لعدد من المشروعات الاستثمارية الفاشلة التي أهدرت ملايين الجنيهات من أموال الشعب المصري.
تكشف الوثائق الرسمية عن أن شركة “غاز مصر” أخفقت في تطبيق معايير المحاسبة المصرية، حيث لم تلتزم بنصوص المعايير التي تنص على ضرورة تضمين حسابات الشركة في التغيرات في صافي أصول الشركات المستثمر فيها وفقًا لطريقة حقوق الملكية.
كما فشلت الشركة في حساب نصيبها في تلك التغيرات، باستثناء شركة “يونيون جاس” التي تم تقييم استثماراتها بناءً على القوائم المالية الخاصة بها.
دحض التقرير الادعاءات بوجود مراقبة مالية جادة داخل الشركة، حيث أشار إلى أن شركة “غاز مصر” لم تقدم نتائج أعمال العام لكافة الشركات الشقيقة التي تمتلك حصصًا فيها.
وبينما تواصل الشركة في تقديم صورة غير دقيقة عن وضعها المالي، يأتي التقرير ليكشف عن فشل مدوٍ في تنفيذ مشروعات استثمارية كانت السبب الرئيسي للخسائر التي تجاوزت قيمتها ملايين الجنيهات.
استثمار الشركة في شركة “ميجاس” مثال صارخ على تلك الخسائر، حيث شرعت في إجراءات تصفية تلك الشركة بعد فشلها في تحقيق أي مردود إيجابي.
كما استثمرت “غاز مصر” في “روجتك” – الشركة الإقليمية لنقل تكنولوجيا الغازات والبترول – والتي تم تصفيتها أيضًا، ما يزيد من تعقيد الموقف المالي للشركة.
وفي حالة أخرى، دخلت “غاز مصر” في استثمار مع “آفاق الاتحاد للغاز والتبريد”، إحدى الشركات التابعة لمجموعة البيان القابضة السعودية، لتشهد الشركة بعدها انخفاضًا مفاجئًا في حصتها من 24% إلى 1%، ما أسفر عن تحويل الفرق إلى أرصدة مدينة.
ورغم أن الحكم القضائي لصالح “غاز مصر” يلزم مجموعة البيان بدفع 1.15 مليون ريال سعودي، إلا أن الشركة لم تتابع تنفيذ هذا الحكم، ما يزيد من تعقيد مشكلاتها القانونية والإدارية.
أما في ما يتعلق بالاستثمار في “الشركة الليبية المصرية للغازات والخدمات النفطية”، فقد فشلت شركة “غاز مصر” في تخفيض حصتها بالشركة الليبية كما كان مخططًا، رغم فرض غرامات عليها من الهيئة العامة للرقابة المالية بسبب عدم إعداد القوائم المالية المجمعة.
وقد أقرّت “غاز مصر” بأنها فقدت السيطرة على استثماراتها في هذا المجال، ما يعكس ضعف الأداء الإداري والتنفيذي في التعامل مع مثل هذه الاستثمارات.
أضاف تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات أن “غاز مصر” لم تقم بإجراء المطابقات اللازمة مع العديد من العملاء والموردين وأرصدة المدينين والدائنين، مما يعكس خللاً واضحًا في الرقابة الداخلية.
كما كشفت نتائج الفحص عن تمسك الشركة بسجل الأصول الثابتة عبر ملف “أكسل”، ما يعرضها للخطأ ويضعف قدرتها على إدارة أصولها بشكل فعال.
وفضلاً عن ذلك، لم يتم جرد معظم الأصول منذ أكثر من أربع سنوات، بما يخالف اللائحة المالية للشركة التي تنص على ضرورة الجرد كل عامين.
كشف التقرير عن إهدار في استغلال الأراضي المملوكة لشركة “غاز مصر”، حيث تجاوزت قيمتها 11 مليون جنيه. على سبيل المثال، لم يتم تسجيل واستغلال أراضٍ في مناطق الشروق ومدينة الصالحية التي تتجاوز قيمتها 8.4 مليون جنيه،
إضافة إلى عدم تسجيل مقرات الشركة في المنصورة والمندرة وكفر السليمانية التي تقدر قيمتها بنحو 4.7 مليون جنيه. وبذلك، تتكشف ملامح الفشل المستمر في إدارة الممتلكات والأصول.
أما فيما يتعلق بالمديونيات، أظهرت الأرقام أن رصيد العملاء بلغ نحو 2.031 مليار جنيه، فيما بلغ إجمالي المديونية التي مر عليها أكثر من عام 75 مليون جنيه.
ورغم توقع الخسائر الائتمانية بنحو 50 مليون جنيه، إلا أن الشركة لم تتخذ الإجراءات اللازمة لتحصيل هذه المديونيات، وهو ما أثّر بشكل سلبي على سيولتها النقدية.
إضافة إلى هذه الإخفاقات، استمرت “غاز مصر” في صرف بدلات الحضور لأعضاء مجلس الإدارة، ممثلي المال العام، في مخالفة صريحة للمادة (3) من القانون رقم 85 لسنة 1983، ما يساهم في تعميق الفساد المالي والإداري داخل الشركة.
وعلى الرغم من كل هذه الفضائح، لم تتوقف “غاز مصر” عن تسويق صورة مغايرة لما يحدث داخلها، حيث تسلط الضوء على الإيرادات الناتجة عن الاستثمارات، التي بلغت حوالي 125 مليون جنيه من الأرباح الرأسمالية والعوائد الأخرى. ومع ذلك، تظل الشركة بعيدة عن معالجة أزماتها الحقيقية التي تسببت في انهيار بعض من أهم مشاريعها.
من خلال هذه الممارسات المخزية، يتضح أن الفساد في “غاز مصر” يعكس صورة قاتمة لواقع الشركات المصرية التي تفتقر إلى الشفافية والمساءلة.
يحتاج الوضع داخل القطاع العام إلى إعادة نظر جذرية من أجل إنقاذ ما تبقى من مقدرات البلاد، ومحاسبة المسؤولين عن هذا الإهدار المستمر للموارد الوطنية.