منذ غزوة نابليون بونابرت لمصر والشام 1798 م، حتى التنصيب الثاني للرئيس الأمريكي دونالد ترامب يناير 2025 م، لم تتوقف محاولات الغرب لهندسة الشرق الأوسط ورسم شكله ومحتواه، بما ينسجم مع مصالح الغرب، وأي كلام عن شرق أوسط جديد أو كبير، هو كلام مكرر لا جديد فيه من حيث المبدأ. الجديد هذه المرة، أنها تأتي عقب حرب طوفان الأقصى التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023 م، و ما تزال رحاها دائرة حتى كتابة هذه السطور، حيث تعرت القوة الأمريكية العظمى ومعها الغرب الأوروبي من كل ساتر أخلاقي، وانكشفت سوأتها كاملةً، وهي تزود آلة الفتك الإسرائيلي بقوة النار اللازمة لإبادة المقاومة الفلسطينية وتصفية القضية من جذورها، هذه الحرب أفلحت فقط في التدمير المادي لقطاع غزة تدميرا وحشياً كاملاً، وقتلت وهجرت ولم تتورع عن جرائم الحرب كافة، ترتكبها في وضح النهار تحت حماية أمريكا والغرب، لكنها لم تفلح في هزيمة روح المقاومة سواء في فلسطين المحتلة أو في المحيط الإنساني الكوني الذي تحرك ضميره، وتيقظ وعيه ضد البربرية الصهيونية.
روح المقاومة في معناها العام، هي في أفضل حالاتها بين شعوب الشرق الأوسط كافة. روح مقاومة إنسانية منفتحة متجاوزة للقيود وعابرة للحواجز وكاسرة للحدود، مقاومة كل ما يخذل الإنسان ويقيده ويستغله ويستعبده ويحط من شأنه، ويستهين بأشواقه ويستخف بمطامحه المشروعة في الكرامة والحرية والعدالة والأمان والتمتع بحياة طيبة. روح مقاومة ضجرت من القمع، يقع عليها من الداخل كما ينزل عليها من الخارج. روح مقاومة سئمت نفاق الحضارة الغربية التي لا تتورع عن هدر حق الشعب الفلسطيني، دون ذنب جناه ولا تتورع عن الاستخفاف بعقول وعواطف شعوب الشرق الأوسط، كأنها تنتمي إلى مستوى أدنى من الإنسانية. روح مقاومة تجعل من أي هندسة جديدة للشرق الأوسط حرث في البحر ورسم على الهواء وكتابة بحبر من ماء لا تقوى على البقاء ولا تجدر بالصمود. روح مقاومة تستعيد الشرق الأوسط لشعوب الشرق الأوسط ولصالحها بالدرجة الأولى. روح مقاومة تحرر إنسان الشرق الأوسط من ديكتاتورية الحكام التي تفرض السيطرة على الشعوب، بما يؤمن ويضمن ويكفل ويرعى مصالح الغرب، كما في الوقت ذاته هي روح مقاومة تحرر شعوب الشرق الأوسط من سيطرة الغرب الذي يكفل ديكتاتورية الحكام، ويرعاها ويضمن بقاءها، ما دامت تخدم مصالحه، هذه الروح هي أجمل ما في الشرق الأوسط بعد حرب طوفان الأقصى، هذه الروح منها سوف تنبع المواجهة الفعالة ضد المحاولات الراهنة لرسم شرق أوسط جديد، تتربع على قمته إسرائيل.
يخطئ من يتصور تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الملحمة المزدوجة، حيث طغيان الهيمنة الأجنبية من الخارج، ثم طغيان الديكتاتوريات المحلية من الداخل، يخطئ لأنه يغفل الملحمة الأساس، وهي روح المقاومة لدى شعوب الشرق الأوسط، فمن قبل أن يأتي نابليون كانت شعوب الشرق الأوسط تجاهد لأجل حقها في العدالة والكرامة والمساواة، ودونالد ترامب الذي يتوعد ويهدد، بأن يحول الشرق الأوسط إلى جحيم، إذا لم يتم إطلاق سراح الأسرى الصهاينة لدى المقاومة سوف يرى، كم هو مثل من سبقوه، ومثل من سوف يأتون من بعده، يجهلون العمق النفسي الصلب لإنسان الشرق الأوسط.
هذه الروح المفعمة بالإشراق والقوة والخصوبة والحيوية هي التي قادت، ولا تزال تقود نضالات شعوب الشرق الأوسط من اللحظة الأولى التي بدأت هذه الشعوب تدرك أنها لم تعد في موضع قوة، وأن رايات القوة انتقلت إلى أوروبا، وأن قوة أوروبا سوف تترجم نفسها في صورة مخاطر، تحدق بالشرق الأوسط، مثلما تحدق بكافة القارات التي وصلها الأوروبيون كغزاة واستعمار واستكشاف واستثمار واستغلال وتغريب وتبشير وتنصير، وبالفعل تسلل الأوروبيون إلى أعمق الأعماق وإلى أدق التفاصيل، ودانت لهم كل بلادنا دون استثناء .
هذه الروح لم تدخر جهداً في تقديم التضحيات، كل شعوب الشرق الأوسط قدمت التضحيات سواء في مواجهة الطغيان المحلي أو الهيمنة الأجنبية، لكن هذه الروح أخفقت في المهمة التاريخية الكبرى، وهي تجسيد التضحيات في نموذج دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تكون وعاءً جامعاً لكل مواطنيها على قدم المساواة، وعلى قاعدة المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين والمذهب والطائفة والعرق واللون والجهة والطبقة، هذه الدولة كافحت لها كافة شعوب الشرق الأوسط من مطلع القرن الثامن عشر في الدولة العثمانية، وكذلك الدولة الصفوية في إيران، ومن مطلع القرن التاسع عشر في مصر والشام وشمال إفريقيا، محاولات دؤوبة للتحديث من كل شكل ولون، ولكن ما زالت المعضلة قائمة باستثناءات قليلة، ولا يزال هذا هو التحدي الذي يواجه شعوب الشرق الأوسط: كيف السبيل إلى دولة يسودها حكم القانون، وتحفظ كرامة المواطن وتطلق حرياته وتمنع التمييز على خلفيات دينية أو مذهبية أو عرقية، وتمكن مواطنيها من المبادرة وتنمية ثرواتهم وتحسين حياتهم والتمتع بطيبات المعيشة، دون فقر ولا قهر ولا تنكيل ولا اضطهاد ولا تجويع ولا تجهيل ولا تضليل؟
سوف تظل معضلة بناء الدولة المدنية الديمقراطية أو دولة كل مواطنيها معضلة شرق أوسطية غير قابلة للحال، ما لم نتخلص من ثلاثة مواريث: الميراث العثماني، والميراث الاستعماري، وميراث الطغيان الاستبدادي للدولة الوطنية الحديثة.
1- الميراث العثماني قاومته حركات عظيمة سواء في هوامش السلطنة أو في المركز الإمبراطوري في إسطنبول، بدأت بالدعوة الإصلاحية من داخل العقيدة الدينية في قلب الجزيرة العربية، وهي ما شاع تسميتها بالدعوة الوهابية وهي في جوهرها إصلاح، لما أصاب العقل من خرافات في ظل الحكم العثماني، وقد تزامنت الدعوة الوهابية في التاريخ مع الثورتين الأمريكية، ثم الفرنسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت نهضة محمد علي باشا في مصر والشام، وعلى امتداد قرنين كاملين كانت محاولات الإصلاح داخل المركز الإمبراطوري ذاته أخفق أكثرها لعقبتين: معارضة الجند، ومعارضة رجال الدين، وقد انتهت بسقوط الإمبراطورية بصفة نهائية، ومن قلب هذا السقوط كانت عبقرية الحل الكمالي، حيث التقط كمال أتاتورك قاربي النجاة وهما: الوطنية والعلمانية وعليهما معاً، ولدت تركيا الحديثة، وهي استكمال لما بدأته الوهابية ومحمد علي باشا، من حيث أن المؤسسة العثمانية السياسية والدينية هي سر التخلف، ويلزم اجتثاثها. الإصلاح الوهابي للعقيدة، وبناء محمد علي باشا لنموذج دولة مؤسسات حديثة، واجتثاث أتاتورك لخلاصة المؤسسة العثمانية، ثم تبنيه للوطنية والعلمانية كلها خطوات متكاملة في العمق، رغم ما قد يبدو عليها من تناقض في الظاهر. ولا يزال الشرق الأوسط في حاجة ماسة للخطوط الثلاثة: إصلاح العقائد، بناء المؤسسات، استيعاب فكرتي الوطنية مع العلمانية. فالوطنية مع العلمانية إليها يعود الفضل في تحول تركيا من نظام الحزب الواحد إلى ديمقراطية حزبية تعددية، كما إليها يعود الفضل في تمكين المدنيين من بسط سلطتهم على المؤسسة العسكرية بعد طول معاناة من تدخل العسكريين في السياسة، كما أن الوطنية مع العلمانية إليها يعود الفضل في استيعاب الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية وتمكينها من الحكم عبر انتخابات ديمقراطية. عبقرية الدولة الأتاتوركية، أنها تطورت في مائة عام؛ لتحفظ في وقت واحد علمانية المؤسسات وحرية الاعتقاد وتدين المجتمع وحريات الأفراد مع تداول سلمي على السلطة، تخلص مؤخراً من احتمالات تدخل العسكريين في المسار السياسي، ومن هذه الخلاصة تعد تركيا الأتاتوركية نموذجاً متفرداً في الشرق الأوسط.
2- الميراث الاستعماري: حيث خرج الاستعمار، لكنه احتفظ بدور مهيمن على أقدار الإقليم، انتقلت رايات الهيمنة من لندن وباريس وروما وموسكو وغيرها من عواصم أوروبا الاستعمارية إلى أمريكا، وأمريكا عقل برجماتي ليس عندها مانع أن يكون الشرق الأوسط محكوماً بديكتاتوريات سواء دينية أو عسكرية، ما دامت هذه الديكتاتوريات تخدم مصالح أمريكا في المنطقة، هذا العقل البرجماتي الأمريكي تحالف مع السعودية منذ نشأتها الأولى التي ترافقت مع ظهور البترول، ولم يكن يعني أمريكا غير البترول، ولا يعنيها تشددا دينيا ولا حكما تقليديا ولا أي شيء، وتكرر ذلك حتى مع حكم طالبان نفسها سواء قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2000، أو بعد هزيمة أمريكا في حرب العشرين عاماً وعودة طالبان إلى حكم أفغانستان، هذا العقل البرجماتي الأمريكي انتصر في الحرب الباردة على السوفيت بفضل توظيفه لكافة جماعات الإسلام السياسي، بل والمؤسسات الدينية التقليدية في الصراع مع الاتحاد السوفيتي، سواء كان صراعاً بالسلاح في ميادين القتال أو بالكلمة من فوق المنابر وعلى صفحات المطبوعات، الإسلاميون السنة كافة من عرب وعجم كانوا ذخراً وذخيرة عظيمة في حرب الأمريكان الباردة مع السوفييت، هذا العقل البرجماتي الأمريكي لم يمانع، بل ساعد وشجع ودعم وصول بعض الإسلاميين لبعض مواقع السلطة عقب ثورات الربيع العربي، هذا العقل البرجماتي الأمريكي دخل في عداء مع مصر الناصرية ذات التوجه العلماني لصالح السعودية ذات التوجه الديني، ما دامت الأولى ضد مصلحتها، والثانية معها وكذلك كان الحال مع الأنظمة العلمانية في سورية والعراق وغيرها. التشيع المناضل في إيران الخميني، ومن قبله الليبرالية العلمانية المناضلة في إيران مصدق كلتاهما استوجب العداء الأمريكي بعكس علمانية بهلوي الاستبدادية لسبب بسيط؛ مصدق ثم الخوميني ضد الاستغلال الغربي والأمريكي، بينما كان الشاه بهلوي يمثل العلمانية المستبدة في الداخل والخاضعة لهيمنة أمريكا والخادمة لمصالحها. هذا العقل البرجماتي برجماتي في كل شيء إلا في انحيازه الأعمى للدولة الصهيونية، ولأجل الدولة الصهيونية لا مانع من وضع الشرق الأوسط تحت سقف منخفض جداً، بحيث لا تعلو رأس فوق رأس إسرائيل، وهذه هي أكبر عائق، يقف في وجه تطور الشرق الأوسط، حيث يلزم أن تكون إسرائيل هي الأعلى دون منافس ولا مزاحم ولا شريك، وهذا بدوره يستدعي ليس وضع حكومات الشرق الأوسط فقط تحت السيطرة، إنما يلزم وضع الشعوب ذاتها تحت السيطرة، ومن هنا تأتي فكرة دعم أمريكا لديكتاتوريات الشرق الأوسط، بل ورضاها بالديكتاتورية ذاتها، باعتبارها تقيد إرادة الشعوب، بما يضمن سلام وأمان إسرائيل.
3- ميراث الدولة الوطنية، دولة ما بعد الاستعمار القديم، وعدت الشعوب بكل ما هو نقيض للاستعمار، وعدت باستقلال القرار الوطني والعدل الاجتماعي والحريات والحكم الدستوري والمساواة، ثم أخلفت في كل ما وعدت، بل ذهبت إلى العكس تماماً، فتحت حماية الثورة- التي هي في جوهرها انقلاب- تم قهر الشعوب، ثم لأجل حماية الدولة- التي هي في جوهرها سبوبة وغنيمة للحكام- تم إفقار الشعوب، وانقسمت الشعوب بين أقليات مقربة من الحكم لها امتيازات ومكاسب، وأغلبيات لا حول لها ولا قوة، يقع على عاتقها واجب تمويل الدولة بما في ذلك تمويل رفاهية الأقلية الحاكمة، هذه الدولة الوطنية أخفقت في إرضاء مطامح الشعوب، كما أخفقت في نيل احترام رعاتها الأجانب، وقد تطور أكثرها تطوراً سلبياً اضمحلالياً عاجز عن صيانة السيادة وحفظ الأمن القومي وتمكين المواطنين من التمتع بحياة آدمية، تتوفر فيها شروط الجودة في القرن الـ 21. هذه الدولة الوطنية لا يقف عجزها عند الداخل فقط، فقد عجزت في الإطارين العربي والإسلامي حيث الجامعة العربية، ثم منظمة المؤتمر الإسلامي، عن أن تحرك ساكناً والفيل الصهيوني الهائج، يضرب ويدمر ويخرب ويبيد ليس فقط المقاومة، ولكن نسيج ثقافة ومبادئ وأخلاق الشرق الأوسط.
هذه المواريث الثلاثة تجعل من فكرة بناء دولة المواطن معضلة، تكاد تبلغ أطراف المستحيل، وبدون هذه الدولة سوف يظل الشرق الأوسط بؤرة للثلاثة: التخلف الحضاري، الديكتاتوريات، الهيمنة الأجنبية.
………………………….
كيف نتجاوز صعوبات بناء الدولة؛ لتكون دولة كل مواطنيها، دولة عدل ومساواة وحرية، دولة من التي قال فيها المأثور العربي، إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كافرة ويخذل الدولة الظالمة ولو مسلمة؟!. هذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.