ترجماتعربي ودولى

قُتل عماد وهو يبحث عن طعام لأطفاله.. إلى متى ستبقى عائلات غزة تتحمل هذا الحزن لتواصل صمودها الإجباري؟

لقد حلت المأساة زائراً دائم الإقامة في غزة، فالقتل لم يعد مفاجئاً، بل أصبح أمراً متوقعاً يكاد يصبح عرفاً، يعكس إيقاناُ بوحشية الحياة تحت إيقاع الإبادة الجماعية، ورغم الاعتياد على فقدان الأحباء فإن هذا الفقد ما زال جرحاً غائراً، يترك ندوباً تكافح الكلمات للتعبير عنها.

ولا تمثل قصة عماد كاسكين، جار عمتي الذي قُتل بين أنقاض حياة النزوح استثناء عن ذلك، بل هي مجرد خيط مؤلم في نسيج غزة الحزين، حيث تمحى الأرواح وسط صمت عالمي.

فحتى استشهاده الشهر الماضي، كان عماد البالغ من العمر 31 عاماً شاباً يتمتع بحس فكاهي كبير، وهو على استعداد للتخلي عن القليل الذي يملكه، على الرغم من أنه كان من بين أفقر الفقراء. 

ومع زوجته هديل وابنتيهما ريتاج البالغة من العمر ثماني سنوات ودانا البالغة من العمر ست سنوات، عاش عماد بكرامة وتعفف كما هو حال أولئك الذين اتقنوا فن التحمل، وهو ما يسميه الفلسطينيون الصمود، وفي غزة يأخذ الصمود مليون شكل وهيأة، أشكال أشك في أن أي أمة أخرى قد تتخيلها أو حتى تعرفها.

تعود أصول عماد إلى قرية حمامة، التي محيت من كل الخرائط منذ عام 1948، ومثل الغالبية العظمى من سكان غزة الذين يزيد عددهم على مليوني نسمة، نزح أثناء عدوان الاحتلال الحالي من مخيم الشاطئ للاجئين وتوجه جنوبًا إلى المواصي في منطقة خان يونس، على أمل البقاء على قيد الحياة في أرض بات البقاء فيها معركة وعملاً من أعمال المقاومة.

وفي صباح اليوم الذي استشهد فيه، خرج عماد للبحث عن الدقيق، وهي سلعة نادرة أصبحت ترفًا بعيدًا عن متناول الفلسطينيين، ففي خان يونس، ارتفع سعر كيس الدقيق الذي يزن 25 كيلوغرامًا إلى أكثر من 875 شيكلًا (حوالي 240 دولارًا)، وهو سعر لا يستطيع عماد، مثل عدد لا يحصى من سكان القطاع تحمله ببساطة.

ظروف يائسة

وبعد سماعه أنباء عن السماح لشاحنات المساعدات بدخول غزة، توجه عماد شرقًا لانتظار وصولها بالقرب من الحدود، على أمل أن يتمكن من إطعام أسرته، حيث خفضت دولة الاحتلال قبل عدة أسابيع عدد شاحنات المساعدات الإنسانية التي تدخل غزة إلى 30 شاحنة فقط يوميًا، وهو ما يمثل 6% فقط من مستويات ما قبل الحرب.

فقد أشار فيليب لازاريني، الذي يرأس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، على وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن هذا القدر من المساعدات “لا يمكن أن يلبي احتياجات أكثر من مليوني شخص، كثير منهم يعانون من الجوع والمرض وفي ظروف يائسة”.

وخلال شهر رمضان الماضي، ومع تقنين المواد الغذائية الأساسية في غزة بشكل صارم، كانت وجبة الإفطار للشخص تتكون من نصف بيضة ونصف حبة من البصل، وكانت الأسرة المكونة من ستة أفراد تتلقى ثلاث بيضات وثلاث حبات بصل فقط لوجبتها الوحيدة في اليوم، وهو أمر صادم للغاية عندما نفكر في الرفاهيات التي يستهلكها الناس خلال موسم عطلة عيد الميلاد.

وبعد عشرة أشهر، ساء الوضع أكثر، فانتقلت الأسر من تلقي ثلاث بيضات إلى بيضة واحدة فقط، وخلال الشهر الماضي، شارك حامد عاشور، وهو كاتب شاب وجار من مخيم خان يونس، هذه الحقيقة المروعة على صفحته على الفيسبوك.

كتب عاشور: “تلقينا ثلاث بيضات كوجبة لثلاث عائلات نازحة تقيم معنا في المنزل، صدقوني، أنا لا أكتب هذا للشكوى، لكننا نواجه الآن تحدي توزيع ثلاث بيضات على عشرين شخصاً، من يستطيع أن يحول هذا إلى معادلة رياضية تقودنا إلى حل عملي ومرضٍ في نفس الوقت، حتى نتمكن من التغلب على الجوع معًا؟”.

هذه الظروف اليائسة مألوفة بشكل مؤلم لأفراد عائلتي، لقد اتصلت أخت زوجي في خان يونس مؤخرًا بشقيقها، وهو مدرس في الأونروا، لتسأله عما إذا كان بإمكانه توفير 200 غرام من الدقيق، كانت تأمل أن تخلطه بمكونات مخصصة عادة للحيوانات، فقط لخبز شيء، أي شيء، لأطفالها.

وكان ابن عمي يشعر بالخجل لأنه لم يستطع مساعدتها، فتوجه إلى دير البلح لزيارة أخته الأخرى، التي نزحت إلى هناك وكانت مريضة، وكان يأمل أن يكون لديها بعض الدقيق الفائض.

وهناك، واجه حقيقة قاتمة كان يعرفها جيداً، إنهم أيضاً لا يملكون شيئاً، ففي دير البلح، كان سعر كيس الدقيق الواحد أعلى من ذلك بكثير، إذ بلغ 1000 شيكل (حوالي 275 دولاراً).

كان ابن عمي مصاباً بمرض السكري ولم يأكل خبزاً لمدة خمسة عشر يوماً، كان يقضي ليلته في خيمة أخته، لأن التحرك ليلاً خطير للغاية، ولكنه لم يستطع النوم ليس بسبب جوعه الشديد، بل بسبب صراخ أطفال أخته، فطوال الليل، كانوا يتوسلون للحصول على قطعة خبز، وفي محاولة يائسة لتهدئتهم، كان يروي لهم قصة تلو الأخرى حتى ناموا أخيراً، ولكنه ظل مستيقظاً، يطارده جوعهم وجوعه

القوة التي تخفي الحزن

وعلى النقيض من ابن عمي، كان عماد يعلم أن أخته ليس لديها دقيق وأن أطفالها مثل أطفاله يتضورون جوعاً، ولذلك اتجه شرقاً للبحث عن الدقيق.

وبينما كان ينتظر كيساً من الدقيق قد لا يصل أبداً، أطلقت قوات الاحتلال النار عليه مرتين في ظهره، وقتلته بتهمة محاولة إطعام أطفاله، وانتشل سائق شاحنة مساعدات شجاع جثته الهامدة ونقلها إلى مستشفى ناصر.

لم يكن عماد الضحية الوحيدة للكد في سبيل تأمين الخبز، فقد استشهد وأصيب المئات، إن لم يكن الآلاف، أثناء البحث عن الطعام.

وبالنسبة لزوجة عماد، هديل، وابنتيهما الصغيرتين، فإن الخسارة لا تُقاس، حيث تتحمل شقيقته، هبة، هذا الحزن بقوة غير عادية، لقد كُلِّف عمي بنقل الخبر إلى العائلة، وحاول أن يخفف من وطأتها بتلطف، قائلاً لهبة: “لقد جُرِح عماد”.

غير أن هبة أدركت على الفور أن شقيقها قد رحل، فصرخت: “عماد شهيد”، وركضت إلى المستشفى، حيث ظلت هادئة محاطة بعائلتها الحزينة.

مسحت هبة على رأس شقيقها وقبلت جبهته وتلت آيات قرآنية، وحثت النساء من حولها على عدم البكاء، بل الدعاء، لقد أذهلت قدرتها على الصمود حتى زوجها، الذي اعترف لاحقًا: “لم أتخيل أبدًا أن زوجتي ستكون بهذه القوة”.

غير أن القوة غالبًا ما تكون قناعًا للحزن، ففي هدوء الليل، عندما نام العالم من حول هبة، انفجرت دموعها أخيرًا، لقد أيقظت شهقاتها زوجها وأطفالها، الذين حاولوا مواساتها، فابتسمت رغم الألم، وأخبرتهم أنها بخير، وحثتهم على النوم.

يجب على العالم أن يتحرك

بعد يومين من استشهاد عماد، انطلق جاره الصياد لتوفير احتياجات أطفاله، متوجهًا جنوبًا إلى شواطئ المواصي، وبينما كان يقف على الشاطئ، بعد أن ألقى شبكته منتظراً سحبها، استشهد هو أيضاً في غارة بطائرة بدون طيار.

ظلت جثته ولساعات عديدة ملقاة على الشاطئ دون أن يتمكن أحد من الوصول إليها، وكلما حاول أحد انتشالها، كان يتم إطلاق النار عليه أيضاً.

وعندما وصلت الأخبار إلى زوجته بعد ظهر ذلك اليوم، ركضت إلى المنطقة، متحدية الرصاص والخطر، عازمة على إنقاذ جثة زوجها، لقد سحبته بضعة أمتار قبل أن تهرع نساء أخريات للمساعدة، وبينما تم انتشال جثة غسان أخيراً، حطم صراخ آخر أجواء المواصي.

كان أطفال المواصي يشاهدون أباً آخر يُنتزع منهم؛ واحدا من بين آلاف الأشخاص الذين استشهدوا وهم يحاولون ببساطة إطعام أسرهم.

وفي العام الماضي، خلال مذبحة الدقيق في دوار النابلسي بمدينة غزة، استشهد ما لا يقل عن 112 فلسطينياً على يد قوات الاحتلال أثناء محاولتهم تأمين الدقيق لإعالة أحبائهم.

تتطلب جميع هذه القصص منا أن نتذكر ونشهد على المعاناة التي تحملتها أمة بأكملها، قد يختار العالم أن يتجاهل، فتصبح اهتماماته عابرة وتعاطفه انتقائياً، ولكن الألم الذي لا ينتهي في غزة ما زال قائماً، وكذلك الحال بالنسبة لقدرتها على الصمود، وهي دافع دائم للبقاء على قيد الحياة متجذر في الصمود.

غير أن قدرة شعب غزة على الصمود لا يمكن أن تحل محل الدعم الحقيقي والهادف من المجتمع الدولي، ومع انخفاض المساعدات إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في بيئة عقابية، فإن الوقت المناسب للتحرك بات اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

ويتعين على المجتمع المدني الدولي أن يتحد، وأن يطالب بإنهاء إمدادات الأسلحة للاحتلال ومحاسبة مجرمي الحرب نتنياهو وغالانت وشركائهما أمام العدالة.

المصدر ميدل إيست آي: (هنا)

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى