مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : الثقب الأسود

ما أشدّ وطأة الخيانة حين تكون شرارةً صغيرة، لكنها تُشعل النيران في بيوت آمنة، وريحًا خبيثةً تندسّ في فرجةٍ ضيقة، فتجعل من الحصن المنيع أنقاضًا تسكنها الذكريات والندم.

الخيانة ليست ضربةً مفاجئة، بل هي ثقبٌ صغيرٌ في جسدٍ سليم، قد يظنه أصحابه غير ذي شأن، لكنه منفذٌ لرياح الخراب، وممرٌ للعواصف التي لا تُبقي ولا تذر.

“إنّ الثقوب في البيوت أخطر من الشروخ في الجدران والحوائط؛ فالشروخ تكون ظاهرةً للعيان، يُمكن تداركها وعلاجها قبل أن تتسع، أما الثقوب السوداء التي تتسلل منها الحشرات والزواحف، فإنها تبقى خافيةً عن الأعين، تنخر في البناء بصمت، حتى يُفاجأ أهل الدار بانهياره من الداخل.”

الخيانة ليست سوى ثقبٍ في جدار الثقة، قد يبدو تافهًا في بادئ الأمر، لكنه ما يلبث أن يتحول إلى ممرٍّ لجيوش الهدم، فيسهل ما كان صعبًا، ويُفتح الباب لمن يتربصون.

لم يكن “أبو رغال”، في التاريخ الجاهلي، قائد جيشٍ ولا فارسًا جسورًا، بل كان دليلاً خان قومه، فأرشد “أبرهة” إلى مكة، فصار اسمه مرادفًا للخيانة، تُرمى عليه الحجارة رمزًا للعار.

ولم يكن “ابن العلقمي”، في بغداد، سيفًا بيد المغول، لكنه كان اليد الخفية التي فتحت لهم أبواب المدينة، فدُكّت صروح العلم، وسالت دماء الأبرياء في دجلة، وكأن التاريخ يُعيد خطّه بحبرٍ أسود. فلم يكن الاحتلال في أي زمن قويًا بذاته، لكنه كان يجد دائمًا خونةً يمهّدون له الطريق.

في “مصر”، لم تكن “الحملة الفرنسية” لتجد موطئ قدمٍ لولا العيون التي انقلبت على أهلها، ولم يكن “الاحتلال البريطاني” ليحكم سبعين عامًا لولا أيدٍ مصرية تآمرت تحت الطاولة.

وكما كان للثورات رجالها، كان لها أيضًا خونةٌ وقفوا على الضفة الأخرى، يبيعون الوطن مقابل وعودٍ زائفة، فإذا زال المستعمر، بقوا هم تحت أقدام التاريخ.

في العصر الحديث، كم من قضيةٍ بيعت على طاولة مفاوضاتٍ لم يكن العدوّ فيها إلا طرفًا ظاهريًا، بينما كان من يحمل الخنجر شخصًا من الداخل، يعرف مكامن القوة، ويعرف أين يغرس السمّ لينخر العظام!

“فلسطين لم تسقط بالمدافع وحدها، بل بمصافحاتٍ خائنةٍ، واتفاقياتٍ كانت تُكتب بمدادٍ أسود في العلن، بينما تُوقّع بالدماء في السرّ.”

وكم من مدينةٍ عربيةٍ لم يدخُلها الغزاةُ إلا بعد أن وجدوها ممهدةً بالخيانة، فلم يكن يحتاج العدو إلى قتالٍ طويل، بل إلى “يدٍ من الداخل” ترفع الحصار عن الأبواب.

الخيانة ليست رجلاً أو امرأة، بل “سلوكٌ خسيسٌ وهتكٌ للأمانة”، تمارسه نفوسٌ مريضة، تسكن مخلوقاتٍ مشوهة لا تُصنَّف على أنها رجلٌ أو امرأة، بل هي مسوخٌ تتقمّص وجوه البشر، لكنها لا تمتُّ لهم بصلة.

“فالخائن لا يُعرَف بجنسه، بل بسواده الداخلي، لا يُميز بصوته، بل بصدى غدره الذي يظل يتردد في أرجاء الخراب الذي صنعه.”

السارق تُقطع يده، وشارب الخمر يُجلد، والزاني يُعاقَب، لكن الخائن يندرج تحت باب “الحرابة والفساد في الأرض”، وأخف عقوبةٍ مقررة له هي النفي، لأنه ليس جديرًا بأن يُدفن بين أهل الأرض الذين خانهم.

أما من يعود إلى الخيانة، وقد أعذر إليه قومه مرةً بعد أخرى، فتضاعَف له العقوبة، لأن الرحمة والتسامح ليست ضعفًا، بل هي فرصةٌ للعودة، فإذا لم يفهمها، لم يعد له مكانٌ بين الشرفاء.

حتى في أصغر الدوائر، يكفي وجود خائنٍ واحدٍ بين مئةٍ من الشرفاء ليكون فتيل الفوضى. لا يحتاج إلى سلاحٍ ولا إلى جيش، بل إلى “كلمةٍ يهمس بها هنا، أو فتنةٍ ينشرها هناك، أو بابٍ يفتحه لمن يترقب الفرصة”.

وكما أنّ الوطن لا يصمد إلا بوحدته، فإنّ الجماعة لا تبقى إلا بثقتها، فإذا فقدت الثقة، صار الخائن هو الحاكم، والمرتزق هو سيدُ القرار.

ليس من الضروري أن تكون الخيانة بيعَ الأسرار العسكرية، أو خيانةَ الجسد، فأمانة المجالس حين تُسرب إلى عدوٍّ بغرض الإضرار، فهي خيانة، والغدر بمن وثق بك خيانة، ونكران المعروف خيانة، والوشاية للظالم خيانة، وأيّ فعلٍ ينتهك العهد والأمانة، هو صورةٌ من صور الخيانة، وإن تلون بألف قناع.

الخائن ليس مختلًا ولا معتوهاً، بل هو “غبي القلب والعقل”، يتوهم دائمًا أنه أذكى من أن يُكتشف، لكنه كالسارق الذي يترك أثر خطواته على الرمال، يتخيّل أنه يتقن التمويه، بينما يترك خلفه ألف دليلٍ على عاره.

“كلما ظنّ أنه أفلت، سقط في الفخ الذي نصبه بيديه.”

إنّ الخيانة ليست فعلًا عابرًا، بل هي “وباءٌ يفتك بالأمم، وسرطانٌ ينخر في أركان الدولة، ولعنةٌ تطارد أصحابها”.

“فلا التاريخ نسيَ أبو رغال، ولا غفر لابن العلقمي، ولا صفح عن كل يدٍ امتدت لتسليم أرضها، أو زرعت بذور الهزيمة في صدور أهلها.”

اليوم، كما بالأمس، يبقى السؤال واحدًا:

  • كم من “ثقبٍ صغيرٍ” فتحه خائنٌ، فكان سببًا في سقوط “حصنٍ منيع”؟
  • وكم من “رجلٍ ظنه الناس منهم”، فإذا به رسول الخراب بينهم؟
  • وكم من “وطنٍ لم يُهزم بمدافع الأعداء”، بل بانحناءةِ “رأسِ خائنٍ” في اللحظة الحاسمة؟

“لعنات التاريخ لا تُخطئ الخونة”، فإن لم يطاردهم السيف، طاردهم الزمن، وإن لم يسقطهم الرصاص، سقطوا في مزبلة النسيان.

وكما يُرمى “أبو رغال” بالحجارة كلما مَرّ الناس على قبره، سيبقى كل خائنٍ “مرجومًا بعارٍ لا يُمحى”، لأن الأوطان قد تغفر لأعدائها حين يرحلون، لكنها لا تغفر لمن خانها من أبنائها.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى