مقالات ورأى

الدكتور على أيوب يكتب: إمتيازات سعيد وعصر التسلط القنصلى في عصر دي لسبس

فى فترة الإمتيازات الأجنبية بعصر والى مصر محمد سعيد باشا كانت قناصل الدول الأجنبية تطالب الحكومة المصرية بتعويضات وهمية يزعمون أنها لحقت بهم أو برعايا دولتهم وكان يفصل فى هذه الطلبات بالطرق الدبلوماسية بين الحكومة المصرية وبين القنصل ، وقد فشت هذه الظاهرة فى محيط الأجانب وأطلق عليها البعض وباء التعويضات وأن هذا الوباء أعتصر الخزانة المصرية !

فالإمتياز الذى حصل عليه الداهية دى لسبس من صديقه القديم محمد سعيد باشا نجل والى مصر محمد على
والذى صدر فى شكل فرمان مكون من إمتياز أول وإمتياز ثان ولائحة تشغيل العمال والفلاحين
لم يكن هو الإمتياز الوحيد الذى منحه سعيد للأجانب فى هذا الوقت
فهناك على سبيل المثال زيزينيا الذى سميت منطقة بالإسكندرية بأسمه حتى وقتنا هذا !

زيزينيا كان قنصل بلجيكا العام فى مصر جمع فى وقت واحد بين إشتغاله بالتجارة وبين العمل فى السلك الدبلوماسي وقد كان هذا الرجل أحد الرعايا اليونانيين ثم أكتسب الجنسية الفرنسية واشتغل قنصلا عاما لبلجيكا فى مصر وظفر بحكم وظيفته من ناحية وجنسيته الفرنسية من ناحية أخرى بتأييد زميله قنصل فرنسا العام فى مصر فى مواقفه الشائنة من الحكومة المصرية ، وقد لمس زيزينيا ضعف سعيد باشا وسخاءه وتقديره العميق للأجانب ، فسول له جشعه أن يدعى أن محمد على كان قد وعده شفويا بأن يمنحه إمتياز الإشراف على إدارة مرور البضائع فى مصر ولكن لم ينفذ محمد على ومن أجل ذلك طالب سعيد بتعويض قدره ثلاثة ملايين جنيه وأيده فى موقفه قنصل فرنسا وقد عرض سعيد عليه تخفيض التعويض إلى ثلاثين ألف جنيه ولكنه رفض العرض وإزاء الإلحاح والضغط استبدل سعيد إمتيازا حقيقيا بإمتياز وهمى إذ منحه إمتياز جباية رسم مرور السفن عند الهويس المنشأ عند إتصال ترعة المحمودية بميناء الإسكندرية ، وكان هذا الإمتياز يدر على القنصل زيزينيا أرباحا سنوية بلغت ثمانية ألاف جنيه ولأمر ما إضطر سعيد إلى سحب هذا الإمتياز من القنصل بعد أن دفع له مائة وثلاثون ألف جنيه بصفة تعويض !!

وإزاء هذه الأمور أفاض قاضى هولندى سابق فى المحاكم المختلطة بمصر فى شرح استغلال قناصل الدول لولاة مصر استغلالا شائنا بعيدا عن العدالة والذمة والشرف .
وإلى جانب هذا الحادث توجد حوادث إحتيال أخرى كان أبطالها( روستى وكاستلانى وجبارا وبرافاى )
فالأخير مثلا الذى يدعى برافاى كان رجلا جاهلا قدم إلى مصر خالى الوفاض وأشتهر بالنكات الجنسية والأحاديث الشيقة وقد قربه سعيد باشا إليه وجعله مديرا لشئونه الخاصة !!

ثم بعد ذلك منحه إمتياز استغلال المناجم الواقعة على شاطىء البحر الأحمر على الرغم من أنه لا يعرف عن أعمال التعدين شيئا ، وقد أسترد سعيد بعد ذلك هذا الإمتياز ومنحه مليون فرنك بصفة تعويض !
وقد تمكن هذا الرجل من جمع ثروة كبيرة فى مصر بلغت ثلاثين مليون فرنك .

ويلاحظ أنه لما تولى سعيد حكم مصر فى ١٤ يوليو ١٨٥٤ عقب مصرع عباس الأول تدفق على البلاد عدد كبير من الأجانب وتضاعف عدد أفراد الجاليات الأجنبية فى مصر على عهده ، وقد وفد الأجانب الجدد بوجه خاص من جنوب شبه الجزيرة الإيطالية ومن بلاد اليونان وفرنسا والنمسا قدموا ليبحثوا عن المأوى والخبز تحت حماية قناصل دولهم .
ويقول قنصل الولايات المتحدة الأمريكية فى مصر وهو شاهد عيان لأحداث ذلك العصر القنصل أدون دى ليون الذى تولى المنصب من ٢٦ نوفمبر ١٨٥٣ إلى ٤ مارس ١٨٦١
إن شوارع القاهرة والإسكندرية كانت تموج وقتئذ بأخلاط غريبة من الأجانب وفدوا من كل فج عميق وتعددت جنسياتهم ولغاتهم وعاداتهم وكانت الإعلانات التى تلصق على حوائط الشوارع فى المدينتين تكتب بأربع لغات هى الإيطالية والفرنسية والإنجليزية والعربية ، وكان فى صفوف أولئك القادمين عدد كبير من المخاطرين والأفاقين أحاطوا بسعيد باشا يبحثون عن الأرباح الضخمة بأيسر الوسائل المشروعة وغير المشروعة !

ولمس قنصل فرنسا العام فى مصر هذه الحالة فسجلها فى تقرير أرسله إلى وزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ ١٢ أكتوبر ١٨٥٤ وقد قال فى هذا التقرير :
( إنه لم يكد يذاع نبأ وفاة عباس باشا حتى هطلت على مصر من كافة أنحاء أوروبا جموع غزيرة العدد من المقامرين والباحثين عن الذهب إلتفوا بالوالى آناء الليل والنهار ، وكأن مصر قد غدت كاليفورنيا جديدة تزخر بمناجم الذهب ، وقدموا إليه مشروعات خيالية لا تستقيم مع منطق أو عقل ، ثم أبدى القنصل أسفه لأن الوالى ينفق وقته فى دراستها مع أولئك الأفاقين الذين يرددون على مسامعه فى كل حين وآن العبارات الرنانة التى تستهويه ويطرب لها إلى حد بعيد .
وقد ندد أحد أقطاب شركة القناة وهو فرنسوا شارل رو فى سنة ١٩٣٦ تلك الروح غير الكريمة فقال : “وهكذا أفتقد الأجانب فى مصر حاسة التمييز بين العدالة وبين التعسف والظلم ” ، وسرعان ما أصاب كثير من الطفيليين ثروات عريضة أصبحوا بها على رأس الجاليات الأجنبية فى مصر . )

المزيد

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى