مقالات ورأى

محمود البازي يكتب: الدور الإيراني في لبنان … الحفاظ على حزب الله وإعادة رسم النفوذ

تبحث الورقة دور إيران في لبنان وحتى في المنطقة من خلال البعد اللبناني، وتركز على مكانة ودور الحزب في إستراتيجية الأمن القومي الإيرانية بعد طوفان الأقصى.

وتقدم تحليلًا للعوامل والضغوط المحتملة التي تؤثر على نفوذ إيران في لبنان، وعلى قدرتها على المناورة بعد فقدان سوريا، جسر التواصل الإستراتيجي، وتراجع نفوذ طهران إقليميًّا في ضوء ذلك.

لقد شكَّل وقف إطلاق النار الذي أنهى الصراع المطول بين إسرائيل وحزب الله، نقطة تحول محورية في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط؛ حيث أعاد تعريف الحسابات الإستراتيجية لإيران في لبنان مع تحول دورها من داعم في زمن الحرب إلى لاعب مركزي في إعادة بناء وإعادة تسليح حليفها الإقليمي الرئيسي.

إن نفوذ طهران في لبنان بعد الحرب يعتمد على ركيزتين أساسيتين: قدرتها الاقتصادية ومدى إمكانية إيجاد طرق إمداد لوجستية لإعادة ترميم القدرة العسكرية والاجتماعية والاقتصادية لحزب الله بعد خسارتها لسوريا لصالح المعارضة.

والثاني هو قدرتها على الصمود في “مواجهة” الأجندة الدولية التي تقودها إسرائيل وحلفاؤها، والتي تسعى إلى تجريد حزب الله من قوته العسكرية وتقليصه إلى مجرد كيان سياسي.

هذا التحول أمر بالغ الأهمية نظرًا لأن تعافي حزب الله يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالهدف الأوسع لإيران المتمثل في موازنة النفوذ الأميركي والإسرائيلي في بلاد الشام.

تبحث الورقة دور إيران في لبنان أو في المنطقة من خلال البعد اللبناني، وتراجع بعضًا من العلاقة التاريخية بين حزب الله وإيران، وتركز على مكانة ودور الحزب في إستراتيجية الأمن القومي الإيرانية بعد طوفان الأقصى.

وتقدم تحليلًا للعوامل والضغوط المحتملة التي تؤثر على نفوذ إيران في لبنان، وعلى قدرتها على المناورة بعد فقدان سوريا، جسر التواصل الإستراتيجي، وتراجع نفوذ طهران إقليميًّا في ضوء ذلك.

حزب الله امتداد إيراني

ما من شك بأن العقدين الماضيين مهَّدا لشرق أوسط، كانت لإيران الكلمة الفصل فيه، من خلال إستراتيجيات عسكرية وسياسية وأيديولوجية كبرى بَنَتْها طهران من خلال عقيدة الردع المتقدم للصراع مع إسرائيل.

وقد أدى حزب الله الدور الأكبر في تشكيل هذا الشرق الأوسط من خلال قوته العسكرية الكبيرة ونفوذه الإقليمي.

يوضح مستشار المرشد الإيراني، العميد يحيى رحيم صفوي، العقيدة الإيرانية المتعلقة بالردع المتقدم والعمق الإستراتيجي بالقول: “إنها المرة الثالثة منذ عهد الإمبراطورية الأخمينية التي نصل فيها إلى البحر المتوسط، وذلك بعد تشكيل حزب الله؛ حيث تجب زيادة العمق الإستراتيجي لإيران لمدى خمسة آلاف كيلومتر وإذا هاجمتنا الولايات المتحدة، نستطيع ملاحقتها من الجانب الآخر من البحار”.

إن الدور الذي لعبته إيران في إنشاء حزب الله وتطويره، هو عملية متعددة الأوجه متجذرة في عوامل تاريخية وأيديولوجية وجيوسياسية.

لقد ساعد التقارب بين ديناميكيات لبنان الداخلية وتطلعات إيران الثورية في أواخر القرن العشرين في ظهور حزب الله كيانًا سياسيًّا وعسكريًّا مهمًّا.

وكان للثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، تأثير عميق على “المجتمعات الشيعية” في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك لبنان.

لقد ألهم نجاح الثورة رجال الدين والناشطين الشيعة اللبنانيين نموذجًا إقليميًّا للحكم الإسلامي، سعوا إلى محاكاته، وأرسى هذا التوافق الأيديولوجي الأساس للتعاون بين القادة الإيرانيين والشخصيات الشيعية اللبنانية، كان من أبرزهم تاريخيًّا، مؤسس حركة أمل، موسى الصدر، وذلك بدعم من القيادي الإيراني، مصطفى شمران.

أسهم الغزو الإسرائيلي للبنان، عام 1982، في تحفيز تشكيل حزب الله بوصفه حركة “مقاومة” ضد الاحتلال، فقد أرسلت إيران ما يقرب من 1500 عضو من الحرس الثوري الإسلامي إلى البقاع في لبنان بهدف تنظيم وتدريب “الجماعات الشيعية” المحلية لمقاومة القوات الإسرائيلية.

أدت هذه المبادرة إلى توحيد “مجموعات شيعية” تحت مظلة حزب الله.

وقد امتد دعم إيران لحزب الله إلى ما هو أبعد من التدريب العسكري، إلى المساعدات المالية والتوجيه الأيديولوجي والدعم اللوجستي، وهو ما كان له دور أساسي في تشكيل البنية التنظيمية لحزب الله وقدراته العملياتية.

مع مرور الوقت، تطور حزب الله من جماعة شبه عسكرية إلى منظمة متعددة الأوجه ذات نفوذ سياسي كبير في لبنان، فقد أسس خدمات اجتماعية ومؤسسات تعليمية ومنافذ إعلامية، وبالتالي غرس نفسه داخل المجتمع اللبناني.

وعلى الرغم من اندماجه في النظام السياسي اللبناني، فقد حافظ حزب الله على علاقاته الأيديولوجية والعملياتية مع إيران، وتطورت لتتحول هذه العلاقة من “الوكالة” إلى “التحالف”، وأصبحت طهران ترى أن ما يراه حزب الله وأمينه العام السابق، حسن نصر الله، مفيدًا في لبنان والإقليم، سيكون مفيدًا لطهران بالضرورة.

كان لشخصية حسن نصر الله دور مهم في صناعة هذا الدور؛ إذ يصفه الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، شفيق شقير، بأنه “أعاد تأسيس الحزب على صورته التي انتهى إليها، وهي تشبه نصر الله نفسه.

فأصبح أكثر ارتباطًا بالبيئة المحلية اللبنانية وتحدياتها السياسية والطائفية، وأوثق ارتباطًا بإيران وأيديولوجيتها الدينية والسياسية وأهدافها في الإقليم، وأعطى المقاومة معنى يتجاوز فلسطين ويرتكز عليها”.

بناء على ضرورات المرحلة والقوة التي تمتع بها حزب الله بعد حرب 2006، دعمته طهران في عدة مهام إقليمية، منها التدخل في سوريا للحفاظ على حكومة الأسد بعد ثورة 2011، وكذلك الحفاظ على خط الإمداد اللوجستي من طهران إلى بيروت، والتدخل في اليمن لتدريب الحوثيين وتسليحهم، والتدخل في العراق لتنسيق عمل الفصائل العراقية ضد القوات الأميركية وحل الخلافات بينها خاصة بعد مقتل قاسم سليماني.

“حرب الإسناد” والمحور

إيران كغيرها من الدول تفاجأت بعملية طوفان الأقصى التي شنتها حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وعلى الرغم من اختلاف طريقة حماس عن الطريقة الإيرانية في ضرب إسرائيل، إلا أنها كانت راضية وبتفاؤل مفرط عن نتائج العملية وباركتها.

الجدير بالذكر أن حماس اعتمدت في “الطوفان” ضربة كبيرة وهائلة بينما إيران تعتمد على الصراع طويل الأمد والضربات المتعددة.

عسكريًّا، لم يستفد محور المقاومة بالمفهوم الواسع له من عنصر المفاجأة التي خلقتها “طوفان الأقصى”، وقرر دعم حماس عبر “جبهات إسناد”، من حزب الله في لبنان والفصائل “المقاومة” في العراق وأنصار الله الحوثي من اليمن.

إن القرار بتفعيل جبهات الإسناد وفق تصعيد منخفض الحدة، دون الذهاب إلى مواجهة مطلقة وعالية المستوى لإجبار إسرائيل على تخفيض التصعيد، أي ما يسمى معادلة “التصعيد لخفض التصعيد”، جاء بسبب عوامل متعددة.

أولها: إستراتيجية إيران بتفادي المواجهة المباشرة مع إسرائيل والاعتماد على “حروب الظل”.

ثانيها: تحول حزب الله بعد حرب 2006 من جماعة مسلحة ما دون الدولة إلى هيكل سياسي وعسكري مشابه للدولة، والتفكير بالمنطق السياسي والبراغماتي للدول، وعدم رغبته بتغيير قواعد الاشتباك القائمة مع إسرائيل.

الثالث: إيحاء إسرائيل بانخراطها الجدي في المفاوضات مع حماس، وهو ما دفع وزير الخارجية الإيراني السابق، أمير عبد اللهيان، والحالي، عباس عراقجي، إلى التعويل على وقف إطلاق النار في غزة للحفاظ على البنية الهيكلية العسكرية لحماس في غزة وحزب الله في لبنان.

على صعيد المواجهة، نظر كل من إيران وحزب الله إلى الصراع مع إسرائيل من منظور عسكري بحت، وبالنظر إلى ما انتهت إليه الحرب، يبدو أنهم لم يحسنوا تقدير التفوق التكنولوجي والاستخباراتي والأمني الإسرائيلي جيدًا.

أما إسرائيل فقد قامت بتنفيذ هجومها على مراحل لاستكشاف قدرات الحزب أو ما يملكه من أوراق، فكان اغتيال شخصيات عسكرية مهمة وبشكل تصاعدي، بدءًا بالقيادي في حماس، صالح العاروري، ومن ثم القيادي الأكثر أهمية لحزب الله، فؤاد شكر.

وعلى الصعيد التقني، جاء إطلاق اليمن لصاروخ فرط صوتي تجاه إسرائيل، ليكشف القدرة التدميرية لأكثر الصواريخ الإيرانية تطورًا وسرعة.

بناء على هذه العوامل مجتمعة، بنت إسرائيل قرارها بفتح جبهة عالية التصعيد مع حزب الله بدأتها بتفجيرات أجهزة الاتصالات وصعَّدت من حدتها باغتيال نصر الله وأنهتها باقتحام بري محدود ومركَّز لجنوب لبنان ضمن أهداف معقولة وقابلة للتحقق.

سياسيًّا، إن ما يحكم توجهات السياسية الخارجية الإيرانية ودورها الإقليمي امتدادًا إلى الحرب الإسرائيلية على حماس وحزب الله هو أمران:

أولًا: نظريتها في البقاء، وأن الحفاظ على نظام الجمهورية الإسلامية هو من أوجب الواجبات؛ “فالنظام في إيران ليس نظامًا انتحاريًّا، كما أنه يفضِّل براغماتية البقاء بمنسوب مقبول من المبادئ الثورية”.

ثانيًا: قدرتها على خلق معادلة ردع تمنع الآخرين من استهدافها داخل حدودها.

هذان المحددان يتفوقان وبشدة على عنصر الأيديولوجيا لتحرير القدس أو مواجهة إسرائيل عبر حرب مفتوحة.

لم تدفع طهران بحزب الله نحو حرب مفتوحة كاملة بعد غزو إسرائيل البري لغزة ولحماس، لأنها لم ترد أن تخاطر بأقوى حلفائها في المنطقة؛ ما وفر مساحة مناسبة لإسرائيل للتفرغ لضرب حزب الله في العمق والقضاء على بنيته العملياتية المؤثرة، المتمثلة بأجهزة اتصالاته وقياداته الميدانية في الصف الأول والثاني، ناهيك عن أن الحزب استخدم فقط 28 صاروخًا باليستيًّا طويل وقصير المدى من أنواع (فاتح وقادر1 و2 ونصر1 و2).

ولكن هذا لا يمنع من القول بأن الحزب بعد هذه العمليات الإسرائيلية عمل على كشف شبكات النفوذ داخله، وعلى تصعيد عملياته الصاروخية ضد إسرائيل وإلحاق الخسائر بها، ما دفع الأخيرة للتعجيل بصفقة وقف إطلاق النار.

إن الضربات الإيرانية التي تم توجيهها ضد إسرائيل ضمن عمليات الوعد الصادق 1 و2، كانت بفعل إعادة رسم خطوط معادلة الردع مرة أخرى وليس دفاعًا عن حزب الله أو حماس.

من الأهمية بمكان إدراك أنه خلال السنوات الماضية تعرضت القوات الإيرانية في سوريا لضربات قوية من إسرائيل، وفي ذات الاتجاه نفذت إسرائيل عمليات اغتيال و”أعمال تخريبية” ضد المفاعلات النووية داخل الحدود الإيرانية، واغتالت كذلك بعض علمائها النوويين، ولم ترد بشكل مباشر على هذه الأحداث.

قال القيادي في هيئة الأركان الإيرانية، العميد محمد جعفر أسدي، بأن إيران امتنعت عن الهجوم من الأراضي الإيرانية على إسرائيل بشكل مباشر على مدار سنوات.

ولكن يبدو أن المتغير الحقيقي الذي حدث، أن طهران رأت في ضربة قنصليتها في سوريا ومن ثم اغتيال هنية داخل أراضيها بشكل متزامن مع الضربات الإسرائيلية لكل من حماس وحزب الله، تهديدًا خطيرًا لردعها الإستراتيجي، لذلك هاجمت من أراضيها وعبر ترسانتها الصاروخية والمسيرات المتطورة.

وهي رسالة بأنها مستعدة كل الاستعداد لخوض مواجهات مفتوحة عبر الرد والرد المتقابل فقط وفقط لحماية حدودها وليس للتدخل لإنقاذ حلفائها.

بناء على هذا التطورات، تبلورت رؤية أميركية-إسرائيلية بأنه من الممكن إعادة إيران إلى حدودها وقطع نفوذها في الشرق الأوسط، وحدث تغير مهم في العقيدة الإسرائيلية التي تحدثت كثيرًا عما تسميه ضرب رأس الأخطبوط في طهران، وضرب أذرعه في سوريا ولبنان وفلسطين، وفي مرحلة لاحقة في العراق.

التفسير الإيراني المتفائل لوقف إطلاق النار

حمل “وقف إطلاق النار” في لبنان تفسيرات مختلفة للأطراف المنخرطة في الصراع. اعتبرته طهران انتصارًا للمقاومة وحزب الله، وأن وقف إطلاق النار جاء نتيجة للضربات التي تلقتها إسرائيل من الحزب بعد اغتيال نصر الله.

وفق هذا التفسير فإن عدم الهزيمة المطلقة لحزب الله وعدم تفكك بنيته العسكرية هو الانتصار.

يبدو أن القيادة الجديدة لحزب الله ممثلة بنعيم قاسم، لم تكن قادرة على اتخاذ قرار وقف جبهة الجنوب والقبول بوقف إطلاق النار والانسحاب لما وراء الليطاني، لأن ذلك يعني التخلي عن وعد نصر الله باستمرار جبهة الإسناد لغزة ما دامت الحرب الإسرائيلية مستمرة عليها.

وبناء على ذلك جاء تدخل إيران من خلال ارسال المرشد الإيراني لكبير مستشاريه، علي لاريجاني، إلى كل من سوريا ولبنان.

صحيفة جوان الإيرانية المقربة من الحرس الثوري الإيراني، قالت: إن جزءًا من رسالة المرشد للبنان هي أن طهران تؤيد موقف الحكومة اللبنانية برفض أي تعديل للقرار الأممي 1701، لذلك وافقت بشكل ضمني على وقف إطلاق النار ورأت فيه فرصة لخلق ظروف مشابهة لما حدث بعد حرب 2006، أي الالتفاف على القرار وعلى آلية الرقابة، وإعادة بناء منظومة حزب الله العسكرية والاجتماعية والاقتصادية بمساعدة إيرانية عبر الحدود السورية.

لهذا السبب، توجه مستشار المرشد، علي لاريجاني، إلى سوريا فيما يبدو للحصول على الضوء الأخضر من الأسد للإبقاء على خطوط الإمداد مفتوحة، لأن سوريا في إستراتيجية طهران هي حلقة الوصل والمعبر اللوجستي لإعادة إحياء وترميم قدرات حزب الله العسكرية، التي دُمِّر قسم كبير منها في الحرب مع إسرائيل.

وهذا ما يفسر حرص طهران على إبقاء الأسد في محورها، رغم أنه لم يكن جزءًا من إستراتيجية “وحدة الساحات” بعد طوفان الأقصى.

ولكن بخسارة سوريا بعد انتصار المعارضة المسلحة على نظام بشار الأسد، خسرت طهران وحزب الله هذا الجسر.

مستقبل النفوذ الإيراني

تعكس الرواية الإيرانية لما حدث في المنطقة في أعقاب عملية طوفان الأقصى، وعيًا عميقًا بالجهود الإسرائيلية التي تهدف لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقًا لمصالحها الإستراتيجية، وعلى حساب النفوذ الإقليمي الإيراني ضمن معادلة صفرية بحتة.

أما رد طهران فلم يأت استسلامًا ولا قبولًا سلبيًّا، بل جاء ليؤكد بدلًا من ذلك على إستراتيجية ذات مسارين: التكيف الفوري مع الديناميكيات المتغيرة، يليه إعادة معايرة نفوذ طهران من خلال آليات جديدة ومجالات عمل أوسع.

تسلط التصريحات الصادرة عن القيادة الإيرانية، بما في ذلك المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني، الضوء على الاعتقاد المستمر بأن الحرب على حزب الله ومن ثم إسقاط بشار الأسد كان مدبرًا كمؤامرة أميركية/إسرائيلية تهدف إلى تقويض العمق الإستراتيجي لإيران وإضعاف محورها.

وعلى الرغم من التحديات العديدة، لا يبدو أن إيران ستنحرف عن إستراتيجيتها الكبرى الشاملة التي تركز على الردع المتقدم والدعم الثابت للجماعات المسلحة غير الحكومية؛ حيث يقف حزب الله كأشد حليف لها، لما لها من فاعلية على المستوى العملياتي في الشرق الأوسط.

لهذا فإن إستراتيجية إيران تقوم على دعامتين: المحافظة على الشيعية السياسية في لبنان، والالتزام بترميم قوة حزب الله.

بخصوص الأولى، الحفاظ على الشيعية السياسية: إن الدعم الاقتصادي الإيراني لحزب الله بعد الحرب يعكس إستراتيجية مدروسة تهدف إلى الحفاظ على نفوذ طهران في لبنان وتوسيعه على الرغم من البيئة الجيوسياسية سريعة التطور.

ويدمج هذا الجهد المساعدات الاقتصادية والمناورات السياسية والإستراتيجية في منظور واحد، في حين يتصدى الطرفان، إيران وحزب الله، لحملة دولية منسقة تهدف إلى تقويض الأسس المجتمعية والعملياتية لحزب الله.

تشير تقديرات البنك الدولي إلى أنه منذ دخول حزب الله الحرب في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 27 أكتوبر/تشرين الأول 2024، تكبد لبنان خسارة اقتصادية تعادل 5.1 مليارات دولار، كما أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية تقدر بـ 3.4 مليارات دولار.

كما تضررت أو دمرت بالكامل أكثر من 99 ألف وحدة سكنية، وهي خسارة تعادل 2.8 مليار دولار.

وتشير التقارير إلى أن أكثر من 77 مليون دولار تم توجيهها إلى إعادة بناء المنازل وتعويض الأسر النازحة واستعادة البنية الأساسية في معاقل حزب الله، مثل جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.

تخدم هذه المبادرة أكثر من الأغراض الإنسانية؛ فهي تعزز صورة حزب الله حاميًا للمجتمع “الشيعي”، وتضمن استمرار الدعم الشعبي من خلال التعافي الملموس بعد الصراع.

ويكمل هذه الجهود تنشيط القرض الحسن، الذراع المالية لحزب الله، والتي استأنفت عملياتها على الرغم من الأضرار الجسيمة الناجمة عن الغارات الجوية الإسرائيلية.

تعمل هذه المؤسسة على استقرار الاقتصاد المحلي لأنصار حزب الله، من خلال تقديم قروض خالية من الفوائد وخدمات التمويل الصغيرة وصناديق التنمية المجتمعية، وتدعم عملياتها نظامًا اقتصاديًّا موازيًا يعزز من استقلال حزب الله عن القطاع المصرفي الرسمي في لبنان، ويوفر شرايين حياة اقتصادية بالغة الأهمية وسط ضغوط خارجية متزايدة.

وتتضمن الإستراتيجية المالية الإيرانية أيضًا الاستفادة من تدهور الاقتصاد اللبناني لتوسيع نفوذ حزب الله الاقتصادي والاجتماعي، وهي الإستراتيجية المعتمدة قبل الحرب الأخيرة، فانهيار العملة اللبنانية والقيود المصرفية الرسمية سمحت لحزب الله بتعزيز نفوذه في بعض القطاعات الأساسية. فقد استحوذت مؤسسات محسوبة على الحزب على شركات متعثرة ماليًّا، سواء في مجال الأدوية والصيدليات، أو على صعيد السلع الأساسية، من ذلك على سبيل المثال أنها أنشأت متاجر “نور” التي تبيع السلع الإيرانية والسورية المدعومة؛ ما يعني ربط الدعم الاقتصادي بشكل مباشر بالولاء السياسي، وإنشاء شبكة أمان اجتماعي قائمة على نفس الأساس.

على الصعيد السياسي، كانت إيران حريصة على إدارة الخلافات المحتملة داخل الطيف السياسي الشيعي في لبنان، مثل تلك التي كانت تاريخيًّا بين حركة أمل، بقيادة نبيه بري، وحزب الله.

قد لا تخشى طهران عودة الصراع بين حركة أمل وحزب الله كما حدث في المواجهات المسلحة في الثمانينات فهما تجاوزا تلك المرحلة، لكنها قد تخشى أن يعمل المجتمع الدولي على حصر المساعدات المالية وإعادة الإعمار عبر بوابة نبيه بري؛ مما يعزز مكانته السياسية في المجتمع الشيعي على حساب حزب الله.

على الصعيد الجيوسياسي، تواجه إيران معارضة دولية متزايدة، وقد تتجدد العقوبات الأميركية عليها لاسيما في ظل سياسة “الضغط الأقصى” مع عودة الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، إلى الحكم في واشنطن؛ ما يعني تقييد القدرة المالية الإيرانية بشكل أكبر.

كما أدت الغارات الجوية الإسرائيلية المستهدِفة للمراكز المالية لحزب الله، بما في ذلك فروع القرض الحسن، إلى تكثيف الجهود لتعطيل تدفقات تمويل حزب الله.

وفي الوقت نفسه، تفرض العقوبات التي تستهدف قطاع النفط الإيراني ضغوطًا على قدرة طهران على دعم قنوات تمويلها التقليدية لحزب الله.

تؤكد هذه التحديات، أن القنوات التقليدية السابقة لتمويل حزب الله من قبل إيران لوحدها لم تعد كافية.

بخصوص الثانية، إعادة ترميم البنية العسكرية: إن انهيار نظام بشار الأسد في سوريا يمثل انتكاسة كبيرة لمحور المقاومة الإيراني، ويعطل ارتباطه الإستراتيجي بحزب الله في لبنان، حتى إن مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، وصف سوريا بالحلقة الذهبية لخط المقاومة، وأنها إذا انقسمت أو سقطت حكومتها، فإن ذلك سيؤثر فعليًّا على لبنان والعراق.

أثبتت التجارب أن لدى إيران قدرة على التكيف في الحفاظ على تحالفاتها الإقليمية وشبكات حلفائها وخلق مساحات النفوذ بشكل هادئ، حتى في خضم التحولات الجيوسياسية الكبرى.

مثلما حدث في العراق بعد الغزو الأميركي من خلال تسليح وتدريب فصائل مسلحة ككتائب حزب الله العراقية وعصائب أهل الحق.

وكذلك كان الأمر في اليمن في مواجهة آلية تفتيش التجارة البحرية التابعة للأمم المتحدة، وتجاوز جهود الاعتراض والمراقبة البحرية من قبل حلف شمال الأطلسي وقوات البحرية الخليجية.

وعلى نفس المنوال كان تحدي طهران للقرار الأممي 2216 الذي حظر نقل الأسلحة للحوثيين، ورغم ذلك استطاعت بناء ترسانة الحوثيين من الصواريخ الباليستية متوسطة المدى، والصواريخ المضادة للسفن، وصواريخ كروز، والطائرات المسيرة الهجومية بعيدة المدى، والقوارب المسيَّرة المفخخة، والصواريخ أرض-جو، وغيرها من القدرات المتقدمة، بل استطاعت تهريب منتجات الوقود المدعومة بشكل كبير.

إذن، لا يعني سقوط نظام الأسد بالضرورة أنها ستتخلى عن جهودها لإعادة تسليح حزب الله، وعلى هذا الصعيد يؤكد قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء حسين سلامي، أن طرق “دعم جبهة المقاومة” لا تزال مفتوحة ولا تقتصر على سوريا، بل يرى أن الوضع الراهن في سوريا قد يتغير تدريجيًّا.

الخلاصة أن إيران ستسعى إلى طرق وأساليب بديلة لمواصلة تسليح حزب الله، سواء عبر البر أو البحر، وأنها ستعمل على الاستفادة من حالة عدم الاستقرار في سوريا إذا ما تحولت الأوضاع هناك في هذا الاتجاه.

فضلًا عن ذلك، لن تعجز عن تعزيز الإنتاج المحلي داخل لبنان عبر نقل الخبرة الفنية والمواد الأولية لإنتاج الصواريخ والطائرات بدون طيار وتصنيعها محليًّا مع الخبرات التي اكتسبها حزب الله خلال السنوات الماضية.

ومع ذلك، لا تبدو أي من هذه الإستراتيجيات سهلة المنال، وستواجه إيران بإعادة تسليح الحزب عقبات حقيقية في محاولاتها هذه.

خاتمة

في أعقاب وقف إطلاق النار في لبنان وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، تطور السرد الإستراتيجي الإيراني في الحفاظ على ركائزه الأساسية للردع من خلال الجماعات المسلحة من غير الدول، وخاصة حزب الله اللبناني.

يؤكد الخطاب الإيراني أن سقوط الأسد نابع من فشل القوات العسكرية النظامية السورية، في حين يؤطر في الوقت نفسه بقاء حزب الله ومرونته العملياتية ضد إسرائيل باعتباره انتصارًا إستراتيجيًّا.

يعكس هذا السرد المزدوج الحسابات الجيوسياسية الأوسع لإيران، وهي الحفاظ على نفوذها من خلال الحرب غير المتكافئة والردع الشبكي المتقدم القائم على حلفائها من غير الدول.

تعتمد الإستراتيجية الكبرى لإيران على الاستفادة من حزب الله كجهة فاعلة غير حكومية محورية ضمن بنيتها الأمنية الأوسع، وعلى الرغم من فقدانها الوصول الإقليمي المباشر إليه عبر سوريا، فإن إيران لم تتخل عن طموحاتها ولا عن إطارها العملياتي المتصل بالحزب.

بل يبدو أنها عازمة على تكرار سيناريو ما بعد حرب عام 2006، وتجاوز قرار مجلس الأمن 1701 من خلال استكشاف عمليات نقل الأسلحة بشكل سري وتعزيز البنية التحتية العسكرية لحزب الله.

إن هذا الجهد يأتي مصحوبًا باستثمارات إستراتيجية تهدف إلى إعادة بناء المؤسسات المالية والاجتماعية لحزب الله لتأمين ترسيخ “الشيعية السياسية” في الأمد البعيد داخل هيكل السلطة في لبنان.

وإذا كثف التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل جهوده لمواجهة إستراتيجية إيران، فإن طهران تبدو مستعدة بخطط طوارئ.

ففي حين قد تواجه إعادة الإمداد العسكري تحديات، فمن غير المرجح أن يتوقف الدعم الاقتصادي الإيراني لحزب الله بالكامل، وعلى أقل تقدير، فإن دعم حزب الله ككيان سياسي قادر على موازنة الفصائل اللبنانية المدعومة من منافسيها وخصومها، يتماشى مع الهدف الدائم لإيران المتمثل في الحفاظ على نفوذها في لبنان وبلاد الشام على نطاق أوسع.

المصدر: (مركز الجزيرة للدراسات)

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى