مقالات ورأى

حسن نافعة يكتب: نعم، تلقّت المقاومة ضربة قاسية، لكنها لم تهزم

تغلب على الكتابات العربية حالياً، خصوصاً النخب المعروفة بمواقفها الداعمة للمقاومة الفلسطينية، نبرة مشحونة بمشاعر قلق عميق، وصل في بعض الأحيان إلى درجة تبعث على الإحباط واليأس. ويعود السبب في تفشي هذا القلق إلى الخوف مما قد يحمله المستقبل في طياته من مصير يعتقد البعض أنه لم يعد يبعث على التفاؤل.

لمشاعر القلق هذه ما يبررها، خصوصاً بعد الدمار الشامل الذي أصاب قطاع غزة، وبعد الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله، وأجبرته على وقف مساندته العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية والتراجع إلى ما وراء نهر الليطاني، وبعد الزلزال الهائل الذي ضرب سوريا وأدى إلى سقوط نظام محسوب على محور المقاومة.

غير أن ذلك كله لا يبرر استسلام النخب العربية، خصوصاً الشريحة الرافضة للمشروع الصهيوني، لمشاعر الإحباط واليأس. فالأمور لم تصل بعد إلى هذه الدرجة من السوء، فضلاً عن أن الشعوب العربية باتت اليوم في أمسّ الحاجة إلى كل من يساعدها على شحذ الهمم، وليس على القنوط والتخاذل، وإلى كل من يحثها على الثبات والصمود، وليس على التسليم بالهزيمة، وإلى كل من يعمل على بث الأمل في النفوس، وليس على الترويج لكل ما يؤدي إلى الانكسار والاستسلام.

لا ينبع الموقف المحرض على استمرار المقاومة من رغبة في التعبئة والالتفاف حول أمل كاذب، ولا يعكس محاولة لبيع الأوهام، ولا يحث على الجري وراء سراب مخادع، وإنما هو موقف يستند إلى حقائق موضوعية ثابتة، تنطلق من التنبيه إلى أهمية التمييز بين المقاومة ومحور المقاومة وضرورة الحرص على عدم الخلط بينهما.

 فالمقاومة حاجة أصيلة يفرضها واقع الاحتلال في كل مكان ولا تنتهي إلا بزواله، ما يجعل القضاء عليها أمراً مستحيلاً ما دام الاحتلال مستمراً ومصراً على عدم الرحيل. أما محور المقاومة فهو ائتلاف بين مكونات مختلفة يجمع بينها هدف مشترك، ما يجعل قيامه خاضعاً لاعتبارات ظرفية تمليها حركة موازين القوى الإقليمية والدولية، وهي متغيرة بطبيعتها. فالائتلاف القوي اليوم قد يضعف غداً.

إذاً، موازين القوى المحيطة والمؤثرة، والائتلاف القائم اليوم قد يتفكك غداً ليحل محله ائتلاف آخر قد تفرضه موازين القوى الجديدة. ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يصبح الشعب الفلسطيني ركيزة أساسية لأي مقاومة حقيقية في المنطقة، وذلك لسبب بديهي وهو أن صراعه مع المشروع الصهيوني هو صراع وجود وليس صراع حدود. ولأن الاحتلال الصهيوني لا يخفي رغبته في الإصرار على عدم الانسحاب من أي أرض فلسطينية يسيطر عليها، فمن الطبيعي أن تظل المقاومة الفلسطينية لهذا الاحتلال حية على الدوام، وأن يكون وجودها جاذباً لكل القوى الراغبة في مقاومة المشروع الصهيوأميركي للهيمنة على المنطقة، وليس العكس.  

صدرت مؤخراً عن مسؤولين إسرائيليين، في مقدمتهم نتنياهو نفسه، تصريحات تتيه زهواً وتنضح غروراً. فهي تتحدث بكل عجرفة عن انتصارات ساحقة تمكن الكيان من تحقيقها بالفعل، وعن انتصارات أخرى يعتقد أنها في طريقها للتحقق. ففي ما يتعلق بالأولى، تؤكد هذه التصريحات أن الكيان الصهيوني تمكن من:

1- القضاء التام على المقاومة الفلسطينية، ليس في قطاع غزة فحسب وإنما في الضفة الغربية أيضاً، بل إن الجناح الأكثر تطرفاً في حكومة الكيان يعتقد أن الطريق أصبح الآن ممهداً لتهجير الفلسطينيين من القطاع وإقامة المستوطنات اليهودية فيه من جديد، وللتوسع في بناء المزيد من المستوطنات في الضفة وضم ما هو قائم فيها.

2- إخراج حزب الله اللبناني من المعادلة العسكرية للصراع،  خاصة بعد تدمير معظم أسلحته الاستراتجية واغتيال أهم قياداته السياسية والميدانية، بمن فيهم زعيمه حسن نصر الله الذي تمتع بكاريزما غير مسبوقة،  وإجباره على سحب ما تبقى من أسلحته إلى ما وراء نهر الليطاني.

3- إسقاط نظام بشار في سوريا،  بعد توجيه ضربات ساحقة لحليفيه الإيراني واللبناني،  ما ساعد على تحويل سوريا إلى ساحة مستباحة مكّنت “جيش” الكيان من احتلال مساحات جديدة من الأراضي السورية،  ومهد الطريق أمام إمكانية تطبيع العلاقة مع الدولة العربية الوحيدة التي ظلت حتى وقتنا هذا عصية على التطبيع ورافضة له من حيث المبدأ،  وبهذا تكون جميع “دول الطوق” قد استسلمت للمشروع الصهيوني وأصبحت جاهزة للتطبيع مع “دولة إسرائيل الكبرى”!!. أما بالنسبة إلى الانتصارات القادمة على الطريق، فتشمل: 1- تصفية القيادات السياسية والميدانية لجماعة أنصار الله في اليمن،  إذ تؤكد تصريحات قادة الكيان أنها ستتم بالطريقة نفسها التي تمت بها تصفية قيادات حماس والجهاد وحزب الله،  2- تدمير البرنامجين النووي والصاروخي لإيران والسعي لإسقاط نظامها السياسي أيضاً،  إذ تؤكد تصريحات قادة الكيان أن هذه الأهداف ستتحقق بالتعاون مع إدارة ترامب التي تستعد هذه الأيام لدخول البيت الأبيض.

توحي هذه التصريحات بأن الكيان تمكّن بالفعل خلال الحرب الأخيرة التي شنّها على عدة جبهات من تغيير موازين القوى في المنطقة لصالحه، وأن شرقاً أوسط جديداً،  بالمعايير الصهيوأميركية،  على وشك أن يولد. غير أن إمعان النظر فيها يساعد على اكتشاف أنها مجرد أمانٍ أقرب إلى الأوهام ولا تستند إلى أي حقائق موضوعية،  وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: لأن المقاومة الفلسطينية المسلحة لم تهزم ولم تستسلم ولا تزال تقاوم، رغم الدمار الهائل الذي أصاب قطاع غزة وعدداً كبيراً من مخيمات الضفة الغربية. بل وما تزال فصائل المقاومة في غزة تحتفظ بالعشرات من الأسرى الإسرائيليين، بينما “جيش” الكيان عاجز عن تحريرهم بالقوة المسلحة بعد ما يقرب من خمسة عشر شهراً من حرب إبادة جماعية تشن على القطاع بلا هوادة.

ولأن الشعب الفلسطيني لم يستسلم،  رغم كل ما قدمه من تضحيات،  فضلاً عن عدم وجود أي نية لدى الكيان للانسحاب من أي جزء من الأراضي الفلسطينية،  فستظل المقاومة حية في وجدانه،  بل وسيظل ما تحقق في “طوفان الأقصى” ملهماً لحثه على الاستمرار في المقاومة إلى أن يزول الاحتلال نهائياً، وبالتالي فالأرجح أن يضطر الكيان في نهاية المطاف إلى توقيع صفقة لتبادل الأسرى بالشروط الفلسطينية،  الأمر الذي ستكون له تداعيات هائلة على الكيان من الداخل،  بل وليس من المستبعد أن تنهار حكومة نتنياهو التي فشلت في منع الطوفان مثلما فشلت في تحقيق أهداف الحرب في الوقت نفسه.

ثانياً: لأن حزب الله لم يدمر ولم يفقد قدراته القتالية. صحيح أنه تلقى ضربات موجعة خسر خلالها العديد من قياداته، لكنه ما زال يحتفظ بجزء كبير من تجهيزاته العسكرية، خصوصاً بعد تمكنه من استعادة آليات القيادة والسيطرة بسرعة، وبالتالي يستطيع العودة إلى القتال، إذا تطلب الأمر وانهار وقف إطلاق النار. صحيح أن نتنياهو يعتقد أن حزب الله لن يكون قادراً على إعادة تسليح نفسه بعد انقطاع خط الإمدادات التي كانت تأتيه عبر سوريا، لكن عليه أن يتذكر أن فصائل المقاومة الفلسطينية المحاصرة بحراً وبراً وجواً في قطاع غزة استطاعت ليس فقط أن تتسلح ولكن أن تلحق بها هزيمة عسكرية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ثالثاً: لأن الكيان يبدو عاجزاً حتى الآن عن التعامل بأي قدر من الفاعلية مع جماعة أنصار الله في اليمن. فقد أثبتت الأخيرة قدرة مذهلة على التحدي والإصرار على مواصلة إسناد المقاومة الفلسطينية، رغم خروج الجبهة اللبنانية مؤقتاً من ساحة المعركة، ورغم مشاركة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا إلى جانبه في غارات جوية تم شنها على مناطق عديدة داخل اليمن.

رابعاً: لأن انهيار نظام بشار في سوريا لن يؤدي بالضرورة إلى النتائج التي يتوقعها الكيان،  خصوصاً في ظل تصرفاته المستفزة للشعب السوري والتي أدت إلى إقدامه على احتلال ما يقرب من 500 كم2 من أراضيه. صحيح أن الكيان يدفع في اتجاه تأسيس نظام سوري ضعيف، يقبل التوقيع على معاهدة سلام معه، أسوة بمصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ويضم كيانات تقام على أسس طائفية. غير أن مشروع الأقليات في العالم العربي، والذي يسعى الكيان باستماته لتحويله إلى واقع، هو مشروع حروب أهلية لا تنقطع ولا يملك مقومات المشروع السياسي القابل للحياة وللتحقق على أرض الواقع، فلا توجد في العالم العربي كيانات طائفية يمكنها تأسيس دول مستقلة قابلة للدوام وتحقيق الاستقرار. 

خامساً: لأن تدمير برنامجي إيران النووي والصاروخي، ناهيك بتغيير نظامها السياسي، لن يكون بالأمر الهين. صحيح أن نتنياهو يحلم بتحقيق هذه الأهداف مجتمعة، ويدرك أنه لا يقدر عليها وحده، لكنه سوف يستميت لإقناع ترامب بأن إسقاط النظام الإيراني هو السبيل الوحيد للقضاء على محور المقاومة وللهيمنة على منطقة الشرق الأوسط الغنية بالموارد والمهمة على الصعيد الجيواستراتيجي،  ومع ذلك فمن المشكوك فيه كثيراً أن ينزلق ترامب إلى منحدر قد يؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية كبرى،  وربما حرب عالمية ثالثة.

لكل ما تقدم،  ينبغي للمناصرين للقضية الفلسطينية،  الأنبل والأشرف على كل الصعد العربية والإسلامية والإنسانية،  أن لا يتسلل اليأس إلى قلوبهم،  وإلا تحولت النكسة التي أصابت المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة إلى هزيمة فعلية،  بدلاً من أن تشكل حافزاً إضافياً على مواصلة النضال ضد مشروع صهيوني هو الأكثر عنصرية وهمجية في تاريخ البشرية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى