عفو رئاسي عن 54 معتقلاً يكشف أبعاداً خطيرة للأحكام العسكرية في سيناء
أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرار مفاجئ، عفواً رئاسياً عن غالبية المعتقلين الذين تم الحكم عليهم في وقت سابق بتهم المشاركة في تظاهرات “حق العودة إلى رفح”.
القرار الذي جاء بعد أسابيع قليلة من إصدار أحكام عسكرية مشددة بحق هؤلاء المعتقلين، يكشف عن مستوى الارتباك السياسي الذي يعيشه النظام المصري في التعامل مع هذه القضية الشائكة.
مصادر قبلية كشفت بأن العفو شمل عشرات المعتقلين الذين كانت محاكمتهم بمثابة فصل مظلم في تاريخ السلطات العسكرية في سيناء، ليتم إلغاء الأحكام العسكرية التي صدرت ضدهم في 14 ديسمبر 2023. لكن السؤال الحقيقي: هل هو فعلاً قرار حقيقي لإصلاح الأوضاع أم مجرد تكتيك سياسي مكشوف؟
54 معتقلاً يعيدون طرح أسئلة حرجة حول سيناء
العفو شمل 54 معتقلاً من أبناء قبائل سيناء الذين تم اعتقالهم في السجون العسكرية بعد تظاهرات ضخمة في أكتوبر 2023 للمطالبة بحقهم في العودة إلى مدينة رفح.
هذه التظاهرات، التي كانت تدور حول معارضة خطط إسرائيلية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، نبهت العالم إلى حقيقة ما يحدث على الأرض في هذه المنطقة الملتهبة.
من بين المعتقلين الذين شملهم العفو كان الشيخ صابر حماد الصياح، أحد أبرز رموز قبيلة الرميلات، والذي تم الحكم عليه بالسجن 7 سنوات، بالإضافة إلى نجليه عبد الرحمن ويوسف.
السجون العسكرية كانت قد ابتلعت هؤلاء الذين طالبوا فقط بحق العودة إلى أراضيهم، بينما كانت الدولة تفرض أحكاماً قاسية لردع أي معارضة.
الصحفيون في عين العاصفة: سجنٌ غيابي وانتقام مكشوف
المفاجأة الأكبر كانت شمل العفو لصحفيين بارزين، هما حسين القيم الصحفي في جريدة “الوطن”، وعبد القادر مبارك، عضو نقابة الصحفيين، اللذين تم الحكم عليهما غيابياً بالسجن لمدة 10 سنوات.
هذه الأحكام لم تكن مجرد عقوبات قضائية، بل كانت بمثابة رسالة انتقامية واضحة من النظام لكل من يفكر في كشف الحقائق أو تعرية ممارسات السلطة العسكرية في المنطقة.
إذ كيف يمكن أن تصدر أحكام بالسجن لمجرد قيام صحافيين بدورهم المهني في نقل الوقائع؟ القرار الرئاسي بخصوص العفو عن الصحافيين يظهر أن الدولة تعمل وفق أجندة قمعية لا تفرق بين مواطن عادي أو إعلامي بارز، في إطار محاولات واضحة لتكميم الأفواه ومنع أي تسليط للضوء على ما يحدث في سيناء.
المصادقة العسكرية: انقلاب مستتر على العدالة
بعد أربعة أيام من صدور الأحكام العسكرية، جاء القرار المصيري من اللواء ممدوح جعفر، قائد الجيش الثاني الميداني، بالمصادقة على كل الأحكام من دون تعديل.
هذا التوقيت الغريب يثير الشكوك حول ما إذا كانت المصادقة على هذه الأحكام تمثل إعلاناً رسمياً على استمرار سياسة القمع العسكري ضد أي صوت معارض في سيناء.
اللواء جعفر لا يزال يشغل موقعاً مهماً في التوجيه العسكري، والموافقة على هذه الأحكام في هذا التوقيت الحساس يبرز حجم التحولات السياسية المعقدة التي يواجهها النظام.
فهل المصادقة تعني أن السلطات العسكرية لا تزال تتصرف بتفويض مطلق دون أي محاسبة؟ أم أن هناك ما هو أكبر من ذلك على الأفق السياسي؟
مظاهرات “حق العودة”: قضية شعبية تسلط الضوء على المؤامرات الدولية
تعود أحداث القضية إلى أكتوبر 2023، حينما اجتمع مئات من سكان شمال سيناء، من أبناء قبيلتي الرميلات والسواركة، في تظاهرات حاشدة تطالب بالعودة إلى أراضيهم التي فقدوها بفعل السياسات العسكرية الإسرائيلية.
لكن تظاهراتهم كانت أشد من مجرد احتجاج عابر. كانت دعوة لوقف المشاريع المشبوهة التي تهدف إلى تغيير ديمغرافية المنطقة وإجبار الفلسطينيين على الانتقال إلى سيناء.
هذا الرفض الشعبي لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء كشف عن أزمة عميقة تكتنف الأوضاع في المنطقة، بل وفضح سياسة الدولة المصرية التي تدعم تلك المشاريع تحت مظلة “الأمن القومي”.
المظاهرات في رفح لم تكن مجرد تظاهرات سياسية، بل كانت معركة مفتوحة ضد سياسات تهدف إلى إفقار وتشريد أهالي سيناء لصالح مشاريع قومية مشبوهة.
العفو أم الغطاء السياسي؟
إن العفو الرئاسي عن المعتقلين في هذه القضية قد لا يكون سوى محاولة لتخفيف الضغط على الحكومة في فترة دقيقة من تاريخها.
قد تكون الخطوة بمثابة محاولة للتقليل من حدة التوترات في سيناء وإظهار نوع من المرونة، لكن الحقيقة أن النظام يواجه أزمة كبيرة في المنطقة مع تزايد المعارضة ضد سياساته.
العفو الذي جاء بعد أسابيع قليلة من إصدار الأحكام العسكرية، يثير تساؤلات جدية عن دوافعه الحقيقية. هل هو استجابة لمطالب شعبية؟ أم هو فقط مناورة سياسية تهدف إلى تهدئة الأوضاع في المنطقة؟
محاكمة السلطة: هل ستتوقف؟
بعد إصدار العفو، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: هل سيؤدي هذا القرار إلى تغييرات حقيقية في سياسات النظام تجاه سيناء؟ أم أن العفو مجرد خطوة لتكريس سياسات القمع والتهميش بشكل أكثر دقة؟ إن القضية ليست مجرد مسألة تحرير معتقلين، بل هي قضية حقوق إنسان وسياسات حكومية تسعى لاستمرار التلاعب بالجغرافيا السياسية لصالح أطراف إقليمية ودولية.
ما يحدث في سيناء اليوم لا يعكس فقط احتلالاً عسكرياً محلياً، بل هو جزء من لعبة سياسية عالمية تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفقاً لأجندات خارجية قد تتنافى مع مصالح سكانها الأصليين.
سيناء تُقهر بلا رحمة
سيناء اليوم ليست مجرد رقعة جغرافية تحت سيطرة عسكرية، بل هي ساحة معركة حقيقية، لا تتوقف عن إظهار الصراع بين إرادة الشعب وقرارات السلطة.
العفو الرئاسي قد يكون مؤشراً على تراجع أو تغييرات في التوجهات السياسية، لكن الواقع المرير في سيناء يعكس مداً وجزراً من السياسة العسكرية التي لا تقيم اعتباراً لا للإنسان ولا للحقوق.