منذ بداية حكم الملك فاروق الأول في مصر، مر الاقتصاد المصري بتحولات مذهلة كان للدولار الأمريكي فيها دور رئيسي كمرآة تعكس حال الدولة.
رحلة غير مسبوقة من الاستقرار إلى الانهيار المستمر لم تشهدها دولة أخرى في المنطقة. لا يتعلق الأمر بزيادة طفيفة في سعر الصرف بل بكارثة اقتصادية متلاحقة لا يمكن وصفها سوى بالفشل المدوي الذي يعصف بمستقبل مصر واقتصادها.
في بداية حكم الملك فاروق الأول، كانت قيمة الجنيه المصري في أفضل حالاتها. كان الدولار يساوي 20 قرشًا فقط، وهو ما يعكس استقرارًا نسبيًا في الاقتصاد المصري. كان ذلك في فترة لم تكن مصر قد عانت بعد من تحديات كبيرة على الصعيد الاقتصادي.
مع سياسات الملك فاروق، كان الاقتصاد المصري يواجه أوقاتًا من الازدهار النسبي، إلا أن الرياح لم تجرِ بما تشتهي السفن. في ظل الحرب العالمية الثانية والتقلبات الاقتصادية العالمية، بدأ الجنيه المصري في الهبوط التدريجي أمام العملات الأخرى.
انتقلت مصر إلى مرحلة جديدة مع قدوم جمال عبد الناصر في عام 1952، والذي تبنى سياسة اشتراكية كانت تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الوطني، لكن هذا لم يكن كافيًا للحفاظ على استقرار الجنيه المصري. في عهد ناصر، ارتفع سعر الدولار بشكل ملحوظ ليصل إلى 43 قرشًا.
كان ذلك بمثابة تنبيه واضح إلى صعوبة التعامل مع النظام الاقتصادي الذي كان يعتمد في كثير من جوانبه على المساعدات الخارجية والاستيراد. أزمة الدولار في عهد عبد الناصر كانت بداية لظهور مشاكل حقيقية في التوازن الاقتصادي، والتي استمرت طوال السنوات التالية.
ثم جاء محمد أنور السادات ليجد نفسه في مواجهة اقتصادية معقدة. رغم الانفتاح الاقتصادي الذي بدأه السادات في السبعينات، إلا أن الدولار استمر في الارتفاع بشكل كبير.
في عهده وصل الدولار إلى 70 قرشًا، ليكون مؤشرًا على بداية انهيار النظام الاقتصادي الذي كان يعتمد بشكل كبير على الاستدانة. السادات، رغم محاولاته لجذب الاستثمارات الغربية، إلا أنه عجز عن الحد من تأثيرات الأزمة المالية العالمية التي ألقت بظلالها على الاقتصاد المصري بشكل مباشر.
ثم جاء محمد حسني مبارك ليحكم البلاد لعقود من الزمن في مرحلة عصيبة تخللتها العديد من التحديات. واصلت مصر في تلك الفترة تطبيق سياسات اقتصادية عشوائية في كثير من الأحيان.
الدولار في عهد مبارك ارتفع بشكل غير مسبوق ليصل إلى 5 جنيهات. كان ذلك بمثابة صدمة كبيرة للشعب المصري الذي عانى من فترات طويلة من التضخم وارتفاع الأسعار.
سياسة مبارك الاقتصادية كانت في كثير من الأحيان مدفوعة بالحفاظ على مصالح فئة معينة، مما جعل الاقتصاد المصري يتجه إلى المزيد من الفقر والتدهور.
في هذه الفترة، كان الدولار يُعتبر عاملًا رئيسيًا في تحديد مصير الجنيه المصري، وكان كل ارتفاع في قيمته يعني المزيد من الفقر والعوز للشعب المصري.
عقب الثورة المصرية عام 2011، تم انتخاب محمد مرسي رئيسًا للجمهورية في مرحلة جديدة من التحولات السياسية. لكن الاقتصاد المصري لم ينجح في النهوض من كبوته، واستمر الدولار في الهجوم على الجنيه المصري.
في عهد مرسي، وصل الدولار إلى 6.5 جنيهات، مما شكل ضغوطًا هائلة على الاقتصاد المصري المنهار. مرسي، الذي كان يواجه تحديات داخلية وخارجية، لم يتمكن من اتخاذ إجراءات اقتصادية فعالة للحد من تفاقم الأزمة المالية التي كانت تضرب البلاد.
ارتفاع الدولار في عهده لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان نتاجًا طبيعيًا لسياسات اقتصادية قصيرة النظر، وهو ما أدى إلى زيادة مستويات البطالة والفقر.
ثم جاء عبدالفتاح السيسي ليخلف مرسي في رئاسة مصر وسط تحديات اقتصادية خانقة. منذ توليه الحكم، واصل السيسي سياسة الاقتراض من الخارج، وكان لذلك تأثير كارثي على قيمة الجنيه المصري.
اليوم، تجاوز الدولار حاجز الـ51 جنيها في حقبة حكم السيسي، ليصبح هذا الرقم بمثابة الصدمة الكبرى التي لا يستطيع الكثيرون فهمها.
في هذه المرحلة، ارتفعت الأسعار بشكل جنوني وانهارت الطبقات المتوسطة والفقيرة أمام انهيار الجنيه. موازنة الدولة غارقة في الديون، والشعب يعاني من ضغوط اقتصادية غير مسبوقة.
هذه الزيادة غير المسبوقة في قيمة الدولار تعكس حال مصر في وقت يواجه فيه اقتصادها أسوأ مرحلة منذ بداية القرن العشرين.
هل ما زال هناك أمل لإنقاذ الجنيه المصري؟ هذا سؤال صعب الإجابة عليه في ظل السياسات الاقتصادية المتخبطة التي تتبعها الحكومات المتعاقبة.
الأرقام تتحدث عن نفسها: من 20 قرشًا في عهد الملك فاروق إلى 51 جنيهًا في عهد السيسي، رحلة غير مسبوقة من الانهيار التي ستظل علامة فارقة في تاريخ مصر الاقتصادي.