مقالات ورأى

ياسين اكتاي يكتب: الأجواء التركية في سوريا الحرة

من حلب إلى دمشق، يمر المسافر على الطريق بمحاذاة العديد من المركبات العسكرية والمدنية المتوقفة على جانبيه، والتي يبدو أنها تعرضت لقصف جوي. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الأضرار ليست مما يصعب إصلاحه.

أثناء القيادة بسرعة على الطريق، يتعين على السائق الحذر من الحفر التي خلفتها الصواريخ. الأهم من ذلك كله هو الشعور الجديد بالحرية الذي أصبح ملموساً في هذه المناطق، وكأن قيوداً قد أُزيلت، مما أتاح تنفس أجواء التحرر في فترة زمنية قصيرة.

ويمتد على طول الطريق مشهد خلاب يتمثل في أراضٍ زراعية منظمة بعناية، تزخر بأشجار الزيتون والفستق والفاكهة، مما يلفت الأنظار بجمالها وخصوبتها.

في مدينتي حلب ودمشق، من المعتاد جداً أن تصادف أشخاصاً يتحدثون اللغة التركية في الشوارع، أو داخل المطاعم، أو في المساجد. هذا الانتشار الواسع للغة التركية يبدو طبيعياً نظراً لوجود نحو ستة ملايين سوري مروا بتركيا خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية. غير أن ملاحظة هذا الواقع والعيش في ظله تجربة مختلفة تماماً. يشعر الزائر وكأنه في إحدى مدن جنوب شرق تركيا. وبالرغم من أن اللغة الكردية أو العربية هي اللغة الأم للكثيرين، إلا أن العديد منهم يجيد اللغة التركية أيضاً. هذا التنوع أصبح جزءاً طبيعياً من الحياة الثقافية اليومية في سوريا.

العودة إلى الوطن، ولكن بوجوه جديدة خلال التجول في الشوارع، قد تصادف العديد من السوريين الذين سبق أن التقينا بهم أو تحدثنا معهم في إسطنبول أو أنقرة أو غازي عنتاب. معظم هؤلاء عادوا إلى سوريا في الأيام القليلة الماضية، بينما كان البعض الآخر قد استقر بالفعل في المناطق الآمنة التي أنشأتها تركيا. الآن، يعودون إلى منازلهم التي هجروها قبل 13 عاماً، لكنهم لا يعودون كما كانوا سابقاً، بل بأشخاص مختلفين، بخبرات وتجارب مختلفة.

فقد سلبتهم سنوات الغربة الطويلة الكثير، لكنها أيضاً أضافت لهم الكثير. لقد اكتسبوا آفاقاً جديدة، رؤى أوسع، شخصيات أكثر نضجاً، وحتى لغات جديدة. ومع ذلك، يعيشون فرحة العودة إلى الوطن بحماسة وسعادة لا تخطئها العين. رؤية هذه السعادة عن قرب تجعل زيارة هذه المناطق في هذا الوقت تجربة تستحق العناء.

هؤلاء الأشخاص يجلبون معهم العلاقات التي بنوها خلال سنوات لجوئهم، سواء في تركيا أو في دول أخرى، وهو أمر حتمي. ومن الطبيعي أن تكون العلاقات المستمدة من تركيا هي الأكثر بروزاً وتأثيراً. وهذا الواقع يلقي الضوء على الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في إعادة إعمار سوريا مستقبلاً.

منذ فترة وجيزة، أصبحت الليرة التركية العملة الأكثر تداولاً في مكاتب الصرافة بحلب ودمشق، خاصة منذ الأيام الأولى للتحرير. واليوم، بات بالإمكان إجراء المعاملات التجارية بسهولة باستخدام الليرة التركية. أما التوسع المستمر في نطاق تداول الليرة التركية ليشمل كامل الأراضي السورية وتأثير ذلك على الاقتصاد التركي، فهو أمر يُترك للخبراء لتحليله ودراسته.

تجربة الهجرة.. أداة لبناء حضارة جديدة

من يطّلع على صفحات التاريخ يدرك أن تجربة العودة إلى الوطن التي يعيشها هؤلاء الأفراد اليوم تمثل فرصة فريدة لبناء وطن جديد، ومجتمع متجدد، بل وحتى حضارة ناشئة. لقد لعبت تجارب الهجرة المؤلمة عبر التاريخ دوراً بارزاً ومحورياً في تشكيل حضارات جديدة وازدهارها.

الهجرة، كما وردت في القرآن الكريم، توصف بأنها رحلة مثمرة مليئة بالبركة والعطاء، وهي رؤية تؤيدها جميع معطيات علم الاجتماع التاريخي. وفي هذا السياق، يتضح لنا جلياً أن ما ركّز عليه ابن خلدون في تحليلاته العميقة ينسجم تماماً مع هذا البعد. اليوم، يمكننا القول إننا في الحالة السورية نشهد على ولادة حضارة جديدة تنبثق من رحم المعاناة والتجربة.

الذين لم يقفوا على الجانب الصحيح من التاريخ

سيظل دور تركيا في بناء هذه الحضارة محط تقدير من الجميع، في كل زمان ومكان. خلال السنوات الطويلة من الأزمة السورية، ومع كل موجة من المد والجزر، كان السوريون يُجبرون على الفرار من وطنهم على دفعات متتالية. الأطراف التي تدخلت في هذا المشهد شملت النظام السوري وإيران وروسيا والولايات المتحدة، وجميع هذه التدخلات كبدت الشعب السوري خسائر فادحة وأثماناً باهظة على مختلف الأصعدة.

لكن التدخل التركي كان مختلفاً تماماً. فقد استقبل الشعب السوري هذا التدخل بالفرح والاحتفالات، في منازلهم ومدنهم وساحاتهم، بينما بدأ اللاجئون بالخارج بالتفكير جدياً في العودة إلى ديارهم. والأهم أنه في ظل هذا الوضع الجديد، لم يُجبر أحد على مغادرة منزله أو مدينته. هذا الواقع وحده يكفي ليُظهر من الذي اختار أن يقف في صف التاريخ الصحيح.

أما إيران، التي وقفت إلى جانب النظام الإجرامي في سوريا لعقود تحت شعارات “الثورة الإسلامية” ومقاومة الصهيونية، فما الذي قدمته للشعب السوري؟ في أول فرصة، لم يتردد النظام السوري بقيادة الأسد في بيع مصالح إيران وحزب الله بثمن بخس لصالح إسرائيل، محققاً مكاسب شخصية على حساب حلفائه. وفي النهاية، ماذا جنت إيران سوى دفن كل ادعاءاتها المرتبطة بـ”الثورة الإسلامية” في أتون الأزمة السورية؟

المقابر الجماعية التي كُشفت في صيدنايا وغيرها من المواقع التي لا تُحصى، والمجازر الوحشية وأعمال التعذيب التي طالت السوريين، هل تُسجل فقط باسم الأسد؟ أم أن كل من دعم هذا النظام يتحمل نصيباً من المسؤولية عن هذه الجرائم ضد الإنسانية؟

جدران برج ساحة المرجة .. شاهد على المأساة السورية

تحولت جدران برج ساحة المرجة إلى لوحة مفعمة بالحزن، امتلأت بالملصقات التي علقها أشخاص يبحثون عن أحبائهم الذين فقدوا خلال حكم الأسد. تغطي الصور والملصقات جدران البرج الأربعة حتى مستوى ارتفاع الإنسان، وكل هذه الصور تم تعليقها في غضون أسبوع واحد فقط. في الماضي، كان الخوف يسيطر على الناس، فلم يكن لديهم حتى الجرأة للسؤال عن أحبائهم المفقودين.

هذا المشهد وحده يكفي ليروي فصولاً من المعاناة التي عاشها السوريون خلال العقود الـ61 الماضية. وهو رسالة بليغة تكشف حجم المأساة التي تسبب بها النظام. ولا شك أن من دعم الأسد طوال هذه الفترة مطالب باستخلاص العبر من هذه المآسي.

أما الأطراف التي اصطفت مع الأسد في هذه الجرائم، مثل إيران وروسيا والولايات المتحدة وحلفائهم، فلن تستطيع أبداً التملص من مسؤوليتها أو الهروب من تهمة التواطؤ في هذه الفظائع.

جدران برج ساحة المرجة: شاهد على المأساة السورية

تحولت جدران برج ساحة المرجة إلى لوحة مفعمة بالحزن، امتلأت بالملصقات التي علقها أشخاص يبحثون عن أحبائهم الذين فقدوا خلال حكم الأسد. تغطي الصور والملصقات جدران البرج الأربعة حتى مستوى ارتفاع الإنسان، وكل هذه الصور تم تعليقها في غضون أسبوع واحد فقط. في الماضي، كان الخوف يسيطر على الناس، فلم يكن لديهم حتى الجرأة للسؤال عن أحبائهم المفقودين.

هذا المشهد وحده يكفي ليروي فصولاً من المعاناة التي عاشها السوريون خلال العقود الـ61 الماضية. وهو رسالة بليغة تكشف حجم المأساة التي تسبب بها النظام. ولا شك أن من دعم الأسد طوال هذه الفترة مطالب باستخلاص العبر من هذه المآسي.

أما الأطراف التي اصطفت مع الأسد في هذه الجرائم، مثل إيران وروسيا والولايات المتحدة وحلفائهم، فلن تستطيع أبداً التملص من مسؤوليتها أو الهروب من تهمة التواطؤ في هذه الفظائع.

الجامع الأموي الآن يعكس تمامًا حالته

كل زيارة إلى الجامع الأموي تحمل في طياتها مشهداً يروي حكاية استثنائية. هذا الجامع يُجسد اسمه بمعناه الحقيقي؛ فهو “جامع” بمعنى المكان الذي يوحد الناس ويجمعهم، وقد أصبح اليوم رمزاً للاحتفال والانتصار. خلال الصلوات الخمس، يمتلئ الجامع بالمصلين في مشهد مهيب. سألت أحد الطلاب السوريين، الذي أعرفه من تركيا والتقيت به هنا، عما إذا كان هذا الحضور الكبير مجرد ظاهرة مؤقتة، فأجاب بأن هذا الازدحام، رغم استثنائيته في هذه الأيام، يعكس فرحة غامرة ودلالة رمزية عميقة.

لسنوات طويلة، كان الجامع الأموي مغلقاً أمام أهل السنة، باستثناء صلاة الجمعة، مما أفقده أي طابع حماسي أو روحاني للزيارة أو العبادة. في المقابل، كان فناء الجامع يُستخدم كمنصة لتنظيم الفعاليات الشيعية بدعم كامل من إيران، دون أي قيود، واعتُبر ذلك “انتصاراً دينياً” في سياق عدائهم التاريخي للأمويين. أما اليوم، فإن هذا الإقبال الكبير يعكس فرحة السوريين بتحررهم من ظلام النظام، وتعبيراً عن شكرهم لله على هذا الخلاص.

داخل الجامع، من الشائع أن تلتقي بسوريين عرفتهم سابقاً كلاجئين في تركيا. عادوا بسرعة إلى وطنهم، وكانت وجهتهم الأولى هي الجامع الأموي. حتى الأشخاص الذين لم أكن أعرفهم شخصياً، لكنهم تعرفوا عليّ من مقالاتي المنشورة في “يني شفق العربية” أو “الجزيرة نت”، جاؤوا ليعبروا عن سعادتهم بهذا النصر العظيم. التقينا، وتبادلنا التهاني، والتقطنا الصور معاً في لحظة توثق فرحة هذا الفتح الكبير.

تأويل الصور الفوتوغرافية

يقوم البعض بنشر الصور التي تم التقاطها معهم، وهو ما يستدعي تقديم توضيح حول هذه الظاهرة. كونك سياسياً أو شخصية معروفة يفرض عليك التعاطي مع ثقافة جديدة مرتبطة بالصور الفوتوغرافية وآدابها. تلبية طلب التقاط صورة مع الآخرين تُعد من أبسط أشكال المجاملة، وربما أكثرها سهولة وأقلها تكلفة. في المقابل، رفض هذا الطلب يُعتبر في كثير من الأحيان نوعاً من البخل أو حتى قلة الذوق. ومع ذلك، يبقى هذا الأمر محل نقاش من حيث الأسلوب والإمكانات والطرق المتاحة. لكن من المؤكد أن السياسيين قد يجدون أنفسهم أحياناً في مواقف محرجة بسبب الأشخاص الذين يظهرون معهم في الصور.

على سبيل المثال، أثارت صورة لي مع أحمد الشرع، كان بجانبنا فيها شخص مصري، جدلاً كبيراً في الإعلام المصري، حيث أحدثت حساسية شديدة. تم تفسير الصورة على أنها تعكس نية لدى المعارضين المصريين لاستخدام الثورة السورية كنموذج لإشعال ثورة في مصر. بصراحة، هذه التفسيرات وما تلاها من تغطيات إعلامية كانت مفاجئة للغاية بالنسبة لي. الصورة تم التقاطها بطريقة عفوية تماماً، ونُشرت دون علمي أو موافقتي.

في الحقيقة، خلال مقابلتي مع أحمد الشرع في مقابلة أجراها مع صحيفة “يني شفق”، شدد الشرع على أن العلاقات بين سوريا والدول الأخرى ستُبنى على أسس سلمية بالكامل، قائمة على الحوار والتعاون. وقد نقلت هذا الموقف بوضوح في المقابلة، ولم يكن هناك ما يشير إلى ما تم تأويله لاحقاً.

تصريح ذو أهمية بالغة

هذه الإجابة تحمل أهمية كبيرة لعدة أسباب: فقد أظهرت أن تجربته السابقة في النضال، منذ انتقاله من جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام، كانت تركز بالكامل على سوريا. أي أنه وجه جهوده نحو تحرير بلاده من نظام ظالم وغير إنساني، مبتعداً عن أي ارتباط بصراعات دول أخرى. هذا الموقف كان بمثابة إعلان واضح لانحصار اهتمامه في القضية السورية فقط، مما أضفى على خياراته مشروعية كاملة وأسساً قوية.

اليوم، ومع اقتراب تحقيق الأهداف داخل سوريا، يؤكد بنفسه أنه لن ينخرط في الشؤون الداخلية لدول أخرى بينما تواجه بلاده العديد من التحديات الداخلية. وهذا الموقف يشمل بطبيعة الحال مصر.

في ظل أجواء التقارب والحوار الحالي بين تركيا ومصر، يبدو من غير الواقعي أن يسلك مساراً سياسياً مختلفاً. فتركيا تعد الداعم الأكبر لإعادة إعمار سوريا، وهو نفسه يدرك أنه لا يمكن الاستغناء عن دعم أي دولة، بما في ذلك مصر والسعودية.

من خلال ما لاحظناه وتحدثنا عنه معه، يتضح أن الشعب السوري، الذي أرهقته الحرب لسنوات، لن يُجرّ إلى مغامرات جديدة. وقد عبّر أحمد الشرع عن هذا التوجه بشكل واضح في مقابلتنا معه، قائلاً:

“ليس لدينا نية للانخراط في قضايا تتجاوز إمكانياتنا أو تعيقنا عن الوفاء بمسؤولياتنا تجاه شعبنا. نحن ملتزمون ببناء علاقات مع جميع الدول بما يخدم مصلحة وطننا، ونسعى إلى تطوير هذه العلاقات لتحقيق الخير لسوريا.”

المصدر: “يني شفق

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى