شهدت شركة كهرباء توزيع الدلتا، واحدة من شركات الكهرباء الرئيسية في مصر، سلسلة متواصلة من وقائع الفساد والإهمال المالي، تجاوزت كل حدود المنطق، ولم تكن محاولات طمس الحقائق سوى خطوة جديدة في مشهد فساد واسع.
القصة بدأت مع مرور رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات بالشركة، حيث اكتشفت لجان المراجعة وجود كميات ضخمة من المهمات والمعدات غير المسجلة أو غير المستخدمة، وسط تقاعس كامل من المسؤولين.
يكشف موقع “أخبار الغد” حقائق دامغة ووقائع مذهلة تتعلق بممارسات فساد مُمنهجة داخل الشركة، في ظل تواطؤ وفساد من قيادات عليا بالشركة القابضة لكهرباء مصر ووزارة الكهرباء.
أولى الصدمات التي ظهرت بعد مرور رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هي وجود عجز هائل في مخازن الشركة، خاصة في ثلاث محافظات تتبع كهرباء الدلتا.
وصلت قيمة العجز في المهمات إلى أكثر من 15 مليون جنيه، وكان من بين المعدات المفقودة أو التي تم التلاعب بها محولات وكابلات جهد متوسط وكابلات جهد منخفض بمختلف المقاطع، بالإضافة إلى مواصلات هوائية، لوحات ربط حلقي، أكشاك محولات، ولوحات جهد منخفض.
هذه المهمات، التي تجاوزت قيمتها 15 مليون جنيه، إما لم تكن موجودة على الإطلاق أو تم صرفها دون أوامر تنفيذية ودون الحاجة إليها.
الأدهى أن هذه المعدات لم تُستخدم في المواقع التي كانت بحاجة ماسة لها، وتم صرفها فقط بتوقيع كبار مسؤولي الشركة وقياداتها في ذلك الوقت، مما يثير التساؤلات حول مدى التواطؤ في عمليات نهب المال العام وإهداره بهذه الطريقة الممنهجة.
الأمر لم يتوقف عند حد اكتشاف هذه الوقائع، فبعد التحقيقات التي أجريت واستدعاء كافة الأطراف المتورطة، كانت المفاجأة الكبرى هي تعليمات رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر المهندس جابر دسوقي.
ففي اجتماع عقد بمكتبه بحضور مستشاره القانوني المسؤول عن ملفات الفساد، وبمشاركة الأعضاء المتفرغين الدكتور خالد الدستاوي والسيدة نادية عبدالعزيز قطري، تم وضع خطة محكمة لإغلاق هذا الملف بأقل الخسائر الممكنة.
هدفهم الرئيسي لم يكن محاسبة الفاسدين بل البحث عن مخرج آمن يغلق هذا الملف المحرج دون أن يمس كبار المسؤولين المتورطين، وهكذا قدموا بعض صغار الموظفين ككبش فداء لتحميلهم المسؤولية.
تم خصم جزء من رواتب بعض الموظفين الصغار الذين تم تحميلهم وزر هذه الوقائع، وتعهد المسؤولون برفع العقوبات عنهم في لجنة التظلمات بشركة كهرباء توزيع الدلتا.
وبالفعل، بعد مرور بضعة أشهر، تم رفع الجزاءات عنهم دون أي مساءلة حقيقية لكبار المسؤولين الذين لا يزالون يحتفظون بمواقعهم القيادية.
المصير الغامض للمهمات التي بلغت قيمتها 15 مليون جنيه لم يكن مجرد لغز، بل تم التلاعب في البيانات والسجلات لتقليل العجز إلى 9 ملايين جنيه فقط عبر مجموعة من الخطوات المخادعة التي تفضح مستوى الفساد الإداري والمالي.
واحدة من أبرز هذه الحيل التي اقترحها رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة لكهرباء مصر ونائبيه ومستشاريه كانت تسجيل أوامر تنفيذية بتواريخ قديمة تعود إلى ما قبل صرف المهمات، وتدوين شهادات تركيب مزيفة لتلك المهمات التي تم بيعها بالفعل لتجار الخردة ومصانع الألومنيوم.
الهدف من هذه الحيلة هو “تستيف” الأوراق، في حال تم فتح تحقيق من جهات رقابية أخرى، وبالتالي تقليل العجز المسجل.
من خلال هذه الحيلة، تم توزيع 70 متر كابل على كل عطل تم حصره منذ عام 2015 حتى 2024، واستُدعيت مهندسو وفنيو الهندسات للتوقيع على هذه الوثائق بتواريخ قديمة.
بل تم تزوير توقيعات رؤساء الهندسات السابقين لتقليل أطوال الكابلات التي بها عجز وتقليص قيمة العجز المسجل في المستندات الرسمية إلى 9 ملايين جنيه بدلاً من 15 مليون جنيه.
وبالطبع، تم إصدار قرارات جزاءات سريعة بحق بعض الموظفين ليكون الرد جاهزا في حالة التحقيق من خارج الشركة القابضة.
القرارات التي اتخذتها الشركة كانت صارمة فقط بحق عدد قليل من الموظفين الذين تم تقديمهم ككبش فداء، في حين كانت متساهلة للغاية تجاه المسؤولين الحقيقيين الذين تمتعوا بحصانة غير مفهومة.
على سبيل المثال، تم توقيع جزاء 3 أيام فقط بحق بعض المسؤولين الكبار بدعوى أنها المرة الأولى لهم في ارتكاب فساد، رغم أن الأدلة والشهادات تؤكد أن هذه ليست المرة الأولى.
هذه المجاملات الصارخة والممارسات الفاسدة انتهت بأن تم رفع الجزاءات عن هؤلاء المسؤولين خلال الشهرين الماضيين، وتمت ترقيتهم إلى مناصب عليا داخل الشركة وكأن شيئا لم يكن.
أما المهندس الجديد الذي تم تحميله مسؤولية الجرد والإشراف على المهمات، فقد تم توقيع جزاء حجب علاوة ونصف علاوة عليه، رغم أنه لا يمتلك الخبرة الكافية لتحمل هذه المسؤولية.
هذا القرار يثير الكثير من علامات الاستفهام حول الهدف من تحميله هذه المسؤولية، وهل كان القصد هو توريطه لتغطية فساد المسؤولين الكبار؟ كثيرون من داخل الشركة يعتبرون هذه الإجراءات مجرد ستار لتغطية الفساد الحقيقي الذي يتورط فيه قيادات الشركة القابضة لكهرباء مصر.
السؤال الذي يطرحه العاملون في شركة كهرباء الدلتا هو: أين دور وزير الكهرباء والطاقة المتجددة في هذه القضية؟ وكيف تلتزم الحكومة الصمت إزاء هذا الهدر المالي الصارخ والفساد المستشري؟ الحكومة وأجهزتها الرقابية تبدو غائبة تماما عن المشهد، وكأن هناك تواطؤا واضحا يهدف إلى حماية المتورطين في هذه الجرائم.
الأمر بات يتطلب وقفة جادة، ليس فقط من العاملين بالشركة، بل من كل الجهات المعنية بمحاربة الفساد في مصر. لا يمكن التغاضي عن هذه الكوارث المالية التي ترتكب يوميا في قطاع الكهرباء، والتي تؤثر مباشرة على حياة ملايين المصريين الذين يدفعون الثمن من أموالهم ومن خدمات الكهرباء المتردية التي يحصلون عليها.
وبالنظر إلى سجل الفساد الطويل في الشركة القابضة لكهرباء مصر، ليس من المستغرب أن يستمر هذا الوضع في ظل قيادات متورطة في تضارب المصالح بشكل صارخ.
على رأس هؤلاء المهندس جابر دسوقي، الذي لا يكتفي برئاسة الشركة القابضة لكهرباء مصر، بل يجمع أيضا بين عدة مناصب منها رئيس مجلس إدارة شركة بجيسكو، استشاري وزارة الكهرباء، وعضو مجلس إدارة في عدة شركات استثمارية تعمل في مجال الكهرباء.
هذه المناصب المتضاربة لا تحقق أي فائدة للدولة، بل تجعل من جابر دسوقي مستفيداً من رواتب متعددة بينما تغرق المؤسسات التي يديرها في الفشل والفساد.
كيف يمكن لشخص أن يدير أكثر من كيان في وقت واحد وينجح في تحقيق أي إنجاز؟ هذه الحقيقة تجيب عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالأداء السيئ للشركة القابضة لكهرباء مصر، التي تعاني من مشاكل مزمنة بسبب سوء الإدارة وتضارب المصالح. عندما يجمع شخص واحد بين عدة وظائف، من الطبيعي أن يكون الفشل هو النتيجة الحتمية.
إن ما يحدث في شركة كهرباء الدلتا والشركة القابضة لكهرباء مصر هو صورة مصغرة لما يحدث في القطاع الحكومي بشكل عام. الفساد هنا ليس مجرد تجاوزات فردية، بل هو فساد ممنهج ومدعوم من أعلى القيادات في الدولة، بما في ذلك وزارة الكهرباء والحكومة المصرية.
الشعب المصري يدفع الثمن من خلال تدهور مستوى الخدمات، وارتفاع فواتير الكهرباء، في حين يستمر الفاسدون في الاستفادة من النظام الذي يحميهم.
الوقت حان لتحرك جاد من الأجهزة الرقابية، لوضع حد لهذا الفساد وإعادة أموال الشعب المهدرة، وإنقاذ قطاع الكهرباء من قبضة الفاسدين الذين استباحوا موارد الدولة لصالحهم.