تفويضات تبون لشنقريحة: انقلاب ناعم يعزز سيطرة الجيش على الدولة الجزائرية
منح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تفويضات وصلاحيات غير مسبوقة لرئيس أركان الجيش السعيد شنقريحة في خطوة لا يمكن وصفها إلا بالخطيرة والمثيرة للريبة، مما يعمق الشكوك حول مستقبل الدولة الجزائرية ويفتح الباب على مصراعيه أمام هيمنة عسكرية واضحة تحت غطاء شرعي.
هذه الخطوة التي لم تشهد البلاد مثلها منذ عقود، تجعل شنقريحة المتحكم الفعلي في وزارة الدفاع، مؤسسة يعتبرها كثيرون مفتاح السلطة الحقيقية في البلاد.
شنقريحة الذي لم يخف يوماً ولاءه المطلق للرئيس تبون، كان من أبرز الداعمين له خلال حملته الانتخابية للولاية الثانية، حيث لم يتردد في استغلال منصبه العسكري للترويج لما أسماه “مشروع الجزائر الجديدة”، وهي عبارة توحي بتكريس السلطة أكثر في يد الجيش. والآن، ومع صدور هذا المرسوم الرئاسي المثير للجدل، بات شنقريحة يتمتع بصلاحيات تمثل انتهاكًا صارخًا لمفهوم الدولة المدنية التي يطالب بها الحراك الشعبي منذ سنوات.
رغم أن الدستور الجزائري ينص على أن رئيس الجمهورية هو وزير الدفاع الوطني، إلا أن تبون، تحت غطاء الهيكلة الجديدة، تنازل عن جل صلاحياته في إدارة الوزارة إلى شنقريحة، الذي أصبح يملك حرية اتخاذ القرارات دون الحاجة إلى العودة للرئيس. هذه التفويضات تجعل من شنقريحة اللاعب الأهم في الساحة السياسية الجزائرية، بيديه جميع خيوط السلطة الحقيقية، مما يثير تساؤلات كبيرة حول مدى سيطرة تبون نفسه على مقاليد الحكم.
المرسوم الرئاسي الذي وقعه تبون يحدد صلاحيات “الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني” وهو المنصب الذي يشغله شنقريحة، إلا أن هذه الصيغة الملتوية لا تخفي حقيقة أن شنقريحة أصبح الحاكم الفعلي لوزارة الدفاع، ويتحكم بشكل مباشر في كافة الملفات الحساسة والمتعلقة بالأمن الوطني، متجاوزاً بذلك أي إشراف مدني حقيقي. صلاحيات واسعة تشمل الإمضاء على جميع الوثائق والقرارات وحتى إدارة العلاقات الخارجية والتعاون العسكري، مما يجعله القوة المحورية في الجزائر.
هذه التحركات لا تأتي بمعزل عن سياق سياسي مشحون، إذ تعزز من قوة الجيش في وقت تتزايد فيه مطالب الشارع الجزائري بإبعاد الجيش عن السياسة وتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي. لكن يبدو أن هذا المرسوم يعكس توجهاً معاكساً تماماً، حيث يعيد الجيش إلى قلب السياسة ويعزز من نفوذه في إدارة الدولة بشكل لا يمكن تجاهله.
شنقريحة، وفقاً للمرسوم، يتولى إدارة الملفات المالية والاقتصادية لوزارة الدفاع، ويشرف على الميزانية ويحدد الأولويات الاستثمارية، مما يعزز من سيطرة الجيش على الاقتصاد الوطني. كما يشرف على كافة المراسلات المتعلقة بالقضايا الإدارية والنظامية في الوزارة، ويتولى الإشراف على التنسيق مع مؤسسات الدولة الأخرى، مما يرسخ موقعه كلاعب رئيسي في النظام السياسي، بل وفي الحياة العامة للدولة. بعبارة أخرى، أصبح شنقريحة رجل الدولة الأقوى في الجزائر.
هذه الصلاحيات لا تقف عند هذا الحد. فالمرسوم يمنح شنقريحة السلطة الكاملة في إدارة الموارد البشرية داخل الجيش، مما يعني أنه يمتلك مفاتيح التعيينات والترقيات والتنقلات داخل المؤسسة العسكرية. إنه يدير الجيش كما لو كان ملكية خاصة، يحدد سياساته ويرسم ملامح مستقبله دون أي تدخل حقيقي من السلطة المدنية. وفي هذا الإطار، ليس من المستغرب أن يتولى أيضا الإشراف على السياسات المتعلقة بالتكنولوجيا العسكرية والتسليح، ما يعني أن الجيش الجزائري بات يتحكم في مجمل قطاعات الدولة الاستراتيجية دون أي رقابة مدنية.
وربما الأكثر خطورة هو أن شنقريحة، وبفضل هذه الصلاحيات المطلقة، أصبح يمسك بزمام القرارات المتعلقة بالأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، والتعاون الدولي في هذا المجال. هذا النوع من السلطة يفتح الباب أمام تدخلات عسكرية أوسع وربما يجعل الجزائر أكثر انخراطا في صراعات إقليمية أو دولية دون استشارة أو موافقة من أي جهة مدنية.
التحليل الأكثر إثارة للقلق هو أن هذه الخطوة تمثل استمرارا لتحالف وثيق بين تبون وشنقريحة، وهو تحالف قائم على تبادل المصالح والسيطرة. خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم يكن شنقريحة مجرد قائد عسكري، بل كان من أبرز المؤيدين العلنيين لإعادة انتخاب تبون، مما يثير الشبهات حول مدى استقلالية القرار الرئاسي ومدى تأثير الجيش في صياغة السياسة العليا للبلاد.
هذا المرسوم الرئاسي يبدو وكأنه إشارة واضحة من الرئيس تبون بأن الجيش سيظل هو اللاعب الرئيسي في الحياة السياسية الجزائرية، وهو ما يعكس استمرارية لنهج قديم تسعى الحركات الشعبية منذ سنوات إلى تغييره. لكن الآن، بات واضحا أن الجيش ليس فقط متغلغلا في السياسة، بل أصبح يديرها بشكل كامل تحت ستار من الشرعية التي منحها له الرئيس.
هذه التطورات تعيدنا إلى السؤال الأهم: هل هذه الخطوة تمثل انقلابا ناعما يعيد الجيش إلى مركز السلطة أم أنها مجرد محاولة لتعزيز الاستقرار في فترة حرجة؟ مهما كانت الإجابة، فإن ما يحدث في الجزائر الآن يمثل تحديًا حقيقيًا لمستقبل الدولة المدنية، ويضع الحراك الشعبي أمام اختبار صعب في مواجهة سلطة عسكرية تتزايد قوتها يوماً بعد يوم.
ويبدو أن الجزائر تقف عند مفترق طرق خطير، حيث يهدد النفوذ العسكري المتزايد بإعادة البلاد إلى فترة السيطرة العسكرية المطلقة، مما قد يؤدي إلى تراجع أي تقدم نحو إقامة دولة مدنية حقيقية.