يقف الشعب المصري حائراً ومكتوف الأيدي، متسائلاً: هل يمكن لمصر أن تصوم ولو يوماً واحداً عن نهب المال العام؟ تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات الأخيرة تلقي الضوء على فساد مذهل في الشركة المصرية للاتصالات، أمام هذا الكم الهائل من الفساد المستشري في مصر
حيث أظهرت إهداراً يفوق الـ 14 مليار جنيه من خلال أراضٍ وأصول غير مستغلة، مخالفات تتجاوز مليار و623 ألف جنيه داخل نادي المصرية للاتصالات، وسرقة 4130 بطارية من مهمات الشركة في محافظتي المنوفية والقليوبية.
ومع كل هذه الفضائح، تقف الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ووزارة قطاع الأعمال العام، عاجزة عن اتخاذ أي إجراء حقيقي.
فساد متجذر .. إهدار بالمليارات وفساد بلا حدود
لا يخفى على أحد أن كبار القيادات الذين كانوا يتباهون بسلطتهم ونهبهم للمال العام، قد صاروا أكثر جرأة في ارتكاب المخالفات، فهم يعبثون بمقدرات الوطن في غياب تام للرقابة الفعلية أو المحاسبة.
فحين تكشف تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن إهدار أكثر من 14 مليار جنيه داخل الشركة المصرية للاتصالات، فهذا يعني أن الفساد ليس حالة استثنائية، بل هو جزء من نظام متكامل يبتلع ثروات البلاد بلا هوادة.
وفقاً لتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، تم إهدار أكثر من 14 مليار جنيه داخل الشركة المصرية للاتصالات بسبب أراضٍ وأصول غير مستغلة، إضافة إلى تجاهل تضمين حساب الأصول الثابتة لقيمة أصول مهيأة للتشغيل بأكثر من 800 مليون جنيه، وذلك بالمخالفة لمعايير المحاسبة المصرية.
وعلى الرغم من وضوح تلك المخالفات الجسيمة، فإن الجهات المسؤولة لم تتخذ أي خطوات جدية لإيقاف هذا النزيف المستمر في المال العام.
تواطؤ وإهمال .. تقاعس الحكومة ووزارة قطاع الأعمال العام
ليس الفساد وحده هو الذي يضرب أركان الشركة المصرية للاتصالات، بل إن الحكومة المصرية، ووزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ووزارة قطاع الأعمال العام متورطون في هذا الفساد المتفشي. تقاعسهم عن اتخاذ أي إجراء ضد المسؤولين الفاسدين يعكس مدى تواطؤهم في هذا الفساد المنظم.
فعلى سبيل المثال، تم الكشف عن إهدار مبلغ 820.2 مليون جنيه داخل الشركة المصرية للاتصالات بسبب عدم تضمين حساب الأصول الثابتة في 31 ديسمبر 2023 لقيمة أصول مهيأة للتشغيل، وذلك بالمخالفة للمعايير المحاسبية المصرية.
وتشمل هذه المبالغ 736 مليون جنيه قيمة المشروعات التي تم تنفيذها ودخولها الخدمة، منها 310 مليون جنيه قيمة تراخيص وخدمات ودعم فني تخص الفترة من سبتمبر 2022 حتى سبتمبر 2023.
الأراضي المهدرة .. فساد بالجملة
إحدى أكبر الفضائح التي كشفها الجهاز المركزي للمحاسبات تتعلق بإهدار الشركة المصرية للاتصالات لأصولها من الأراضي والمباني. التقرير أشار إلى وجود نحو 13 مليار جنيه قيمة بعض الأراضي التي تم تخصيصها للشركة، لكنها لا تزال غير مستغلة.
هذه الأراضي صدرت بشأنها العديد من الفتاوى من مجلس الدولة تؤكد أنها تظل ملكاً للدولة ولا تدخل ضمن أصول الشركة، ولا يجوز لها التصرف فيها. ورغم ذلك، لم تتخذ الشركة المصرية للاتصالات أي إجراءات قانونية لحسم ملكيتها لتلك الأراضي.
على سبيل المثال، هناك قطعة أرض في منطقة المعراج بمحافظة القاهرة، صدر قرار من المحافظة في 16 مارس 2019 بإلغاء قرار التخصيص المتعلق بها.
رفعت الشركة دعوى قضائية لاستعادة الأرض، لكن القضاء الإداري لمجلس الدولة رفض الدعوى في 28 فبراير 2024. ومنذ ذلك الحين، يتكرر رد الشركة بأن هناك “فحصاً جارياً” مع الجهات المختصة، دون أي حلول فعلية.
كما أظهر التقرير أن الشركة تقاعست عن تقديم الشهادات السلبية للأراضي والمباني التي تمتلكها، مما يعرض ممتلكاتها للخطر.
وتشمل هذه الأصول 22 مليون جنيه قيمة أرض ومبنى سوفي سات بمدينة العبور، التي لا تزال مدرجة بحساب “مشروعات تحت التنفيذ”، رغم زعم الشركة أنها مؤجرة ومستغلة.
مليارات ضائعة في نادي المصرية للاتصالات .. مخالفات بالمليار و623 ألف جنيه
الفساد لم يقتصر على أصول الشركة، بل امتد إلى نادي المصرية للاتصالات في المعادي. فقد كشف تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات عن مخالفات مالية جسيمة بقيمة مليار و623 ألف جنيه تتعلق بمشروع إنشاء النادي.
ورغم أن النادي تم تشغيله تجريبياً منذ 30 نوفمبر 2022، فإن هذه المبالغ لا تزال مدرجة بحساب “مشروعات تحت التنفيذ”. والأسوأ من ذلك، أن الشركة لم تقم بتقنين وضع أرض النادي، التي كانت مخصصة لها منذ عام 1900، مما يعرضها لخسارة الأرض بشكل كامل.
سرقة البطاريات .. 4130 بطارية مفقودة
وكأن هذه المخالفات المالية لم تكن كافية، كشف التقرير عن سرقة 4130 بطارية من مهمات الشركة المصرية للاتصالات في محافظتي المنوفية والقليوبية.
ورغم هذه السرقات الهائلة، لم تتخذ الشركة أي خطوات لتعويض هذه الخسائر أو منع تكرارها في المستقبل. كما أشار التقرير إلى وجود تعديات على أراضٍ أخرى تابعة للشركة، بعضها مرفوع بشأنه دعاوى قضائية لم يتم حسمها حتى الآن.
مشاريع وهمية .. قروض بالمليارات ولا تنمية
في وقت تعاني فيه الدولة المصرية من ديون متزايدة، تسعى الشركة المصرية للاتصالات لاقتراض 18 مليار جنيه لتغطية ديونها المتراكمة وإعادة هيكلة قروضها.
ورغم هذه القروض الضخمة، لا يبدو أن الشركة تستثمر في مشاريع تنموية حقيقية. بدلاً من ذلك، تستمر في إهدار الأموال على مشروعات لا ترى النور أو تتعرض للنهب والسرقة. كما أن هذه القروض تضاعف الأعباء المالية على الشركة دون تقديم أي حلول فعلية للمشاكل التي تعاني منها.
فساد بلا عقاب .. الفاسدون أحرار
المثير للدهشة والغضب هو أن جميع هؤلاء الفاسدين، من القيادات العليا إلى المسؤولين الصغار، لا يزالون طلقاء. لا توجد محاكمات ولا عقوبات.
الفساد في الشركة المصرية للاتصالات ووزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ووزارة قطاع الأعمال العام لا يبدو أنه يتوقف عند حد. كل يوم تُكتشف حالات جديدة من الفساد، لكن مرتكبيها يبقون أحراراً وكأنهم فوق القانون.
وفي ظل هذه الحالة المتفشية، يظل السؤال الأكبر هو: كيف يمكن لمصر أن تنهض اقتصادياً وتنمو وهي غارقة في هذا المستنقع العميق من الفساد؟ كيف يمكن للشعب أن يثق في حكومته وهي تقف عاجزة عن محاسبة الفاسدين؟
الحل .. حملة شرسة على الفساد
إن الحل الوحيد لإنقاذ مصر من هذا الوضع المزري هو إطلاق حملة شرسة ضد الفساد والمفسدين. لا بد من معاقبة كل من تورط في نهب المال العام، مهما كان منصبه أو علاقاته.
يجب فضح أسماء الفاسدين أمام الشعب، حتى يكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه التلاعب بمقدرات الوطن. لن تتوقف عمليات النهب والسرقة إلا إذا شعر الفاسدون بأنهم لن يفلتوا من العقاب. يجب أن تحاسب الحكومة المصرية ووزارة قطاع الأعمال العام وكل من تورط في هذه الفضيحة.
مصر بحاجة إلى تطهير شامل
إن مصر، التي كانت يوماً رمزاً للحضارة والتقدم، أصبحت اليوم تعاني من فساد لا حدود له. الحل ليس في الكلام والشعارات الفارغة، بل في العمل الجاد لتطهير مؤسسات الدولة من الفساد.
إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن مستقبل مصر سيكون مظلماً، ولن يكون هناك أمل في أي تقدم أو تطور.