إهدار 172 مليار دولار ومستنقع الديون يبتلع 21 شركة بترولية مصرية رابحة
في مشهد يعكس مدى الفوضى والفساد الذي بات يسيطر على قطاع البترول في مصر، نجد أنفسنا أمام معضلة حقيقية تتعلق بالاقتراض العشوائي لشركات حكومية رابحة مثل “بتروتريد” و”جاسكو”.
هذه الشركات، التي تحقق أرباحًا طائلة سنويًا، باتت تغرق في مستنقع الديون، مما يثير العديد من التساؤلات حول أسباب ودوافع هذا السلوك الغريب، خاصة في ظل تواطؤ وزارة البترول وتقاعسها عن التدخل لوقف هذه المهزلة.
يتزايد الحديث عن الفساد المستشري في الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيجاس” والشركة المصرية للغازات الطبيعية “جاسكو”، حيث يبدو أن النهب المستمر للمال العام أصبح مكشوفًا، ولا يخلو من سرقة واضحة لموارد الدولة.
القروض كواجهة لتغطية الفساد والإهدار
خلال السنوات الأخيرة، شاهدنا توجهًا غير مسبوق لشركات رابحة نحو الاقتراض دون مبرر واضح أو مقنع. فلا أحد يملك تفسيرًا منطقيًا لهذا التصرف الذي لا يعكس سوى إدارة مالية سيئة وفساد مستشري في أروقة هذه الشركات.
ففي بداية العام 2024، أعلنت الحكومة المصرية عن خطة لبيع عدد من الشركات المملوكة لها في البورصة، بما في ذلك شركات بترولية رابحة. وهذا ما يثير علامات استفهام كبيرة حول دوافع هذه القرارات التي قد تدمر أحد أهم قطاعات الاقتصاد المصري.
أبرز الشركات التي وردت أسماؤها في خطة البيع هي “إنبي للبترول”، “جاسكو للغاز”، “أسيوط لتكرير البترول”، “الشرق الأوسط لتكرير البترول (ميدور)”، و”الشركة المصرية لإنتاج الألكيل والبنزين الخطي”.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هنا هو: لماذا تتجه الدولة إلى بيع هذه الشركات الرابحة بدلاً من تعزيز مواردها واستثمار أرباحها في دعم الاقتصاد الوطني؟
الحكومة وبيع الأصول في مواجهة الديون المتراكمة
يبدو أن الحكومة المصرية تسعى لجمع الأموال بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب أصول الشعب المصري. فقد تحدث رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، في بداية العام 2024، عن خطط لطرح 21 شركة حكومية في البورصة، من بينها 8 شركات سيتم قيدها وطرح أسهمها خلال هذا العام.
وتشمل هذه الشركات “بنك الإسكندرية”، “مصر للتأمين”، “إنبي للبترول”، “أسيوط لتكرير البترول”، “ميدور”، “الوادي للصناعات الفوسفاتية والأسمدة”، و”الشركة المصرية ميثانكس لإنتاج الميثانول”.
بالإضافة إلى 9 شركات أخرى مقيدة في البورصة مرشحة لطرح حصص إضافية من أسهمها، من بينها “الإسكندرية للزيوت المعدنية (أموك)”، “بنك الإسكان والتعمير”، “إي فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية”، “مدينة نصر للإسكان”، “مصر الجديدة للإسكان”، “مصر للألومنيوم”، “سيدي كرير للبتروكيماويات”، “أبوقير للأسمدة”، و”الإسكندرية لتداول الحاويات”.
الحديث عن بيع هذه الأصول يثير مخاوف كبيرة، خاصة مع ارتفاع ديون مصر الخارجية التي تجاوزت 172 مليار دولار وفقًا لتقديرات مستقلة.
يبدو أن الحكومة تسعى لسد فجوة الديون المتراكمة عبر بيع أصول الشعب، في خطوة يمكن وصفها بأنها كارثية على مستقبل الاقتصاد المصري.
الفساد في “إيجاس” و”جاسكو” وإهدار المال العام
الفساد في القطاع البترولي المصري ليس جديدًا، ولكنه وصل إلى مستويات غير مسبوقة. فالشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيجاس” والشركة المصرية للغازات الطبيعية “جاسكو” تُعدان مثالين صارخين على هذا الفساد.
يتجلى هذا الفساد في الصفقات المشبوهة التي يتم عقدها، وغياب الشفافية في إدارة الأصول العامة، وتوجيه الأموال إلى مشروعات غير مجدية على حساب المال العام.
ففي الوقت الذي تُعلن فيه هذه الشركات عن أرباح بالمليارات، نرى أنها تسعى للحصول على قروض باهظة التكلفة دون أي مبرر. وهذا ما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الأرباح حقيقية أم مجرد أرقام وهمية يتم التلاعب بها لإخفاء العجز المالي الكبير الذي تعاني منه هذه الشركات.
فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن القطاع البترولي في مصر يعاني من فساد إداري ومالي كبيرين، يظهر في الصفقات غير المعلنة وغياب الرقابة الفعلية من الأجهزة الحكومية.
بيع الشركات الرابحة .. خطوة نحو الانهيار
لا يمكن النظر إلى قرار الحكومة ببيع شركات رابحة مثل “جاسكو” و”إنبي للبترول” على أنه خطوة عابرة. فهذه الشركات تمثل جزءًا من الأمن الاقتصادي الاستراتيجي للدولة.
بيعها لن يسهم في حل مشكلة الديون المتراكمة، بل سيزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي، خاصة أن عائدات هذه الشركات تُعد جزءًا أساسيًا من موارد الدولة.
ومن المثير للسخرية أن يتم بيع هذه الشركات في وقت تشهد فيه البلاد أزمة اقتصادية غير مسبوقة، حيث فقدت العملة المحلية نحو 58% من قيمتها خلال العامين الماضيين،
وارتفع معدل التضخم إلى مستويات قياسية بلغت 23.5%. في ظل هذه الظروف، يبدو أن الحكومة تتجه إلى تدمير ما تبقى من الاقتصاد الوطني عبر بيع أصوله الأساسية.
الأسئلة التي لا تجد إجابة
هناك العديد من الأسئلة التي تتبادر إلى الأذهان حول هذا الوضع الكارثي. كيف يمكن لشركات تحقق أرباحًا طائلة أن تسعى للاقتراض؟ هل تم طرح هذه القروض للمناقشة في الجمعيات العمومية لهذه الشركات؟ وهل وافق المساهمون على تحمل تكاليف هذه القروض الباهظة؟ أم أن القرارات تُتخذ بشكل سري دون أي شفافية أو محاسبة؟
الازدواجية التي نشهدها في إعلان هذه الشركات عن أرباح بالمليارات، ثم لجوئها إلى الاقتراض، تشير بوضوح إلى وجود خلل كبير في إدارة هذه الشركات.
فالشكل العام الذي تروجه وسائل الإعلام الرسمية يوحي بأن هذه الشركات تتمتع بقوة مالية هائلة، بينما الحقيقة هي أن هناك عجزًا ماليًا كبيرًا يتم إخفاؤه عن الأعين.
وزارة البترول .. شريك في الجريمة
وزارة البترول، التي يُفترض أن تكون الجهة الرقابية على هذه الشركات، تتقاعس عن أداء دورها بشكل واضح. بل يمكن القول إن الوزارة شريك في هذا الفساد المستشري.
فبدلاً من التدخل لوقف هذا الإهدار الواضح للمال العام، نجد أن الوزارة تُغض الطرف عن هذه التجاوزات، مما يفتح المجال لمزيد من الفساد والنهب.
القطاع البترولي يُعد من أهم قطاعات الاقتصاد المصري، ولكن مع استشراء الفساد فيه، يبدو أنه بات عبئًا على الدولة بدلاً من أن يكون مصدرًا للدخل القومي.
وقد ساهمت السياسات الفاشلة لوزارة البترول في تفاقم هذه الأزمة، حيث أصبحت الشركات الحكومية الكبرى، مثل “إيجاس” و”جاسكو”، مرتعًا للفساد وسوء الإدارة.
الحلول الغائبة .. وأمل ضائع
الوضع الحالي للاقتصاد المصري، وخاصة قطاع البترول، ينذر بكارثة وشيكة. لا يمكن الاستمرار في هذه السياسات الفاشلة التي تعتمد على الاقتراض العشوائي وبيع أصول الشعب لسد ديون متراكمة.
الحلول التي يمكن أن تخرج البلاد من هذا المستنقع تكاد تكون غائبة تمامًا عن الساحة، في ظل حكومة لا تمتلك رؤية واضحة لإنقاذ الاقتصاد.
من بين الحلول التي يُطالب بها الكثيرون هو إقالة الحكومة الحالية وتشكيل حكومة وطنية تعمل لصالح المواطن المصري، وليس لصالح المؤسسات المالية الدولية أو الأجندات الخارجية.
هناك حاجة ماسة إلى تبني خطة اقتصادية وطنية تقوم على استعادة سيادة القرار الاقتصادي، ودمج الاقتصادات السرية في موازنة الدولة تحت مظلة واحدة، تُعرف باسم “صندوق الشعب الموحد”. بدون هذه الخطوات الجادة، فإن البلاد لن تستطيع الصمود لأكثر من بضعة أشهر قبل أن تنهار تمامًا.
السؤال الأهم .. هل هناك أمل؟
مع اقتراب العام الجديد 2025، لا يبدو أن هناك أي بوادر أمل في الأفق. الأزمة الاقتصادية تتفاقم، والجنيه المصري يواصل انهياره، والسيولة النقدية باتت شبه منعدمة، والاستثمارات الأجنبية والمحلية تهرب من السوق المصري.
في ظل هذه الظروف، يبدو أن الحل الوحيد المتبقي هو تغيير جذري في السياسات الاقتصادية والإدارية، وإلا فإن البلاد ستواجه انهيارًا تامًا في جميع قطاعاتها.
ويبقى السؤال الأهم: لماذا تقترض شركات رابحة مثل “بتروتريد” و”جاسكو”؟ وهل هذه القروض هي مجرد غطاء لعمليات نهب منظم للمال العام؟ الوقت وحده سيكشف الحقيقة، ولكن المؤكد هو أن البلاد تسير بخطى سريعة نحو الهاوية.