أحدث دراسة طبية منشورة على يد نقابة الأطباء في مصر صدمة غير مسبوقة تكشف عن كارثة طبية تهدد حياة المرضى وتعمق أزمة النظام الصحي في البلاد.
في تقرير مدوٍ وصادم، أعلن الأطباء المصريون أن ثلث الأطباء في مصر أصبحوا يمارسون ما يُعرف بـ “الطب الدفاعي”، وهو مصطلح يشير إلى اللجوء إلى إجراءات طبية مبالغ فيها من أجل تجنب التورط في قضايا قانونية والتهرب من المسؤولية التي قد تلاحقهم في حال حدوث خطأ طبي.
هذه النتائج لا تقتصر على الجانب الطبي فقط، بل تكشف عن انهيار منظومة الصحة وتدق ناقوس الخطر حول تدهور مستوى الرعاية الطبية في مصر.
الطب الدفاعي ليس مجرد ظاهرة عابرة بل أصبح سمة سائدة بين الأطباء في جميع التخصصات، وبالأخص في التخصصات الجراحية بالمستشفيات الحكومية.
ويشير التقرير إلى أن الأطباء باتوا يخشون من اتخاذ قرارات علاجية أو تشخيصية دقيقة خوفًا من المساءلة القانونية. هذه الظاهرة التي انتشرت بشكل غير مسبوق أصبحت تشكل تهديدًا مزدوجًا فهي تؤدي إلى زيادة التكاليف المالية على المرضى من خلال إجراء فحوصات وعلاجات غير ضرورية، وفي ذات الوقت تهدد بتقليص القدرة على تقديم الرعاية الصحية الفعّالة والآمنة.
الدراسة التي نُشرت في بيان رسمي عن نقابة الأطباء، جاءت لتكشف عن حجم الكارثة المتفاقمة في القطاع الطبي المصري، حيث أظهرت الدراسة أن نحو ثلث الأطباء في مصر يعتمدون على ممارسات الطب الدفاعي، وهذا يشمل العديد من الإجراءات الطبية المبالغ فيها كالفحوصات والعلاجات التي ليست لها ضرورة طبية.
يشير التقرير إلى أن هذه الممارسات أصبحت الطريقة السائدة خاصة في المستشفيات الحكومية، ويزداد انتشارها كلما زادت سنوات خبرة الطبيب، مما يعني أن الأطباء الأكثر خبرة باتوا أكثر تأثرًا بهذه الظاهرة.
الدراسة، التي أُجريت بمشاركة مجموعة من العلماء والأطباء المصريين البارزين من بينهم الدكتور محمد جاب الله، استشاري الطب الشرعي وعضو مجلس نقابة أطباء الدقهلية، دقت ناقوس الخطر حول الوضع الصحي في مصر.
التقرير وصف الطب الدفاعي بأنه “إجراء فحوصات وتشخيصات وعلاجات زائدة عن الحاجة”، ويشمل أيضًا تراجع الأطباء عن التعامل مع الحالات المعقدة والخطرة، بالإضافة إلى تجنبهم معالجة المرضى الذين سبق لهم تقديم شكاوى قانونية ضدهم. هذا يشير إلى أن الفشل في تقديم الرعاية الصحية الجيدة قد أصبح سمة مميزة للممارسات الطبية في مصر.
البحث الذي أعدته نقابة الأطباء أظهر أن غالبية الأطباء في التخصصات الجراحية وخاصة في المستشفيات الحكومية هم الأكثر تطبيقًا لممارسات الطب الدفاعي.
كما أظهرت الدراسة أن الأطباء الذين تعرضوا لشكاوى قانونية أو تهديدات بالمقاضاة هم أكثر عرضة لتطبيق هذا الأسلوب، مما يكشف عن العلاقة المتشابكة بين النظام الصحي والنظام القضائي في مصر. وهذه الوضعية تساهم في تضخم الأزمة الصحية بشكل غير مسبوق.
الدراسة لم تقتصر على توثيق هذه الظاهرة فحسب، بل قدمت أيضًا حلولًا خطيرة على صعيد التشريعات الطبية. وأشارت إلى ضرورة إنشاء محاكم وهيئات قضائية متخصصة في قضايا المسؤولية الطبية.
كما أوصت بتوفير شركات تأمين ضد مخاطر المهنة، وهو ما يمكن أن يساهم في تخفيف الأعباء القانونية عن الأطباء ويحد من انتشار الطب الدفاعي. وأكدت الدراسة أن هذا التوجه يجب أن يترافق مع تدريب مستمر للأطباء في الجوانب القانونية والعملية على حد سواء.
وفي هذا السياق، أكدت نقابة الأطباء أن الحلول المقترحة تكمن في توفير نظام قانوني يضمن حقوق المرضى دون أن يضع الأطباء في موقف دفاعي، وأوضحت أن النظام الحالي يضر بالأطباء ويؤثر سلبًا على أداء مهنتهم.
ومن أبرز الحلول التي قدمتها النقابة هو إنشاء هيئات متخصصة لفض النزاعات الطبية، وتوفير تأمين ضد مخاطر المهنة حتى يتمكن الأطباء من أداء مهامهم دون الخوف من ملاحقات قانونية قد تكون غير عادلة.
النقابة أيضًا دعت إلى ضرورة الإسراع في إصدار قانون المسؤولية الطبية الذي أعدته سابقًا من أجل حماية حقوق المرضى من جهة، وضمان عدم تحميل الأطباء المسؤولية المفرطة عن الأخطاء الطبية التي قد تحدث بشكل غير مقصود.
ووفقًا لتصريحات النقابة، فإن المرضى المصريين هم المتضرر الأكبر من الوضع الحالي، لأن هذا النظام القائم على الطب الدفاعي يؤدي إلى إجراء اختبارات وعلاجات غير ضرورية، مما يعرضهم لمزيد من الأعباء المالية والصحية.
في الوقت نفسه، تشهد الساحة القانونية الصحية في مصر جدلاً واسعًا حول مشروع قانون المسؤولية الطبية الذي أعدته الحكومة.
النقابة أبدت اعتراضات جوهرية على هذا المشروع، وأكدت أنه لا يتجاوز كونه محاولة لتقنين العيوب الموجودة في النظام الحالي، دون أن يحقق أي تقدم حقيقي في حماية المرضى أو الأطباء. النقابة رفعت مذكرة إلى مجلس النواب ومجلس الوزراء، طالبت فيها بمراجعة هذا المشروع بشكل كامل، مشيرة إلى أن هذا المشروع لا يحقق توازنًا حقيقيًا بين ضمان حقوق المرضى وحماية الأطباء من الاتهامات غير المبررة.
من جانبه، أعرب الدكتور محمد جاب الله عن قلقه العميق من التوسع الكبير في ممارسة الطب الدفاعي، محذرًا من أن هذا الاتجاه قد يتسبب في تدهور مستوى الخدمات الطبية بشكل أكثر فداحة.
وأوضح أن الأطباء الذين يتبعون هذا الأسلوب يحاولون حماية أنفسهم من القضايا القانونية التي يمكن أن تهدد مستقبلهم المهني، وهو ما ينعكس سلبًا على تقديم الرعاية الصحية للمرضى.
ومع استمرار تفشي ظاهرة الطب الدفاعي في المستشفيات الحكومية، يبقى السؤال المحير هو: كيف سيواجه النظام الصحي في مصر هذه الأزمة؟ هل سيستمر هذا الاتجاه المقلق في تدمير ما تبقى من ثقة بين الأطباء والمرضى؟
الإجابة على هذه الأسئلة قد تكون أكثر مرارة مما يتصور الجميع، لأن المتضرر الأول من هذا الوضع هو المواطن المصري، الذي يعاني من تدهور مستوى الرعاية الصحية على يد الأطباء الذين يفضلون الحماية الذاتية على تقديم العلاج الجيد.