يعاني قطاع الكهرباء في مصر من أزمات متعددة منذ عدة سنوات، على الرغم من ضخ مليارات الدولارات فيه، بهدف تحسين كفاءة الخدمات المقدمة وتلبية احتياجات المواطنين.
إلا أن الوضع لم يتغير، ما يدفعنا للتساؤل عن الأسباب الحقيقية وراء هذه الأزمة المستمرة، والتي باتت تشير بوضوح إلى وجود فساد مستشرٍ وإدارة غير مسؤولة على مستوى وزارة الكهرباء والشركة القابضة لكهرباء مصر والحكومة المصرية ككل.
فمنذ تعيين المهندس جابر دسوقي رئيساً للشركة القابضة لكهرباء مصر عام 2012، لم نشهد أي تقدم ملموس في معالجة هذه الأزمات، بل على العكس، تفاقمت الأمور وزادت الصفقات المشبوهة التي تحيط بها العديد من علامات الاستفهام.
كان من المفترض أن يتم تعيين المهندس جابر دسوقي في هذا المنصب لقيادة إصلاحات جوهرية في قطاع الكهرباء. لكن الواقع أن الرجل انشغل بالسفريات وحصد المزايا والمكافآت وعضويات مجالس إدارة الشركات بالدولار، ليصبح رئيساً ليس فقط للشركة القابضة لكهرباء مصر، ولكن أيضاً لشركة بجسكو، التي تعتبر استشاري وزارة الكهرباء.
وتحت إدارته، بدأت تفوح روائح الفساد والمحسوبيات التي تسيطر على قطاع الكهرباء بأكمله، مستغلاً في ذلك شبكة من الموالين والمستشارين القانونيين وأعضاء الشركات الذين يتبادلون المصالح في ما بينهم.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على واحدة من أبرز وأخطر هذه القضايا، وهي مناقصات عدادات الدفع المسبق، التي تتولاها شركات توزيع الكهرباء التسع في مصر.
هذه المناقصات أصبحت مرتعاً للصفقات المشبوهة التي تسعى من خلالها قيادات الكهرباء إلى تكريس فسادهم وإهمالهم لأية ضوابط للحكم الرشيد والشفافية التي تدعي الحكومة أنها تسعى لتطبيقها.
فعلى الرغم من أن الجهاز المركزي للمحاسبات قد أشار في تقاريره المتكررة إلى الخلل الفادح في إدارة هذه المناقصات، إلا أن الفساد لا يزال مستشرياً، حيث يتم تجاهل الملاحظات والقرارات الصادرة دون أدنى اكتراث.
العرض الوحيد والأمر الإضافي: بوابات للفساد
من أبرز المشاكل التي تعاني منها مناقصات عدادات الدفع المسبق هي مسألة “العرض الوحيد”، وهي ثغرة خطيرة يتم استغلالها بشكل واسع من قبل قيادات الشركة القابضة لكهرباء مصر.
تنص لائحة المناقصات على أنه يمكن قبول العرض الوحيد إذا كانت هناك ظروف طارئة تمنع إعادة طرح المناقصات، أو إذا كانت الأسعار مناسبة. هذه الثغرة أفسدت مبدأ المنافسة وفتحت الباب واسعاً للصفقات المشبوهة.
هذا البند في اللائحة يحتاج إلى تعديل فوري، لأنه بات المدخل الرئيسي للفساد في عدد كبير من المناقصات التي أبرمتها الشركة القابضة خلال فترة رئاسة المهندس جابر دسوقي.
ففي كل مرة يتم فيها طرح مناقصة، يظهر عرض وحيد من مورد أو مقاول عالمي، وعندما يتم رفض العرض، تتأخر المشروعات، ما يعيد القطاع إلى الوراء. وتعيد الشركات توزيع الكهرباء التسع في مصر نفس السيناريو، حيث يحتكر عدد قليل من الشركات السوق بسبب هذا “العرض الوحيد”، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة حول مدى مشروعية المنافسة.
أما القضية الثانية التي لا تقل خطورة فهي “الأمر الإضافي”، وهو منح شركة ما عرضاً إضافياً لنفس الكميات والأسعار بعد عدة شهور من المناقصة الأصلية.
هذه السياسة تجعل من الصعب على شركات توزيع الكهرباء التسع الحصول على أسعار أفضل، لأنها تصبح مجبرة على التعامل مع نفس الشركة بنفس الشروط.
مثال على ذلك ما حدث مع شركة دلتا لتوزيع الكهرباء، التي أصدرت أمراً بتوريد 100 ألف عداد إلكتروني مسبق الدفع من شركة جلوبال ترونيكس للإلكترونيات بقيمة 52 مليون و400 ألف جنيه، بالإضافة إلى ضريبة القيمة المضافة. وتكرر هذا السيناريو في مناقصات عديدة أخرى، مما يعيق فرص تحسين الأسعار ويكرس الفساد.
الهيمنة والمحسوبيات: كيف يدار قطاع الكهرباء؟
لا يقف الأمر عند المناقصات المشبوهة، بل يتعداه إلى كيفية إدارة القطاع بشكل عام. المحسوبيات والمجاملات أصبحت السمة الغالبة في تعيين رؤساء الشركات التابعة للشركة القابضة وأعضاء مجالس الإدارة.
الكثير من هؤلاء المسؤولين تجاوزوا سن التقاعد بكثير، مثل نادية عبد العزيز قطري، العضو المتفرغ للشؤون المالية والتمويل بالشركات، والتي تجاوزت سن السبعين وما زالت تشغل منصبها. كيف يمكن أن تستمر هذه الفئة من القيادات المتقادمة في مناصبها رغم وجود كفاءات شابة تستحق الفرصة؟
المهندس جابر دسوقي نفسه تجاوز سن الـ66 وما زال في منصبه، وكأنه لا يوجد جيل ثان جاهز لتولي القيادة. هذا التجريف للكفاءات هو أحد أسباب التراجع المستمر في قطاع الكهرباء، حيث يتم تعيين المستشارين والأعضاء المتفرغين في الشركات بناءً على علاقات المحسوبية والشللية، وليس على أساس الكفاءة.
شركة بجسكو، التي يرأسها دسوقي أيضاً، مثال صارخ على هذا الفساد، حيث يحتكر مجموعة من المقربين له الامتيازات، بينما يعاني باقي العاملين من نقص في المزايا.
وعلى الرغم من تقديم العديد من المهندسين والفنيين لشكاوى إلى وزير الكهرباء، الدكتور محمود عصمت، إلا أن هذه الشكاوى لم تجد طريقها للحل، حيث يتم إرسالها إلى رئيس الشركة نفسه، الذي بدوره يتجاهلها تماماً.
فساد حكومي واسع: من يتحمل المسؤولية؟
الحكومة المصرية، التي أعلنت مراراً وتكراراً التزامها بمبادئ الشفافية والحوكمة الجيدة، تفشل في تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع، وخاصة في قطاع الكهرباء. فبالرغم من تصريحات الحكومة أمام مجلس النواب عن مكافحة الفساد وزيادة الشفافية، إلا أن الممارسات الفعلية لمسؤولي وزارة الكهرباء والشركة القابضة تضرب هذه الأسس عرض الحائط.
الصفقات المشبوهة، مثل ما حدث مع شركة الجيزة لتصنيع مستلزمات الكابلات، التي فازت بأربعة أوامر إسناد من شركات توزيع الكهرباء، هي دليل آخر على تعمق الفساد في هذا القطاع. والكارثة الأكبر هي أن هذه الصفقات تتم وسط تجاهل تام للقوانين واللوائح، وبدعم من القيادات العليا في وزارة الكهرباء.
إعادة توزيع المناصب: التغيير لا يجلب الأمل
في الآونة الأخيرة، ترددت أخبار عن تغييرات محتملة في قيادات الشركة القابضة والشركات التابعة لها، ولكن بدلاً من أن تكون هذه التغييرات مدخلاً للإصلاح، يبدو أنها مجرد تبادل للمناصب بين نفس القيادات التي ساهمت في الفساد. المحسوبية والشللية ما زالت تسيطر على عملية اختيار القيادات، وما زالت القرارات تصدر بناءً على العلاقات الشخصية وليس الكفاءة.
يجب على وزير الكهرباء أن يتحمل مسؤولياته كاملة في هذه القضية. إن عملية الإصلاح تبدأ من اختيار القيادات القوية القادرة على مواجهة الفساد، وليس تلك التي تستفيد منه. يجب إعادة النظر في التعيينات، وفرض رقابة صارمة على جميع المناقصات والصفقات التي تتم في قطاع الكهرباء.
إدارة الأزمات: الفشل الذي يستنزف موارد الدولة
من الواضح أن القيادة الحالية لقطاع الكهرباء تفتقر إلى القدرة على إدارة الأزمات. الفقد الفني والتجاري الذي تعاني منه شركات توزيع الكهرباء، بالإضافة إلى المشاكل المالية التي تواجهها، هي نتيجة مباشرة لسوء الإدارة والفساد. المواطنون يعانون من فواتير الكهرباء المرتفعة والقراءات الوهمية، في حين تتكدس الثروات في جيوب قلة من المسؤولين.
إن التحدي الأكبر الآن هو القضاء على مراكز القوى التي ظهرت في الشركة القابضة لكهرباء مصر والشركات التابعة لها. هذه المافيات التي تسيطر على القطاع تهدد سمعة وزارة الكهرباء وتستنزف موارد الدولة.
ويجب على وزير الكهرباء أن يتحلى بالشجاعة لاتخاذ خطوات حاسمة للقضاء على الفساد، ووضع حد للصفقات المشبوهة التي تهدد مستقبل قطاع الطاقة في مصر.