في الموجات الارتدادية التي تلت انتفاضة يناير 2011، برزت عوامل عدة أدت إلى هزيمة الانتفاضة وتفكيك محاولتها لتحقيق تحول ديمقراطي وإنجاز الحكم الرشيد.
كان من أهم هذه العوامل: فشل الحوار السياسي بين المشاركين، والاستقطاب السياسي الذي قوض قدرة الفاعلين على التواصل وبناء توافق حول قواعد العملية السياسية والحد الأدنى من الحقوق السياسية وصياغة دستور توافقي.
تبرز الحوارات السياسية المنظمة (الحوارات الوطنية) والمناقشات المستديرة كأدوات حاسمة لتعزيز الانتقال الديمقراطي، ووضع قواعد التنافس السياسي السلمي، والتفاوض حول التوزيع العادل للموارد السياسية والاقتصادية، وتبني مبادئ الشمول والتنوع والديمقراطية، وضمان الحقوق العامة والسياسية.
تعمل هذه المحادثات المنظمة كمنصات لمعالجة القضايا عميقة الجذور، وسد الفجوات، ومنع التصعيد إلى مواجهات عنيفة. ومع ذلك تواجه الحوارات السياسية غالبًا تحديات هائلة تعيق فعاليتها، على الرغم من وعودها الكبيرة. إن فهم الظروف التي تؤدي إلى النجاح أو الفشل أمر ضروري لصناع السياسات الراغبين في بناء أطر تدعم المشاركة الهادفة.
تركز هذه الورقة بشكل أساسي على مصر كدراسة حالة رئيسية، وتفحص تطور عمليات الحوار الوطني في البلاد والتحديات التي واجهتها. توفر مصر سياقًا فريدًا لاستكشاف ديناميات الحوار السياسي وأزماته، ومن خلال تحليلها جنبًا إلى جنب مع أمثلة تاريخية أخرى للحوارات السياسية الناجحة وغير الناجحة، تسعى هذه الورقة إلى تحديد الأنماط واستخلاص الدروس القابلة للتطبيق على المبادرات المستقبلية. كما تسلط الضوء على العوامل الحاسمة التي تسهم في المناقشات البناءة، بما في ذلك بناء الثقة، وتوازن القوى، والمشاركة الشاملة.
في السياق المصري تعرضت الحوارات الوطنية لإخفاقات وتحولت في بعض الأحيان إلى أدوات دعاية سياسية أو مناسبات رمزية تفقد القدرة على التأثير الحقيقي في مسار العملية السياسية؛ بسبب اختلال التوازن في القوى، وعدم توازن قدرة الأطراف على التأثير. بالإضافة إلى ذلك غالبًا ما يتم اختيار المشاركين في هذه الحوارات من قبل السلطة دون أن يمتلكوا تمثيلًا حقيقيًا لفئات المجتمع المختلفة، مما يؤدي إلى استبعاد وجهات نظر مهمة وإضعاف فعالية الحوار. يشير التاريخ السياسي للبلاد -الذي شهد فترات من الحكم الاستبدادي والانتفاضات الشعبية- إلى تأثير هذا السياق في طبيعة الحوارات ومآلاتها، تشمل التحديات الأساسية التي تواجهها هذه الحوارات اختلال موازين القوى، وانعدام الثقة بين الأطراف، واستبعاد بعض المجموعات من العملية.
تفترض هذه الورقة أن فشل عمليات الحوار الوطني في مصر يرجع إلى تصميم هذه الحوارات لخدمة اعتبارات دعائية سياسية بالأساس، وليس بهدف التواصل الجاد مع الأطراف المتعارضة للتوصل إلى حلول شاملة للقضايا العالقة. وتجادل الورقة بأن الهيكلية التنظيمية والسياق السياسي لهذه الحوارات تتبع نمط “الفائز يكسب كل شيء” (winner-take-all)، بدلا من مدخل تعزيز المكاسب المشتركة للجميع، مما يؤدي إلى تهميش المعارضة وإقصاء الأطراف غير الموالية للسلطة، وهو ما يعيق بناء الثقة والتفاهم المتبادل ويقلل من فرص الوصول إلى نتائج مستدامة. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل كيفية استخدام الحوارات كأداة لتعزيز هيمنة السلطة بدلاً من توفير منصة حقيقية للتفاوض وحل النزاعات.
من خلال التعمق في عمليات الحوار الوطني في مصر، تهدف الورقة إلى تقديم رؤى لصناع السياسات والممارسين المشاركين في حل النزاعات والفاعلين السياسيين من التيارات المختلفة. يمكن للدروس المستفادة من تجارب مصر أن تكون مفيدة في تصميم وتنفيذ مبادرات الحوار المستقبلية، سواء داخل البلاد أو في سياقات أخرى تواجه تحديات مماثلة. في نهاية المطاف، الهدف هو خلق أطر مستدامة للحوار السياسي يمكن أن تساهم في تحقيق التحول السياسي والاستقرار.
المنهجية
تعتمد هذه الورقة على المنهج الوصفي التحليلي لدراسة عمليات الحوارات الوطنية في مصر، مع إجراء تحليل مقارن لحالات النجاح والفشل للحوار الوطني في سياقات مختلفة حول العالم. تهدف المنهجية إلى توفير إطار شامل يساعد على فهم العوامل المؤثرة في فعالية هذه الحوارات وتقديم توصيات لتحسين عمليات الحوار في المستقبل. وقدمت الورقة تحليلها وفقًا لما يلي:
- 1. مراجعة الأدبيات والبيانات والمعلومات:
– قامت الورقة بمراجعة مجموعة من الأدبيات الأكاديمية والتقارير الدولية التي تتناول نظريات الحوار، والحوارات السياسية غير المنتظمة، والحوارات السياسية المنظمة أو ما يعرف بالحوارات الوطنية.
- 2. تحليل الحالات الدولية:
– تتضمن الورقة دراسات حالة للمقارنة مع الحالة المصرية، مثل نجاح الحوارات الوطنية في جنوب إفريقيا وتونس وأيرلندا وبولندا في التوصل لتسويات وتحقيق الانتقال السياسي، وفشلها في سوريا واليمن وميانمار. تم تناول هذه الحالات لتحديد العوامل المشتركة في النجاح والفشل، واستخلاص الدروس المستفادة منها.
- 3. تحليل الحالة المصرية:
– دراسة تاريخ الحوارات الوطنية في مصر عبر فترات مختلفة، مع التركيز على التحديات التنظيمية والسياسية والثقافية التي أعاقت نجاح هذه العمليات. تشمل هذه التحديات غياب الشمولية، اختلال توازن القوى، وافتقار الثقة بين الأطراف.
- 4. استخلاص النتائج والتوصيات:
– بناءً على التحليل، تم استخلاص الدروس المستفادة وتقديم توصيات عملية لتحسين آليات الحوار الوطني في مصر. يتم التركيز على تعزيز الشمولية، بناء الثقة، وتوفير آليات تنفيذ واضحة لضمان فعالية الحوارات الوطنية في المستقبل.
مصادر البيانات:
تعتمد الورقة على مصادر متنوعة من الأدبيات الأكاديمية والتقارير الدولية، وتستند إلى مقاربة نقدية تهدف إلى توضيح أوجه القصور وتقديم حلول واقعية. تشمل هذه المصادر:
– مقالات ودراسات أكاديمية تناولت نظريات التواصل والحوار، سواء الحوار غير المنظم بين المواطنين في المجال العام أو الحوارات المنظمة بهدف الوصول لتفاهمات مشتركة أو حل نزاع أو تحقيق انتقال سياسي.
– تقارير صادرة عن منظمات دولية ومحلية حول الحوارات الوطنية والسياسية.
– مصادر إعلامية وتحليلات سياسية للسياق المصري.
التحليل المقارن:
تتضمن الورقة تحليلًا مقارنًا بين الحوارات الوطنية الناجحة والفاشلة في سياقات مختلفة حول العالم. يهدف هذا التحليل إلى تحديد العوامل المشتركة التي ساهمت في نجاح أو فشل هذه الحوارات، واستخلاص الدروس التي يمكن تطبيقها في السياق المصري. تشمل الحالات الدولية التي تم تحليلها أربعة نماذج ناجحة وهي جنوب أفريقيا، تونس، وأيرلندا، وبولندا بالإضافة إلى ثلاثة نماذج فاشلة وهي سوريا، اليمن، وميانمار.
التحليل النقدي:
تعتمد الورقة على مقاربة نقدية لتحليل الحوارات الوطنية في مصر، بهدف توضيح أوجه القصور وتقديم حلول واقعية. يتم التركيز على:
– التحديات التنظيمية: مثل غياب الشمولية واختلال توازن القوى.
– التحديات السياسية: مثل اختلال التوازن بين الأطراف السياسية لصالح السلطة والسياق السياسي السلطوي.
– التحديات الثقافية: مثل غياب ثقافة التسويات والتنازلات المتبادلة.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم تحليل شامل لعمليات الحوارات الوطنية في مصر، مع التركيز على التحديات والعوامل المؤثرة في نجاح أو فشل هذه الحوارات. من خلال تحليل الحالات الدولية والمقارنة بينها وبين الحالة المصرية، تهدف الورقة إلى تقديم توصيات عملية لتحسين آليات الحوار الوطني في مصر، وتعزيز الشمولية وبناء الثقة وتوفير آليات تنفيذ واضحة لضمان فعالية الحوارات الوطنية في المستقبل.
تعريفات وخلفية نظرية
يعرف قاموس Merriam-Webster الحوار (dialogue) بشكل عام على أنه:
- محادثة أو تبادل الحديث بين شخصين أو أكثر.
- تبادل الأفكار والآراء.
- مناقشة بين ممثلي أطراف النزاع بهدف التوصل إلى حل.
في تعريفات أخرى، يُعرف الحوار على أنه عملية تواصل يسعى فيها الأشخاص ذوو توجهات مختلفة أحيانًا إلى التفاهم المتبادل. يتضمن الحوار تفاعل المشاركين مع بعضهم في ضوء وجهات نظرهم المختلفة، والسعي إلى تحقيق درجة من التفاهم المتبادل. بشكل عام، يمكن تعريف الحوار على أنه عملية تواصل لفظي تهدف إلى تبادل الأفكار والرؤى والتعرف على الآخر ومخاوفه ودوافعه ومصالحه الظاهرة والكامنة.
يتميز الحوار بعدد من الصفات الأساسية، منها:
- التفاعلية (Interactive): الحوار بطبيعته تفاعلي، حيث يتم في سياق اجتماعي ويعمل كعملية ثنائية الاتجاه بين الذات والآخر (Kim & Kim, 2008، p. 53). يشمل ذلك تبادل الأفكار وردود الأفعال، والتجاوب المستمر مع رسائل وأفعال الأطراف الأخرى، مما يسهم في خلق تجربة مشتركة تعزز التواصل الفعّال والفهم المتبادل. يسهم هذا التفاعل المستمر في بناء جسور من الفهم والتعاون بين الأطراف المختلفة.
- اللغوية (Linguistic): يعتمد الحوار بشكل أساسي على التواصل اللغوي، حيث تُستخدم اللغة بوصفها وسيلة محورية لتبادل الأفكار والرؤى بين المشاركين. يتيح هذا التواصل توضيح المفاهيم والتعبير عن المشاعر والمواقف بدقة وفعالية. فاللغة هنا ليست مجرد أداة لنقل المعلومات، بل هي وسيلة لبناء العلاقات وتعميق الفهم المتبادل بين الأطراف.
- التبادلية (Transactional): يتسم الحوار بكونه عملية تبادلية، حيث تتضمن تفاعلات الأطراف مساهمات متبادلة تؤثر على بعضها البعض بشكل مستمر. تضمن هذه الطبيعة التبادلية أن الحوار ليس أحادي الاتجاه؛ بل يتطلب أن يتبادل المشاركون الأدوار بين الإرسال والاستقبال بشكل واعٍ. في هذه العملية تُشكل المساهمات المتبادلة المعنى بشكل جماعي وتؤدي إلى تحقيق أهداف محددة، مما يخلق تفاعلًا ديناميكيًا يبني الفهم بشكل تعاوني ويدعم أهداف الحوار مثل: حل المشكلات، اتخاذ القرارات، وبناء التوافق.
على المستويات الجماعية والمنظمة، يظهر الحوار ليس فقط كوسيلة للتواصل بين الأفراد، بل بوصفه أداة حاسمة لفض النزاع وتعزيز التفهم المشترك بين الأطراف المتنافسة، وأداة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. من خلال الحوار يمكن للأطراف المتنازعة التوصل إلى تفاهمات مشتركة وحلول وسط؛ تلبي احتياجات الجميع. هذا النوع من الحوار يمكن أن يسهم في بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وتعزيز التفاهم المتبادل، وتقليل التوترات والصراعات.
الحوار السياسي
يعدُّ الحوار السياسي أحد أهم أدوات إدارة الخلافات السياسية وعمليات التحول السياسي وحل الصراعات بين الفاعلين السياسيين. غالبًا ما تُجرى مثل هذه الحوارات خلال مراحل التحول أو الأزمات الكبرى أو الخلافات السياسية العميقة بهدف تحديد قواعد للتنافس السياسي السلمي، وطبيعة توزيع الموارد، وإدارة الخلافات، ومعرفة أولويات الأطراف المختلفة وخلق تسويات قائمة على التنازلات المتبادلة.
تُركز هذه الورقة على الحوار السياسي، وهو الحوار الذي يتم بين فاعلين سياسيين. يمكن أن يكون هؤلاء الفاعلون أفرادًا، جماعات، أو مؤسسات تؤثر على العمليات السياسية أو تشارك فيها. يتنوع تأثير هؤلاء الفاعلين بين التأثير في صناعة السياسات وأساليب الحكم كما في الأنظمة الديمقراطية، أو محاولة التأثير في الرأي العام والحشد نحو تغيير الوضع الراهن كما في الأنظمة السلطوية.
في الأنظمة التعددية، تشمل الجهات الفاعلة: السياسيين المنتخبين، الأحزاب السياسية، وسائل الإعلام المستقلة، منظمات المجتمع المدني، والمواطنين. أما في الأنظمة الاستبدادية، فتشمل الجهات الفاعلة النخبة الحاكمة، مؤسسات الدولة، الأجهزة الأمنية، وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة الدولة، والمعارضة المقيدة التي تحاول التأثير في الرأي العام من خلال تقديم رؤية بديلة لسياسات النظام وطرق حكمه.
بوجه عام، يمكن تعريف الحوار السياسي على أنه عملية اتصال منظمة بين مختلف الجهات الفاعلة السياسية وأصحاب المصلحة بهدف تعزيز التفاهم المتبادل، وبناء الإجماع، ومعالجة القضايا أو الصراعات السياسية. ويؤكد الحوار السياسي على الشمولية والشفافية وإشراك مجموعات مجتمعية متنوعة لتحقيق حلول وتحولات سياسية مستدامة.
الأسس النظرية للحوار السياسي
تؤكد الأسس النظرية للحوار السياسي والتفاوض على دور الاتصال وبناء الثقة والاعتراف المتبادل في حل النزاعات. وتشير نظريات مثل نموذج التفاوض التكاملي (Fisher, Ury, & Patton, 1981) إلى أن الأطراف يمكنها تحقيق نتائج مربحة للجميع من خلال التركيز على المصالح المشتركة بدلاً من المواقف الجامدة. في كتابهما “الوصول إلى الموافقة”، شدد روجر فيشر وويليام يوري على أهمية التركيز على المصالح وليس المواقف. ويقترح هذا النموذج أن تحديد المصالح المشتركة والعمل بشكل تعاوني يساعد الأطراف على إيجاد حلول تلبي الاحتياجات الأساسية لجميع المعنيين.. وقد وضع هذا النموذج مبادئ رئيسية لنجاح الحوار، منها:
– فصل الأشخاص عن المشكلة: معالجة القضايا دون هجمات شخصية.
– التركيز على المصالح وليس المواقف: فهم الاحتياجات والمخاوف الأساسية لكل طرف.
– توليد خيارات لتحقيق مكاسب متبادلة: تبادل الأفكار حول حلول متعددة تعود بالنفع على جميع الأطراف.
– استخدام معايير موضوعية: اتخاذ القرارات على أساس معايير عادلة بدلاً من ديناميات القوة.
بالإضافة إلى ذلك، تسلط نظرية رأس المال الاجتماعي الضوء على أهمية الثقة والشبكات في تيسير التفاعلات التعاونية. توفر هذه الأطر النظرية عدسة يمكن من خلالها فحص الآليات التي تسهم في الحوارات الفعالة وتحديد سبب نجاح بعض المبادرات بينما يتعثر البعض الآخر. يؤكد روبرت بوتنام على أهمية رأس المال الاجتماعي ودور الثقة والشبكات في تعزيز التعاون (Putnam, 1993, 2000). يمكن لمستويات عالية من رأس المال الاجتماعي أن تعزز فعالية الحوارات السياسية من خلال بناء الثقة بين المشاركين وتسهيل تدفق المعلومات.
من جانب آخر، توضح نظريات ديناميكيات القوة، مثل تلك التي ناقشها ستيفن لوكس (Lukes, 2005)، كيف يمكن لعلاقات القوة غير المتكافئة أن تؤثر على نتائج الحوار. تتطلب الحوارات الفعالة آليات لموازنة هذه التفاوتات وضمان سماع جميع الأصوات. تشمل المفاهيم الرئيسية للقوة وفقًا للوكس:
– القوة الظاهرة: السلطة الرسمية وقوة اتخاذ القرار التي يتمتع بها الأفراد أو المجموعات.
– القوة الخفية: القدرة على تحديد الأجندات والتحكم في القضايا التي تتم مناقشتها.
– القوة غير المرئية: المعايير والمعتقدات الداخلية التي تشكل تصورات الأفراد وأفعالهم.
يتم الحوار السياسي على مستويين: المستوى غير الرسمي بين المواطنين، والحوار الرسمي الذي يتم بين فاعلين سياسيين بشكل منظم وإجرائي. في نفس السياق، يؤكد هابرماس (Habermas, 2005) على وجود نوعين من الحوار السياسي:
– بين المواطنين في المجال العام غير الرسمي.
– بين السياسيين أو الممثلين عن فئات المجتمع في البيئات الرسمية.
الحوار السياسي غير الرسمي:
وفقًا لنظرية الفعل الاتصالي The theory of communicative action (Habermas, 1984)، يلعب الحوار السياسي اليومي غير الرسمي دورًا أساسيًا في تحقيق التفاهم المتبادل بين المواطنين. يسهم هذا النوع من المحادثات في فهم الأفراد لمصالحهم الخاصة وما يريده الآخرون وما يخدم الصالح العام. بدون هذا التفاهم، تصبح المشاركة الفعالة في المداولات واتخاذ القرارات العقلانية صعبة.
على الرغم من أن الحوار السياسي اليومي يبدو غير منظم وعشوائي في بعض الأحيان، فهو يشكل أساسًا للعقلانية في المداولات العامة. يرى هابرماس أن العقلانية ليست معطىً خارجيًا بل هي نتاج تفاعل اجتماعي غير هادف وغير استراتيجي، يُسمَى الفعل التواصلي، حيث تُبنى العقلانية بشكل جماعي من خلال التفاعل الاجتماعي.
يولد الفعل التواصلي غير الرسمي العقل العام من خلال التوجه نحو التفاهم المتبادل. يظهر ذلك في أشكال خطابية متنوعة مثل المناقشات والمناظرات والجدال. المحادثات غير الرسمية، وفقًا لهابرماس (1984)، مثل ” المحادثات والجدال”، تشكل ممارسات تواصلية غير هادفة تحقق التفاهم وتؤسس مجتمعًا متواصلاً يمثل قاعدة للعقلانية. من خلال هذا الحوار، تتجدد رؤية الأفراد ويطورون ذواتهم، فهو أكثر من مجرد تبادل رسائل بل هو عملية تحول متبادل.
الحوار السياسي، كما يصفه سيسنا وأندرسون ((Cissna & Anderson, 1994)، هو عملية تواصل نوعية تتيح للأفراد تغيير آرائهم وبناء تفاهمات مشتركة. يساعد هذا في تخفيف مشكلة “التوزيع غير المتماثل للمعلومات” حيث تميل المعلومات للتركيز حول الدوائر الحاكمة، ويتيح الحوار بين الأفراد إلى تخفيف أثر هذا التوزيع غير المتماثل من خلال تبادل المزيد من المعلومات بين الجمهور (Downs, 1957). من خلال المحادثات السياسية، يتبادل الأفراد الأفكار ويبنون مجتمعًا ذا قيم مشتركة، وهو أمر ضروري لتطور الديمقراطية وزيادة عمليات التفاوض حول المصالح أو القيم الحاكمة .
الحوارات السياسية المنظمة (الحوارات الوطنية)
يرى شودسون (Schudson, 1997) أن المداولات العامة أو الحوارات السياسية المنظمة هي “محادثة لحل المشكلات” تهدف إلى حل النزاعات واتخاذ القرارات الجماعية وحماية المصالح. بما يعني أن الحوارات السياسية المنظمة ليست مجرد تبادل للآراء أو مناقشات نظرية، بل هي محادثات تهدف بشكل مباشر إلى التعامل مع قضايا حقيقية وصراعات قائمة. الهدف الرئيسي لهذه المداولات هو التوصل إلى حلول عملية ومقبولة وتفهم مشترك للمصالح والمخاوف والأفكار ودوافع الأطراف؛ مما يسهم في الوصول لتوافق وطني يحدد قواعد للانتقال والتنافس السياسي السلمي. من خلال التركيز على حل المشكلات، تصبح هذه الحوارات وسيلة فعالة لتخفيف التوترات، وتجنب التصعيد، وضمان حماية المصالح المشتركة للأطراف المعنية.
الحوارات الوطنية هي واحدة من عدة آليات لمعالجة الأزمات السياسية والصراعات العنيفة، والتي تستخدم غالبًا جنبًا إلى جنب مع الوساطة والتفاوض. ويمكن أن تنطوي على مرحلة إعداد بوساطة ومفاوضات مكثفة خلال اللحظات السياسية الحرجة، والتي تحدث قبل أو بعد أو بالتوازي مع عمليات أخرى.
لذا يمكن تعريف الحوار الوطني انه : ” عملية تفاوض شاملة ومتعددة الأطراف بهدف إدارة التحولات السياسية في أوقات الأزمات وهشاشة الدولة. وبالإضافة إلى أطراف الصراع الرئيسية، يتضمن هذا تمثيل شرائح كبيرة من المجتمع، بما في ذلك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنساء والشباب وقطاع الأعمال بالإضافة إلى الجهات الدينية و/أو التقليدية. والحوارات الوطنية عبارة عن منتديات مفوضة رسميًا ذات هيكل واضح يحدد القواعد والإجراءات للحوار وصنع القرار.” (Paffenholz, Zachariassen, & Helfer, 2017, p13) وفي تعريف آخر “الحوارات الوطنية هي عمليات سياسية تدار وطنيا تهدف إلى توليد الإجماع بين مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة الوطنيين في أوقات الأزمات السياسية العميقة، أو في مواقف ما بعد الحرب أو أثناء التحولات السياسية بعيدة المدى”. (Berghof Foundation, 2017, p1)
الحوارات الوطنية هي عمليات سياسية مصممة لبناء التوافق بين مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة الوطنيين خلال أوقات الأزمات السياسية العميقة، أو مواقف ما بعد الحرب، أو التحولات السياسية المهمة. ويمكن أن تخدم غرضين رئيسيين:
- منع الأزمات وإدارتها: نهج قصير الأجل يهدف إلى حل أو منع العنف المسلح، وكسر الجمود السياسي، وإعادة إرساء الحد الأدنى من التوافق السياسي. ففي اللحظات الثورية الكبرى، تميل الأنظمة لتقديم تنازلات والاستماع للعوامل التي خلقت الأزمة ومحاولة التعامل معها. لذا تميل بعض الأنظمة للدعوة لحوارات وطنية في هذه الأثناء بوصفها استجابة تكيفية مع الأزمة ومحاولة احتوائها. وكثيرا ما أدت هذه الاستجابة إلى إحداث التغيير فعلا، مثل حالة المائدة المستديرة في بولندا 1989.
- التغيير الجذري: استراتيجية طويلة الأجل لإعادة تعريف العلاقات بين الدولة والمجتمع أو إنشاء عقد اجتماعي جديد من خلال التغييرات المؤسسية والدستورية. وهي التي تلي لحظات نجاح الثورات الكبرى أو التغيرات الكبرى. مثل حالة الحوار الوطني في جنوب إفريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري في بداية تسعينات القرن العشرين.
تتضمن الخصائص الرئيسية للحوارات الوطنية ما يلي:
– التركيز نحو العملية: التركيز على العملية وليس مجرد التوصل لاتفاق لحل نزاع. تختلف عمليات الحوار عن أشكال المفاوضات الأخرى. فبينما تتجه أشكال المفاوضات المختلفة إلى تحقيق الهدف والوصول لحلول للنزاعات حتى دون التوصل إلى تحسين ظروف التعايش بين المتنازعين، تهدف عملية الحوار إلى خلق حالة تفهم متبادل بين الأطراف لتوفيق إرادتهم المتصارعة والتعايش معا فيما بعد. لذا فالهدف خلق حالة مستمرة من التعايش والتفهم وليس مجرد وصولٍ لحل لنزاع.
– المشاركة الواسعة: إشراك فئات مجتمعية مختلفة للتعبيرعن مطالب فئات المجتمع وعدم استبعاد أي طرف من العملية.
– التنظيم الوطني: تيسير وطني مع جهات خارجية تقدم وظائف الدعم. فلكي تكتسب العملية صفة الوطنية، يجب أن يشارك في تنظيمها وتطويرها عناصر محلية ولا تُفرض من وسيط أجنبي. هذا لا يمنع أن يتدخل بعض الوسطاء الأجانب لتقديم المساعدة، لكنها عملية وطنية في أساسها.
المبادئ الأساسية للحوارات الوطنية الناجحة
تفيد الأدبيات أن الحوارات الوطنية الناجحة هي عمليات شاملة، أي تشمل ممثلين عن فئات المجتمع، وشفافة أي أن مناقشتها ومخرجاتها معلنة للجمهور، وتشمل أيضًا أصحاب المصلحة المتنوعين مثل النساء والشباب والأحزاب السياسية والمجتمع المدني، وتتطلب وجود جهة أو أشخاص مشهودا لهم بالنزاهة والحياد لإدارة العملية، وأجندة واضحة، ومشاركة عامة للحفاظ على الشرعية. والحوارات الفعّالة لها قواعد وآليات واضحة لحل الجمود، وخطة تنفيذ لضمان تنفيذ التوصيات. وبدون هذه العناصر تكون الحوارات معرضة لخطر فقدان الشرعية والفشل في تحقيق نتائج ملموسة. (National Transitional Justice Working Group, 2019)
يجادل هايدر(Haider, 2019) أن هناك مبادىء أساسية لضمان نجاح الحوارات الوطنية. فإلى جانب تأثير السياق السياسي، تلعب عوامل التنظيم والإجراءات العملية دورًا حاسمًا في تحديد احتمالية نجاح الحوارات الوطنية في التوصل إلى اتفاقيات مستدامة. تشمل العوامل الأساسية ما يلي:
درجة الإدماج والمشاركة: تؤكد الأدبيات بشكل واسع على أن الحوارات الوطنية لا تحقق أهدافها إلا إذا كانت شاملة لجميع أطياف المجتمع. لتحقيق الشمول الفعلي، يجب العمل على تحقيق التوازن في توزيع السلطة وضمان المشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات. ومع ذلك قد يؤدي الشمول الزائد إلى تعقيد النقاشات وجعلها غير قابلة للإدارة، مما يصعّب معالجة القضايا الرئيسية. يبرز نجاح الحوارات الوطنية في إيجاد توازن دقيق بين كفاءة عملية إدارة الحوار وشمولها.
معايير التمثيل والاختيار: تلعب معايير اختيار المشاركين والإجراءات المتبعة في ذلك دورًا محوريًا في تعزيز أو تقويض تمثيل مختلف المجموعات الاجتماعية والسياسية. ففي الحوارات الناجحة يضمن المنظِّمون أن يكون الحاضرون ممثلين فعليين لمجموعات اجتماعية مختلفة. على النقيض في الحوارات السياسية الفاشلة أو التي لها أغراض دعائية يتم اختيار المشاركين بحيث يُضمن ولاءهم أولا للسلطة لا تمثيلهم لقطاعات اجتماعية مختلفة.
تحديد الهدف والنطاق: من المهم تجنب توسع المهام والأجندات بشكل يتجاوز قدرة العملية على تحقيقها. يجب تحقيق توازن بين نطاق الحوار والكفاءة والاستقلالية. نطاق محدود وواضح قد يكون أكثر فعالية في الإدارة، لكنه قد يقيد مساحة التغيير ويعزز هيمنة النخب. الوضوح في القضايا المطروحة وجعلها ذات صلة بالسكان المحليين يعد عاملاً جوهريًا لنجاح الحوارات الوطنية. ففي حالات مختلفة تم إغراق حوارات وطنية بقضايا فرعية وغير أساسية قوضت قدرتها على معالجة القضايا الأساسية.
الإطار المؤسسي والهياكل الداعمة: يسهم وجود بنية مؤسسية داعمة، تشمل الجهات المؤثرة القريبة من الأطراف المتحاورة في تجهيز المشاركين بالمعرفة والأدوات اللازمة للوصول إلى حلول وسطى وتكوين تحالفات، ما يسمح لهم بوقت كافٍ للتوافق. فوجود مؤسسات مثل الأحزاب السياسية الداعمة لجماعات المعارضة أو مؤسسات تمثيلية مثل النقابات واتحادات العمل ومؤسسات المجتمع المدني أو مؤسسات أكاديمية وعلمية مهتمة بالقضايا محل المناقشة قد يسهم بشكل فعال في نجاح الحوار.
دور الوسيط والميسرين: الوسيط أو الميسر المحايد الذي يحظى بالثقة والاحترام يعزز مصداقية الحوار ويؤكد جديته.
إجراءات صنع القرار وإدارة الحوار: تؤثر هذه الإجراءات بشكل كبير على قدرة الحوار الوطني على التوصل إلى اتفاق وتنفيذه. في حين أن الوصول إلى الإجماع يعزز من شمولية الأجندة ويضمن سماع الأصوات المستبعدة، قد يؤدي الفشل في تحقيق الإجماع إلى تعزيز موقف القوى الراسخة واستمرار الوضع القائم. قد يكون من الضروري تكميل آليات الإجماع بأدوات أخرى لكسر الجمود، مثل فرق العمل المتخصصة.
تدابير بناء الثقة: يعد اتخاذ خطوات متسلسلة لتخفيف التوترات وبناء الثقة أساسيًا لضمان مشاركة بناءة في الحوار. هذه التدابير تظل ضرورية في كل مرحلة لضمان تنفيذ الاتفاقات. فقد يفشل الحوار لعدم ثقة كل طرف في نية الآخرين، أو لرغبة طرف في استغلال الحوار للهيمنة وليس للتوافق.
توفير آليات التنفيذ: لضمان نجاح الحوارات الوطنية، يجب توافر التمويل والخبرات وآليات المساءلة والمتابعة والمحاسبة اللازمة لضمان تنفيذ مخرجات الحوار. غالبًا ما تُنشأ هيئات انتقالية أو مؤسسات جديدة لتطبيق النتائج، غير أن التنفيذ قد يواجه صعوبات إذا كانت القرارات غير واقعية أو الإرادة السياسية غائبة أو فشل الدعم الخارجي.
حالات النجاح والفشل للحوارات الوطنية عبر العالم
لقد برزت الحوارات الوطنية كآلية حاسمة لمعالجة الصراعات السياسية العميقة الجذور، وتعزيز السلام، وتسهيل التحولات نحو حوكمة أكثر شمولاً في أكثر مكان من العالم. وفي حين توضح الحالات الناجحة مثل نهاية نظام الفصل العنصري السلمي في جنوب إفريقيا والحوار الوطني التونسي الإمكانات التحويلية لهذه الحوارات، فإن أمثلة أخرى، بما في ذلك الجهود المبذولة في سوريا واليمن، تسلط الضوء على التحديات والتعقيدات التي يمكن أن تعيق تحول الحوارات الوطنية إلى نتائج ايجابية لتحقيق الانتقال السياسي. نستعرض عدد من حالات النجاح والفشل للحوارات الوطنية عبر العالم.
الحالات الناجحة
الانتقال في جنوب إفريقيا (1990-1994):
كان تفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إنجازًا هائلًا. اتسم هذا الإنجاز بالمفاوضات الشاملة والمتنوعة التي شملت جهات سياسية مختلفة. قاد هذه المفاوضات الحزب الوطني الحاكم، بقيادة الرئيس فريدريك دبليو دي كليرك، والمؤتمر الوطني الإفريقي، بقيادة نيلسون مانديلا. وقد دعمت هذه المفاوضات سنوات من الضغوط المحلية والدولية ضد نظام الفصل العنصري، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية والإدانة الواسعة النطاق. (Maphai, 1993)
أحد الجوانب البارزة في هذا الحوار كان مؤتمر من أجل جنوب إفريقيا الديمقراطية (CODESA) ، حيث شاركت مجموعات عرقية وسياسية مختلفة في المناقشات. هذا المؤتمر كان بمثابة منصة شاملة جمعت بين مختلف الأطراف لتحقيق رؤية مشتركة لجنوب إفريقيا السلمية والموحدة. وعلى الرغم من مواجهة العديد من العقبات -بما في ذلك اندلاع أعمال العنف والاغتيالات- فإن الرؤية المشتركة للأطراف والتي عززتها مرونة قيادة مانديلا ودي كليرك سمحت للمحادثات بأن تتوج بصياغة دستور جديد، وإجراء أول انتخابات متعددة الأعراق في البلاد في عام 1994.
هذه الانتخابات كانت لحظة تاريخية، حيث شارك فيها الجميع بغض النظر عن العرق، مما أدى إلى انتخاب نيلسون مانديلا بوصفه أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا. هذا التحول الديمقراطي لم يكن مجرد تغيير في القيادة، بل كان بدايةً لعهد جديد من المصالحة الوطنية وبناء الأمة على أسس المساواة والعدالة.
لقد أظهرت هذه التجربة أن الحوار الشامل والمتنوع يمكن أن يكون أداة قوية لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي، حتى في ظل أصعب الظروف. كانت مرونة القيادة، والالتزام بالرؤية المشتركة، والدعم المحلي والدولي، عوامل حاسمة في نجاح هذه العملية.
اتفاقية الجمعة العظيمة (1998):
كانت اتفاقية الجمعة العظيمة، أو اتفاقية بلفاست، إنجازًا مهمًا للسلام في أيرلندا الشمالية، حيث أنهت فترة من العنف الطائفي استمرت 30 عامًا. كان الحوار معقدًا، وشمل مجتمعين رئيسيين: الاتحاديين الذين كانوا بروتستانت في الغالب وكانوا يرغبون في البقاء جزءًا من المملكة المتحدة، والقوميين -الكاثوليك في الغالب- الذين سعوا إلى توحيد أيرلندا. تم التوصل إلى الاتفاقية بمشاركة نشطة من الحكومتين البريطانية والأيرلندية ووساطة شخصيات دولية، وخاصة السناتور الأمريكي جورج ميتشل، الذي اكتسبت نزاهته ثقة الجانبين . (Doyle,2018)
تضمنت العناصر الرئيسية للاتفاق إنشاء جمعية تأسيسية لصياغة دستور لأيرلندا الشمالية مع أحكام تقاسم السلطة، وسحب الأسلحة شبه العسكرية، وآليات التعاون عبر الحدود مع جمهورية أيرلندا. كانت هذه الخطوات ضرورية لضمان أن تكون الاتفاقية شاملة وتعكس مصالح جميع الأطراف المعنية. وأيدت الاستفتاءات التي عقدت في كل من أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا الاتفاق، مما عزز شرعيته ومهد الطريق لسلام هش ولكنه مستمر إلى الآن.
الاتفاقية لم تكن مجرد وثيقة سياسية، بل كانت بداية لعملية طويلة ومعقدة من المصالحة وبناء الثقة بين المجتمعات المختلفة في أيرلندا الشمالية. تضمنت الاتفاقية أيضًا إنشاء مؤسسات جديدة لتقاسم السلطة، مثل الجمعية التشريعية لأيرلندا الشمالية، والتي تهدف إلى ضمان تمثيل جميع الأطراف في عملية صنع القرار.
على الرغم من التحديات المستمرة، فإن اتفاقية الجمعة العظيمة تعتبر نموذجًا ناجحًا لكيفية استخدام الحوار والتفاوض لحل النزاعات العميقة الجذور. لقد أظهرت أن الوساطة الدولية، والالتزام من قبل الأطراف المحلية، والدعم الشعبي يمكن أن يسهموا جميعًا في تحقيق السلام والاستقرار.
رباعية الحوار الوطني التونسي (2013-2014):
كانت فترة ما بعد الثورة في تونس محفوفة بالتوترات في أعقاب الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في عام 2011. وهددت الاغتيالات السياسية والانقسام الأيديولوجي الاستقطابي بين الفصائل العلمانية والإسلامية التحول الديمقراطي. في هذا السياق، تدخلت رباعية الحوار الوطني، وهي تحالف من أربع مجموعات من المجتمع المدني: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، ونقابة المحامين التونسيين، في لحظة حرجة . (Crisis Group, 2023)
كان لمشاركتهم دور محوري في سد الفجوات، والاستفادة من مكانتهم المحايدة والمحترمة على نطاق واسع للتوسط بين حزب النهضة الحاكم والمعارضة العلمانية. تمكنت الرباعية من إنشاء خريطة طريق، وتسوية، وتنازلات من الأطراف المتعارضة تضمنت استقالة الحكومة الانتقالية وإنشاء لجنة انتخابية مستقلة، وبلغت ذروتها في صياغة دستور جديد بنجاح في عام 2014. هذا الدستور الجديد كان خطوة حاسمة نحو تحقيق الاستقرار السياسي وتعزيز الديمقراطية في تونس.
لقد أكسب هذا الإنجاز الرباعية جائزة نوبل للسلام، مما سلط الضوء على أهمية المجتمع المدني في حل النزاعات. كانت هذه الجائزة اعترافًا بالدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني في تحقيق التغيير السياسي والاجتماعي. كما أظهرت التجربة التونسية أن الحوار الشامل والمتنوع يمكن أن يكون أداة قوية لتحقيق التحول الديمقراطي، حتى في ظل أصعب الظروف.
تجربة الرباعية التونسية تعدُّ نموذجًا ناجحًا لكيفية استخدام الحوار والتفاوض لحل النزاعات العميقة الجذور وتقديم التنازلات المتبادلة للوصول للتسويات الكبرى -على الأقل خلال هذه المرحلة-. لقد أظهرت أن الوساطة المحايدة، والالتزام من قبل الأطراف المحلية، والدعم الشعبي يمكن أن يسهموا جميعًا في تحقيق السلام والاستقرار.
محادثات المائدة المستديرة البولندية (1989):
كانت محادثات المائدة المستديرة البولندية بمثابة لحظة فاصلة في انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. بدأت المحادثات بعد موجات من الإضرابات العمالية والضائقة الاقتصادية، وجمعت بين الحكومة الشيوعية الحاكمة وحركة التضامن، وهي حركة اجتماعية وسياسية واسعة النطاق بقيادة ليش فاليسا. تميزت المفاوضات بمدى اتساعها، حيث شملت مجموعة واسعة من المشاركين، بما في ذلك ممثلي الكنيسة والمثقفين وأعضاء النخبة السياسية. (HAYDEN, 2001)
على النقيض من الحوارات الأكثر صرامة، تم تنظيم المحادثات للسماح بتسويات كبيرة، مما أدى إلى اتفاق أعطي شرعية للمعارضة وأرسى الأساس لانتخابات شبه حرة. هذا الاتفاق كان خطوة حاسمة نحو التحول الديمقراطي، حيث فازت حركة التضامن بعدد كبير من المقاعد البرلمانية وشكلت حكومة ائتلافية. كان لهذا التحول التاريخي تأثير كبير، حيث ألهم الانتقال السلمي للسلطة جهود التحول الديمقراطي اللاحقة في جميع أنحاء المنطقة.
لقد أظهرت محادثات المائدة المستديرة البولندية أن الحوار الشامل والمتنوع يمكن أن يكون أداة قوية لتحقيق التغيير السياسي والاجتماعي. كانت مرونة القيادة، والالتزام بالرؤية المشتركة، والدعم المحلي والدولي، عوامل حاسمة في نجاح هذه العملية. كما أظهرت أن التسويات الكبيرة يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية ومستدامة، حتى في ظل أصعب الظروف.
تجربة المائدة المستديرة البولندية تعدُّ نموذجًا ناجحًا لكيفية استخدام الحوار والتفاوض لحل النزاعات العميقة الجذور. لقد أظهرت أن الوساطة المحايدة، والالتزام من قبل الأطراف المحلية، والدعم الشعبي يمكن أن يسهموا جميعًا في تحقيق السلام والاستقرار. هذه التجربة تقدم دروسًا قيمة يمكن تطبيقها في سياقات أخرى تواجه تحديات مماثلة.
حالات غير ناجحة
محادثات السلام السورية (2012-…..):
تميزت عملية السلام السورية بسلسلة من المفاوضات الفاشلة، بدءًا من مؤتمر جنيف الأول في عام 2012. سعت المحادثات، التي يسرتها الأمم المتحدة وأصحاب المصلحة الدوليون الرئيسيون، إلى إنهاء الحرب الأهلية الوحشية التي اندلعت من الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2011 ). .(Ton, Perlot, & Wurzer, 2016 ومع ذلك، تقوضت الجهود بسبب الانقسامات العميقة بين فصائل المعارضة السورية، والموقف الثابت لنظام بشار الأسد، والتدخل الأجنبي المكثف.
دعم اللاعبون الرئيسيون مثل روسيا وإيران حكومة الأسد، في حين دعمت القوى الغربية والجهات الفاعلة الإقليمية مثل تركيا ودول الخليج مجموعات معارضة مختلفة. هذا التدخل الأجنبي المكثف أدى إلى تعقيد الوضع بشكل كبير، حيث أصبحت الأجندات المتنافسة للدول المختلفة تطغى على الجهود الرامية إلى حل الصراع الحقيقي.
أدى عدم القدرة على إرساء وقف إطلاق نار شامل وخريطة طريق سياسية إلى صراع مطول وأزمات إنسانية، مع نزوح الملايين وفقدان عدد لا يحصى من الأرواح. كانت هذه الأزمات الإنسانية من بين الأسوأ في التاريخ الحديث، حيث عانى المدنيون من العنف المستمر، ونقص الغذاء والماء، وتدمير البنية التحتية الأساسية.
لقد أظهرت عملية السلام السورية أن الانقسامات العميقة بين الأطراف المتنازعة، والتدخلات الأجنبية المتضاربة، يمكن أن تعيق بشكل كبير الجهود الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار. كما أظهرت أن الحلول السياسية تتطلب التزامًا حقيقيًا من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الجهات الفاعلة الدولية، لتحقيق تقدم ملموس.
تجربة عملية السلام السورية تقدم دروسًا قيمة حول أهمية الوحدة الداخلية والالتزام الدولي لتحقيق السلام. بدون هذه العناصر، يمكن أن تستمر النزاعات لفترات طويلة، مما يؤدي إلى معاناة إنسانية كبيرة وتدمير شامل.
مؤتمر الحوار الوطني اليمني (2013-2014):
انطلق مؤتمر الحوار الوطني اليمني في أعقاب استقالة الرئيس علي عبد الله صالح، وكان يهدف إلى معالجة المظالم السياسية والاجتماعية والإقليمية العميقة الجذور. ضم المؤتمر ممثلين من فصائل سياسية مختلفة، بما في ذلك الحوثيون والانفصاليون الجنوبيون، لكنه واجه تحديات كبيرة . (Doha Institute, 2014)
من بين أهم هذه التحديات كان استبعاد بعض الجماعات القوية من المشاركة الهادفة والافتقار العام إلى الالتزام بتنفيذ اتفاقيات تقاسم السلطة. ومع تقدم المحادثات، تصاعدت التوترات بين حركة الحوثيين والجهات الفاعلة الأخرى، مما أدى في نهاية المطاف إلى استيلاء الجماعة المسلحة على العاصمة صنعاء في عام 2014.
أدى انهيار الحوار إلى تجدد الصراع، وجذب القوى الإقليمية مما أدى إلى حرب أهلية مع تدخل التحالف العربي ضد الحوثيين. هذا التدخل الإقليمي زاد من تعقيد الوضع، حيث أصبحت الأجندات المتنافسة للدول المختلفة تطغى على الجهود الرامية إلى حل الصراع الحقيقي.
استقرار اليمن أصبح هشًا وقابلًا للانفجار، مع أزمة إنسانية متمثلة في المجاعة والمرض على نطاق واسع. كانت هذه الأزمات الإنسانية من بين الأسوأ في التاريخ الحديث، حيث عانى المدنيون من العنف المستمر، ونقص الغذاء والماء، وتدمير البنية التحتية الأساسية.
لقد أظهرت تجربة مؤتمر الحوار الوطني اليمني أن الانقسامات العميقة بين الأطراف المتنازعة، والتدخلات الأجنبية المتضاربة، يمكن أن تعيق بشكل كبير الجهود الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار. كما أظهرت أن الحلول السياسية تتطلب التزامًا حقيقيًا من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الجهات الفاعلة الدولية، لتحقيق تقدم ملموس.
تجربة مؤتمر الحوار الوطني اليمني تقدم دروسًا قيمة حول أهمية الوحدة الداخلية والالتزام الدولي لتحقيق السلام. بدون هذه العناصر، يمكن أن تستمر النزاعات لفترات طويلة، مما يؤدي إلى معاناة إنسانية كبيرة وتدمير شامل.
عملية السلام في ميانمار (2011-…..):
سعت عملية السلام في ميانمار، التي بدأت بعد الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم شبه المدني في عام 2011، إلى إنهاء عقود من الصراع المسلح بين الحكومة والعديد من الجماعات العرقية المتمردة. في أغسطس2011، أصدر الرئيس يو ثين سين نداءً من أجل السلام، داعياً الأقليات العرقية المسلحة في ميانمار إلى بدء محادثات السلام مع الحكومة.
كما بدأت الحكومة محادثات مع الأطراف المتحاربة للتوصل إلى اتفاق سلام ينهي الصراع الذي طال أمده في البلاد. وتوصل الطرفان إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على مستوى البلاد، والذي صيغ في عام 2014. وبعد الموافقة عليه من قبل 16 مجموعة عرقية مسلحة مختلفة، تمت صياغة الاتفاق.
وقبل الاستفتاء الدستوري استبعدت الحكومة مسلمي الروهينجا من التصويت، واستبعدتهم من وصفهم مواطنين وبدأت حملة تطهير عرقي بهدف تهجيرهم بشكل قسري. وعلى الرغم من الدعم الأولي، انتهى الأمر بثماني مجموعات عرقية فقط إلى التوقيع على الاتفاق في 2015، أما المجموعات الأخرى إما اختارت عدم التوقيع أو تم استبعادها من قبل الحكومة.
مارست الحكومة أشكالًا من التمييز والقمع واستبعدت مجموعات عرقية بشكل منهجي، وخاصة مجموعة الروهينجا العرقية، وانهارت عملية التحول الديمقراطي بشكل كامل مع الانقلاب العسكري في عام 2021، مما أدى إلى انزلاق البلاد مرة أخرى إلى حرب أهلية واسعة النطاق وحكم عسكري. (Waters, 2022)
لقد أظهرت تجربة عملية السلام في ميانمار أن الانقسامات العميقة بين الأطراف المتنازعة واستبعاد مجموعات عرقية بشكل منهجي، يمكن أن تعيق بشكل كبير الجهود الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار. كما أظهرت أن الحلول السياسية تتطلب التزامًا حقيقيًا من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الجهات الفاعلة الدولية، والحكومة لتحقيق تقدم ملموس.
جدول 1: حالات الحوار الناجحة
جدول 2: حالات الحوار غير الناجحة
من ملاحظة تجارب النجاح والفشل للحوارات الوطنية عبر العالم يمكن الجدل أن التجارب الناجحة توفّر فيها سياق سياسي وثقافي داعم.
تشير الأدبيات أن هناك عوامل متعلقة بالسياق السياسي وعوامل متعلقة بتنظيم الحوار نفسه. فيما يتعلق بالعوامل المتعلقة بالسياق السياسي يمكن رصد عوامل مثل: مدى دعم النخب السياسية والفاعلين السياسيين للحوار، وقبول الجمهور بالعملية ومنتجاتها، وتأثير الفاعلين الخارجين مثل القوى الأجنبية المنخرطة في العملية، وتوافر ثقافة الحوار والتسويات السياسية، والخبرات التاريخية السابقة في الحوار والتفاوض السياسي، وأخيرا درجة العنف المجتمعية المصاحبة للحوار أو السابقة له. أما عن العوامل المرتبطة بتنظيم الحوار فمنها درجة تمثيل الفاعلين السياسيين والفئات الاجتماعية بما فيها المعارضة، وعملية إدارة الحوار، واختيار الميسرين المحايدين الذين يحظون باحترام الأطراف المشاركة وثقتهم، ومدة الحوار، وآليات التنفيذ والمتابعة. (Paffenholz, Zachariassen, & Helfer, 2017, p53)
يحدد هايدر (Haider, 2019) عدة عوامل تسهم في نجاح عمليات الحوار الوطني أو فشلها ومنها: الإرادة السياسية، والروابط مع العمليات الانتقالية، والقواسم المشتركة بين الأطراف، والمشاركة العامة، والتعلم من الخبرات السابقة لتجارب الحوار، وأخيرا التوازن بين الدعم الخارجي والداخلي لعملية الحوار. ويمكن تفصيل هذه العوامل مع عدد آخر من العوامل فيما يلي:
- درجة الرغبة المتبادلة في تقديم التنازلات وتوافر الإرادة السياسية: كلما ارتفع مستوى الإرادة السياسية واتفاق النخبة على الدفع في اتجاه الحل، زادت احتمالات تحقيق نتائج ناجحة وتنفيذها. وتشمل الإرادة السياسية رغبة الأطراف في الوصول لتسويات وتنازلات متبادلة للوصول لحلول وسط. ويأتي تخلي الإسلاميين في تونس عن مطلب تضمين الشريعة بوصفه مصدرا حاكما للأحكام القانونية في مقابل الحصول على ضمانات للعمل والحريات في اللجنة التأسيسية للدستور التونسي أحد أهم الأمثلة على هذه التسويات الكبرى والتنازلات المشتركة. (Reuters, 2013, March 26)
- القيم المشتركة بين الأطراف وانخفاض درجة الاستقطاب: إن انخفاض درجة الاستقطاب واجتماع الأطراف على قيم مشتركة مثل الرغبة في الانتقال الديمقراطي أو تحقيق الاستقرار الأمني أو الرخاء، يعد خطوة أساسية أو قيمة أساسية مقدَّمة على الخلاف حول الهوية وطريقة إدارة البلاد؛ مما قد يزيد من احتمالات التوصل إلى وجهة نظر مشتركة أو أهداف مشتركة في الحوار، ويسمح للعملية بالمضي قدماً. وعلى النقيض من ذلك فإن وجهات النظر المستقطبة والصراعات حول الهوية والتوجه الاقتصادي؛ قد تؤدي إلى تفاقم انعدام الثقة وتعطيل العملية. فعلى سبيل المثال كان اختلاف الأطراف في مصر حول هوية الدولة والدستور والعلاقة بين الدين والتشريع كلها عوامل أدت لتفاقم الاستقطاب وتقويض أي محاولة للحوار.
- المشاركة المجتمعية والشفافية: إن مشاركة ممثلين عن الفئات الاجتماعية المختلفة ودعم الجمهور وتشجيعه للحوار ومعرفة تفاصيله يؤدي لزيادة درجة شرعية الحوار ومخرجاته دون أن يواجه بمعارضة كبيرة. وتتأثر درجة المشاركة والشرعية بتوافر المعلومات العامة، والتواصل الجيد، والمشاركة الإعلامية، وكلها تؤثر على مستوى الشفافية وفهم العملية.
- التعلم من الخبرات السابقة: استفادت الحوارات الوطنية من خبرات الحوار والتعلم من الحوارات الوطنية السابقة وعوامل نجاحها وفشلها.
- التوازن بين الجهات الفاعلة الخارجية والفاعلين الوطنيين: يمكن أن يؤثر الدعم الخارجي (على سبيل المثال الدعم السياسي والمالي والفني) على درجة نجاح الحوارات الوطنية. ومن المهم إيجاد توازن بين الدعم الخارجي والتنظيم الوطني للحوار. ويمكن للأخيرة أن تزيد من احتمالية قبول الجمهور، وإدراك الشرعية، وفرص التنفيذ. فقد كان لدعم حكومتي كلا من بريطانيا وأيرلندا، دور كبير في التوصل لاتفاق الجمعة العظيمة ونجاح الحوار الأيرلندي. في حين كان تعدد مصالح الجهات الخارجية وتضاربها في الأزمة السورية أحد عوامل فشل الحوار.
- توافر درجة من توازن القدرة على التأثير: ففي الحالة البولندية رغم سيطرة الحكومة على أجهزة القمع الأمنية، كانت قدرة حركة تضامن على: حشد النقابات، واتحادات العمل، وتنظيم الاحتجاجات الشعبية الكبيرة، والتعبير عن مطالب واسعة لقطاعات مختلفة بالتغيير؛ أدت إلى توازن في القوى وفَّر شروط النجاح للمائدة البولندية المستديرة.
جدول 3: العوامل المؤثرة في نجاح أو فشل الحوارات الوطنية
حوارات مصر: بين السلطوية والتهميش
تقدم دراسة مصر حالة وافية لفحص ديناميكيات الحوارات السياسية والعوائق التي تحول دون تحقيق مخرجات الحوار. فقد واجهت عمليات الحوار الوطني في البلاد تحديات كبيرة، وخاصة فيما يتصل بالشمول والتمثيل وتوازن القوى وجدية التنفيذ. وفي حين كانت هذه الحوارات توصف في كثير من الأحيان بأنها “وطنية”، فإنها تفتقر إلى التنوع الحقيقي اللازم لكي تكون ممثلة حقا للسكان. وكانت المشاركة تقتصر عادة على أفراد مختارين بشكل نخبوي تحت إشراف السلطة وبطريقة مركزية في انحياز للعاصمة في التمثيل الجغرافي وفي انحياز للموالين للسلطة على مستوى التمثيل السياسي والاجتماعي، مما أدى إلى تهميش المصالح الإقليمية والسياسية والمهنية.
وكان غياب ديناميكيات القوة المتوازنة بين المشاركين في الحوار عائقا كبيرا أمام تحقيق نتائج ناجحة. وأسهمت هيمنة السلطة في: تحديد الأجندة، والتمثيلية المحدودة لشخصيات المعارضة؛ في خلق بيئة غير مواتية للتوازن حيث تم قمع التبادل الهادف بين المشاركين لصالح أجندة السلطة، كما تم تحييد أي قدرة على التنازلات المتبادلة، حيث لم ترغب السلطة في تقديم تنازلات جوهرية للمعارضة. وأدى مناخ عدم الثقة مع غياب التسامح العام مع المعارضة، إلى إضعاف قدرة الحوارات على تعزيز التسويات السياسية الكبرى في البلاد.
وعلاوة على ذلك، أصبحت الحوارات في مصر في كثير من الأحيان مجرد إيماءات رمزية بهدف الدعاية للسلطة بدلا من عمليات سياسية جوهرية. وكثيرا ما ضم المشاركون أفرادا أو مجموعات ذات نفوذ محدود، ولم تكن النتائج مدعومة بآليات التنفيذ. إن هذه المناقشات، على الرغم من تقديمها على أنها شاملة، غالبًا ما تحولت إلى منتديات لتكرار السرديات الحكومية أو قنوات للمشاركة السطحية دون تأثير سياسي حقيقي.
يتطلب الحوار السياسي الفعال آليات واضحة لتنفيذ الاتفاقيات والتوصيات. في مصر واجهت المناقشات انتقادات لافتقارها إلى الشفافية ومسارات التنفيذ، وأدى غياب الإجراءات الملزمة بعد توصيات الحوار إلى إضعاف ثقة المشاركين والشرعية المتصورة للعملية.
كما أدت المركزية ومشاركة النخبة إلى تحريف أهداف الحوار في مصر. أدى التركيز على شخصيات من العاصمة والشبكات السياسية الراسخة إلى عملية إقصائية تميل إلى تركيز السلطة والموارد والحق في المشاركة في الحوارات، مما يسلط الضوء على الحاجة إلى تمثيل أوسع يعكس وجهات نظر سياسية واجتماعية وإقليمية مختلفة.
تاريخ الحوارات الوطنية في مصر
شهدت مصر عدة دعوات للحوار الوطني عبر تاريخها، وكانت هذه الحوارات بدعوة من السلطة بهدف معلن وهو معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد. يمكن تقسيم هذه الدعوات إلى أربع مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى: الحوار بأمر السلطة – عهد الرئيس جمال عبد الناصر (1962)
في مايو 1962، وجه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خطاباً إلى ما سُمي حينها بـ “المؤتمر الوطني للقوى الشعبية”، وهو مؤتمر حضره 1500 عضو تم انتخابهم بإشراف الدولة؛ ليمثلوا القوى الاجتماعية في مصر. عرض عبد الناصر على المؤتمر تصور القيادة السياسية لـ “ميثاق العمل الوطني”، الذي كان يُعدُّ دليلَ عملٍ لمرحلة جديدة من العمل السياسي. تضمن هذا الميثاق تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي، وإجراء انتخابات عامة لمجلس الأمة، ووضع دستور دائم في عام 1964. تم إجراء الحوار في أجواء سياسية تميل إلى تركيز القوة لصالح السلطة، حيث تم حل الأحزاب السياسية والسيطرة على النقابات المهنية واتحادات العمال، كما تم تأميم الصحف والمؤسسات الإعلامية تحت سيطرة الدولة، مما خلق مناخاً سياسياً غير متسامح مع المعارضة التي تم إقصاؤها من المجال العام بشكل منظم. افتقرت عملية الحوار للشمول اللازم لدمج المعارضة، كما افتقدت إلى آليات محددة لعرض وجهات نظر متعارضة مع توجهات السلطة أو لمتابعة مخرجات الحوار.
المرحلة الثانية: دعوة لم تكتمل – عهد الرئيس أنور السادات (1974)
في كلمته أمام الاجتماع المشترك للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ومجلس الشعب في 18 إبريل 1974، وجه الرئيس الراحل أنور السادات دعوة للحوار عبر عرض برنامج من عشر نقاط أطلق عليه اسم “ورقة أكتوبر”، حددت هذه الورقة مستقبل مصر حتى عام 2000 واستراتيجية العمل الوطني في مرحلة التحرير والتعمير. اقتصرت الدعوة على مناقشة الرئيس لرؤية الدولة للتنمية، ولم يتحقق حوار حقيقي يعرض رؤى متباينة. ظلت الدعوة للحوار معلقة ولم تتحقق، مما يشير إلى أنها كانت مجرد دعوة دعائية لا تعبر عن نوايا حقيقية للدولة في الحوار.
المرحلة الثالثة: دعوات متكررة – عهد الرئيس حسني مبارك (1982، 1986، 1988، 2005)
تميزت دعوات الحوار الوطني في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك بالتكرار وبحصر أهدافها في قضايا محددة. في عام 1982 دعا مبارك إلى حوار حول الأهداف الاقتصادية للبلاد، وفي عام 1986 دعا إلى حوار وطني حول مشكلة الدعم، وفي عام 1988 تم عقد حوار آخر حول قضايا الإصلاح السياسي وقانون الطوارئ. لم يصل الحوار الوطني إلى تحقيق إصلاح سياسي حقيقي؛ بل استمر قانون الطوارئ حتى نهاية حكم مبارك في 2011.
وفي عام 2005 تمت الدعوة لحوار جديد بمناسبة الانتخابات الرئاسية ومعايير انتخاب رئيس الجمهورية في انتخابات مباشرة وليس بنظام الاستفتاء. فشلت دعوات الحوار في عهد مبارك في تحقيق إصلاح سياسي ملموس، وتفاقمت أزمات مثل التمديد المفتوح لمبارك في الرئاسة، ودعوات توريث الحكم لمبارك الابن، والمظالم التي ظهرت نتيجة لبرامج الإصلاح الاقتصادي وتراجع دور الدولة في الدعم والخدمات خاصة الصحة والتعليم، مما أدى في النهاية إلى انتفاضة شعبية أطاحت بحكم مبارك من خلال تحالف واسع للمعارضة استمر فقط لمدة 18 يوماً في الفترة بين اندلاع الانتفاضة في 25 يناير 2011 حتى إعلان تنحي مبارك في 11 فبراير.
المرحلة الرابعة: انتفاضة يناير – تآكل الثقة
اتسمت مرحلة ما بعد الإطاحة بمبارك في فبراير 2011 بتنامي الاستقطاب الإسلاموي-العلماني والخلاف على هوية الدولة ومساحات الحريات الشخصية والسياسية. تعددت الدعوات للحوار لكنها لم تكتمل بسبب عدم ثقة الأطراف في بعضها، ولعدم توافر إرادة سياسية لتقديم تنازلات تؤدي لتسويات كبرى، ورغبة كل الأطراف في تحقيق مكاسب كاملة على حساب الخصوم السياسيين في معادلات صفرية. في نوفمبر 2011 أعلن المجلس العسكري الحاكم دعوة للحوار على أثر تظاهرات أدت لمصرع عدد من المحتجين على الحكم العسكري للبلاد والمطالبة بنقل الحكم لحكومة مدنية، لم تكتمل الدعوة ولم يستجب لها أطراف النزاع (France 24, 2011).
في ديسمبر 2012 دعا الرئيس المنتخب محمد مرسي للحوار مع المعارضة، لكنّ رموز “جبهة الإنقاذ” من قوى المعارضة الرئيسية وقتها، رفضوا الحوار بدعوى عدم جديته وافتقاره لأجندة شاملة، عكس الخلاف بين مرسي والمعارضة خلافاً أعمق بين الإسلاميين وخصومهم حول الدستور، وهوية الدولة، والحريات الأساسية. وتفاقمت الخلافات بين الأطراف بعد الاشتباكات العنيفة بين المؤيدين للرئيس ومعارضيه، مما فاقم الأزمة ومنع أي فرصة لإقامة حوار سياسي حقيقي (Al Jazeera, 2012).
وبينما قبلت المعارضة دعوة الجيش، رفض الرئيس دعوة وزير الدفاع للحوار الوطني بدعوى عدم إقحام الجيش في السياسة، مما أدى لزيادة حدة الاستقطاب بين الأطراف وتصاعد الأزمة (Al Arabiya, 2012). هذه الأزمة أطاحت بالانتقال السياسي ومحاولات الانتقال للحكم المدني بالكلية، واستعادة سيطرة العسكريين على السلطة بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب بعد أزمة سياسية حادة واحتجاجات شعبية تصاعدت في 30 يونيو 2013.
أزمة القيم الثقافية اللازمة للحوار بعد ثورة يناير
أظهرت التفاعلات التي تلت ثورة يناير أزمة عميقة في القيم الثقافية الضرورية للحوار البنّاء أي أنها أزمة تتجاوز مجرد السياق السياسي السلطوي الذي كان يحكم الحوارات الوطنية والسياسية السابقة. ورغم وجود مساحة من الحريات بعيدًا عن ضغوط السلطة المباشرة، فشلت الأطراف في التواصل بفعالية وانتظام. يعود هذا الفشل بشكل أساسي إلى غياب بعض القيم الثقافية المهمة، مثل الالتزام بالتسويات المتبادلة، والسعي لتحقيق المكاسب المشتركة، وفهم وجهات النظر المختلفة. ويمكن إجمال هذه الأزمة الثقافية فيما يلي:
- غياب ثقافة التسويات والمكاسب المشتركة:
كان من أبرز العوائق غياب ثقافة تقدير التسويات والمكاسب الجماعية. فقد اتبعت الأطراف المختلفة نهجًا يقوم على المعادلة الصفرية، حيث يسعى كل طرف لتحقيق مكاسب أحادية على حساب الآخرين. أدى هذا النهج إلى تعميق الخلافات وصعوبة الوصول إلى حلول توافقية.
- نقص التفهم والوعي المتبادل بدوافع الأطراف:
كشفت التفاعلات عن محدودية القدرة على فهم مخاوف ودوافع الآخرين. وبدون هذا التفهم المتبادل، زادت حدة النزاعات وازدادت الانقسامات. لتحقيق حوار بنّاء، يجب تعزيز ثقافة تُشجع على فهم مشترك لاحتياجات وتخوفات جميع الأطراف، والسعي لتحقيق تواصل يستهدف الحلول بدلاً من الاستقطاب.
- الاستقطاب وانعدام الثقة:
كان الاستقطاب من العوامل الرئيسية التي أعاقت الحوار البنّاء. أدت التوترات المتزايدة بين الأطراف إلى تعزيز حالة من انعدام الثقة، حيث أصبح كل طرف ينظر إلى الآخر كخصم يجب التغلب عليه، بدلًا من شريك يمكن التفاوض معه. هذا النمط من التفكير له جذور تاريخية، حيث أسهمت الحملات الحكومية التاريخية ضد المعارضين في تعميق هذه الانقسامات، واستخدم الأطراف نفس التكتيكات القديمة لوصم بعضهم بعضا؛ مما زاد من حدة الأزمة وعدم الثقة.
- غياب الفرق بين الحوار والتصعيد:
لم يتمكن الأطراف من تطوير أدوات للحوار الهادف لإيجاد الحلول واستبدلوا ذلك بالتصعيد اللفظي والحشد الميداني. أدى الخلط بين الخلافات حول الهوية الثقافية والسياسات إلى تصاعد النزاعات، حيث تكون خلافات الهوية أكثر حدة وأقل عرضة للتسوية مقارنة بخلافات السياسات.
- فقدان الثقة في الحوار بوصفه آلية فعالة وفقدان الثقة بين الأفراد
أدى غياب ممارسة الحوار والتفاوض السلمي عبر عقود طويلة إلى فقدان الثقة في الحوار بوصفه آلية فعالة لحل النزاعات، واستبدالها باللجوء للتصعيد والمواجهات. كما غابت الثقة بين النخب مما فاقم الأزمة وقوض القدرة على الانتقال السياسي. إعادة بناء هذه الثقة يتطلب التزامًا بآليات شفافة للتواصل وتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.
معالجة هذه التحديات الثقافية أمر أساسي لتعزيز الحوار الفعّال. يجب التركيز على قيم التسويات المشتركة، وفهم المصالح المتبادلة، وتقليل الاستقطاب لخلق بيئة حوارية أكثر تعاونًا. تقوية هذه القيم يعزز الثقة ويمهد الطريق لحلول مستدامة وبنّاءة.
الحوار الوطني في عهد الرئيس السيسي: الحوار تحت تهديد السلطوية
بعد عدد من الإجراءات التي اتخذها النظام لتجفيف التنافس السياسي ومطالب التحول الديمقراطي والسيطرة الأمنية على المؤسسات التشريعية والإعلامية وعدم التسامح مع المعارضة، مما أدى لتركيز القوة بشكل كبير لصالح السلطة، دعا الرئيس السيسي إلى حوار وطني في أبريل 2022 تحت شعار “الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”، لتبدأ عملية التحضير إلى أن عُقدت أولى جلسات الحوار في الخامس من يوليو من العام ذاته.
تم اختيار المشاركين في الحوار وأغلبهم من المقيمين في العاصمة دون تمثيل جغرافي حقيقي للسكان كما تم تحديد مواضيع غير مسموح التحاور حولها، ومنها مواضيع متعلقة بالسياسات الخارجية أو أشكال السيطرة العسكرية على قطاعات اقتصادية. كما تم حبس بعض المشاركين في الحوار (Egyptian Initiative for Personal Rights, 2023)، واستبعاد آخرين بشكل منهجي وفشل الحوار في كبح جماح السلطة في اعتقال المعارضين (Daraj. (2023, September 9) بما فيهم مرشحين محتملين للرئاسة (BBC News Arabic, 2024, May 27).
تم إغراق الحوار بمشاركين موالين للسلطة بما لم يسمح بالتوازن في طرح وجهات نظر معارضة، كما تم إغراق الحوار بقضايا فرعية بعيدة عن النقاط الأساسية للخلاف مثل خنق المجال السياسي العام واستهداف الآراء المعارضة بالحبس المطول، وأزمات العملية السياسية التنافسية وخرق قواعد الانتخابات النزيهة وسيطرة المؤسسات الأمنية على الإعلام وعلى المؤسسة التشريعية، وأزمات الحريات العامة، والإدارة السلطوية للاقتصاد.
أدى تفاوت القوة الشديد بين الداعين والمدعوين إلى فقدان فاعلية الحوار وتحويله لالتماس جماعي من المشاركين للسلطة، كما أن افتقاد الفاعلية للشمول وتمثيل القوى السياسية والاجتماعية أفقده صفة الوطنية حيث تم استبعاد تيارات سياسية واجتماعية ومناطق جغرافية من التمثيل.
جدول 4: مراحل الحوار الوطني في مصر
استنتاجات حول فعالية الحوارات الوطنية في مصر
من استعراض التجارب المصرية في الحوار ومقارنتها بالحالات العالمية، يمكن استنتاج صفات أساسية أفقدت الحوار الوطني في مصر فاعليته وقدرته على التوصل لحلول وتسويات سياسية كبيرة:
- الافتقار إلى الشمول والتمثيل:
– تتطلب الحوارات السياسية الفعّالة مشاركة مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة، الذين يمثلون مصالح سياسية واجتماعية وإقليمية مختلفة. في مصر غالبًا ما تعاني الحوارات الوطنية من شمولية محدودة، حيث يتم تمثيل المجموعات الرئيسية مثل أحزاب المعارضة وممثلي المجتمع المدني والأصوات الإقليمية بشكل ناقص أو أن تكون مستبعدة تمامًا. تحد هذه المركزية من شرعية الحوار وقدرته على إنتاج نتائج مقبولة على نطاق واسع وتنفيذها. عندما يتم استبعاد الأصوات المهمة، تفتقر الحوارات إلى التنوع اللازم لبناء الإجماع. يؤدي هذا الاستبعاد إلى الشعور بالحرمان بين الفئات المهمشة ويمكن أن يؤدي إلى تفاقم الاستقطاب السياسي. لتحقيق حوار شامل وفعّال، ينبغي توفير جهود حقيقية لضمان تمثيل جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الفئات المهمشة والمناطق الجغرافية المختلفة.
- اختلال التوازن في القوة والسيطرة على الأجندة:
– غالبًا ما تعوق الحوارات الناجحة اختلال التوازن في القوة بين المشاركين. في مصر، تميل الحكومة إلى الهيمنة على عملية وضع الأجندة واستبعاد قضايا مركزية مثل توزيع الموارد الاقتصادية أو توجهات الدولة الخارجية، مما يحد من نطاق المناقشة ويقوض تمثيل جماعات المعارضة. ويؤدي هذا التحكم إلى خنق التبادل الهادف للرؤى المتعارضة وتقديم التنازلات اللازمة للوصول للتسويات، ويمنع المفاوضات الحقيقية، ويعزز هياكل السلطة القائمة. يعمل عدم التوازن في القوة على الحد من رغبة الأطراف الأقل قوة في المشاركة بفاعلية وجدية حيث ترى الحوار متحيزًا أو محددًا مسبقًا. وغالبًا ما يؤدي هذا الخلل إلى المشاركة السطحية ويضعف إمكانية التوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين. لتحقيق حوار متوازن، يجب أن تكون هناك آليات لضمان توزيع متوازن للسلطة بين جميع الأطراف المشاركة، بما في ذلك وضع أجندة مشتركة تعكس اهتمامات الجميع.
- الحوارات الرمزية بدون تنفيذ فعال:
– في حين قد يتم عقد الحوارات الوطنية بوصفها استجابة للضغوط السياسية أو الاجتماعية، فإنها في الحالة المصرية غالبًا ما تصبح إيماءات رمزية بدلاً من العمليات الموضوعية. في مصر غالبًا ما تفتقر نتائج الحوار إلى آليات واضحة للتنفيذ والمتابعة. قد يتم تقديم التوصيات، ولكن بدون إطار شفاف وقابل للتنفيذ، نادرًا ما تترجم هذه النتائج إلى سياسة أو عمل. تؤدي الحوارات الرمزية إلى تآكل الثقة العامة في العمليات السياسية وتعميق الفجوة بين المشاركين والجمهور الأوسع. إن غياب آليات التنفيذ يعني أن الحوارات لا تؤدي إلى تغيير حقيقي، مما يعزز الشكوك وخيبة الأمل. لضمان فعالية الحوارات، يجب أن تكون هناك خطط واضحة ومحددة لتنفيذ التوصيات ومتابعة التقدم والقدرة على المحاسبة والمراجعة وهو ما يظل مفتقد في عمليات الحوار في مصر.
- انعدام الثقة وتدابير بناء الثقة المحدودة:
– الثقة عنصر أساسي للحوارات المثمرة، ولكنها غالبًا ما تفتقر إليها المناخات السياسية المستقطبة. في مصر تسهم الصراعات التاريخية والحملات الحكومية على المعارضة في انعدام الثقة العميق بين الحكومة وجماعات المعارضة. وبدون تدابير بناء الثقة، من غير المرجح أن تعزز الحوارات التعاون الحقيقي أو التنازلات. مناخ انعدام الثقة يثبط التواصل المفتوح وخلق ثقافة التسويات السياسية بدلا من ثقافة الصراعات الصفرية التي تسهم في انتصار كامل لطرف وهزيمة كاملة لطرف. قد تشارك الأطراف فقط لتجنب ردود الفعل العامة أو للاستعراض السياسي، بدلاً من نية إيجاد أرضية مشتركة. وهذا يقوض إمكانية تحقيق تقدم ذي مغزى والسلام طويل الأجل. لتعزيز الثقة، يجب أن تكون هناك جهود مستمرة لبناء الثقة بين الأطراف المختلفة، بما في ذلك تدابير شفافة ومفتوحة للتواصل والتفاوض.
- غياب الوساطة المستقلة:
– يمكن أن يساعد وجود وسطاء محايدين ومحترمين في موازنة ديناميكيات القوة وتعزيز بيئة مواتية للحوار البناء. في مصر أسهم الافتقار إلى الوساطة المستقلة في خلق تصورات التحيز وإضعاف مصداقية عمليات الحوار. بدون وسطاء من أطراف ثالثة، فإن الحوارات معرضة لخطر أن يُنظر إليها على أنها ممارسات خاضعة لسيطرة الدولة، مما يحد من رغبة جماعات المعارضة في المشاركة ويقلل من فعالية العملية بشكل عام. لضمان حوار نزيه وفعّال، يجب أن يكون هناك وسطاء مستقلون يتمتعون بالاحترام والثقة من جميع الأطراف المشاركة.
إن هذه التحديات تعيق بشكل جماعي فعالية الحوارات السياسية في مصر والسياقات المماثلة. إن الافتقار إلى التمثيل الشامل، إلى جانب اختلال التوازن في القوة وآليات التنفيذ غير الكافية، يؤدي إلى حوارات لا تحقق أهدافها المقصودة. وبدلاً من تعزيز الاستقرار والتعاون، يمكن لمثل هذه الحوارات أن تؤدي إلى تفاقم الاستبعاد السياسي، وزيادة خيبة الأمل العامة، بل حتى المساهمة في ترسيخ الممارسات الاستبدادية. لتحقيق حوارات وطنية فعّالة، يجب معالجة هذه التحديات من خلال تبني نهج شامل ومتوازن يضمن تمثيل جميع الأطراف وتوزيع متوازن للقدرة على التأثير، مع وجود آليات واضحة لتنفيذ التوصيات وبناء الثقة بين الأطراف المختلفة.
جدول5: وصف التحديات التي واجهت الحوارات الوطنية في مصر.
التوصيات والمقترحات
تؤكد نتائج هذه الورقة الفرضية الأساسية أن فشل عمليات الحوار الوطني في مصر يرجع إلى سياق سياسي يُفرّغ العملية من محتواها ويجعل الحوارات أداة دعائية تخدم السلطة بدلاً من كونها منصة حقيقية للتفاوض وحل النزاعات واستيعاب الأصوات والمصالح المتعارضة بطريقة تعزز مكسب كل الأطراف. كما يتم ممارسة الحوار في أجواء منحازة للسلطة تخل بتمثيل المعارضة والفئات السياسية والاجتماعية والجغرافية المهمشة؛ مما يعزز الهيمنة السياسية على حساب الشمول السياسي.
كما أظهرت الورقة سياقا ثقافيا لا يعزز من قيم الحوار. فبعد سنوات من الحوارات الشكلية وحملات السلطة الإعلامية على المعارضة وحالات الاستقطاب الحاد حول هوية الدولة أو توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية، تعززت قيم ثقافية معادية للحوار. وقد أظهرت الدراسة أن السياق السياسي الحاكم والهيكلية التنظيمية لتلك الحوارات تتبع نمط “الفائز يكسب كل شيء”، بدلا من مدخل يضمن مكاسب لكل الأطراف. مما يؤدي إلى تهميش المعارضة وإقصاء الأطراف غير الموالية، وهو ما يضعف فرص بناء الثقة وتحقيق التفاهم المتبادل. بناءً على ذلك، تقدم هذه التوصيات استراتيجيات عملية تهدف إلى إعادة تصميم الحوارات الوطنية لتعزيز الشمولية والشفافية، وتبني ثقافة التسويات السياسية والمكاسب المشتركة، بحيث تصبح أداة حقيقية للتواصل والتوافق الوطني بدلاً من تكريس الهيمنة السياسية.
بناءً على التحليل السابق، يمكن صياغة المقترحات والتوصيات التالية لتطوير الحوارات الوطنية لتكون آلية فعالة وأداة لحل الخلافات والتوصل لحلول، ولتكون ثقافة تعزز من قيم التفهم المتبادل والتعايش وتنظيم التنافس والوصول لتسويات في مصر، ويمكن تقسيم هذه التوصيات لثلاثة أقسام: الأول خاصة بالعملية التنظيمية والإجرائية للحوار، والثاني خاص بالثقافة السياسية السائدة، والثالث خاص بتوصيات لتحسين السياق السياسي.
أولاً: توصيات خاصة بالعملية التنظيمية والإجرائية للحوار
- تعزيز الشمولية والتمثيل المتنوع:
- ضمان مشاركة كافة الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، بما في ذلك المعارضة والمجتمع المدني والمجموعات غير الممثلة تاريخيًا.
- تمثيل الأقاليم والمجتمعات المحلية لزيادة قبول نتائج الحوار.
- ضمان التوازن في القوة وآليات اتخاذ القرار:
- وضع إطار عمل للحوار يحقق توازن القوى بين الحكومة والمعارضة لضمان أن يكون لجميع الأطراف تأثير على الأجندة.
- إنشاء آلية مشتركة لوضع الأجندة تعكس مصالح جميع الأطراف.
- إجراءات ملزمة لتنفيذ مخرجات الحوار:
- إعداد خطة واضحة للتنفيذ تشمل جداول زمنية وآليات رقابة مستقلة لقياس التقدم.
- وضع إطار قانوني يضمن التزام الحكومة بتنفيذ التوصيات.
- الشفافية وإجراءات بناء الثقة:
- بناء الثقة بين المشاركين من التيارات السياسية والفئات المجتمعية المختلفة بهدف تحقيق مكاسب مشتركة.
-
- توفير آليات توثيق ومتابعة شفافة لدعم مصداقية العملية.
- حملات تثقيفية لتعريف المجتمع بأهداف الحوار ونتائجه.
- بناء قدرات الأطراف المشاركة:
- تدريب ممثلي الأحزاب والمجتمع المدني على مهارات التفاوض لضمان مشاركة فاعلة.
- توفير الدعم الفني والمعلوماتي لتعزيز الاستناد إلى بيانات دقيقة.
ثانياً: توصيات خاصة بالثقافة السياسية السائدة
- تعزيز ثقافة التسويات السياسية والتنازلات المشتركة:
- نشر الوعي بأهمية التسويات المتبادلة بوصفه وسيلة لتحقيق الاستقرار وتجنب الجمود السياسي.
- تشجيع الأطراف على إظهار مرونة وتقديم تنازلات متبادلة للوصول إلى حلول وسطى.
- تعزيز ثقافة المكاسب المشتركة وتحمل جزء من الخسائر:
- تحويل التفكير السياسي من الصراعات الصفرية إلى تحقيق مكاسب مشتركة للجميع.
- تقبل الأطراف لتحمل جزء من الخسائر في سبيل الوصول إلى حلول تضمن التعايش والتعاون المستدام.
ثالثاً: توصيات خاصة بالسياق السياسي العام
- تحقيق استقلالية المؤسسات المعنية بالحوار:
تعزيز استقلالية المؤسسات المشرفة على الحوار الوطني، وضمان عدم خضوعها للضغوط السياسية أو التأثيرات الحكومية، مما يسهم في بناء ثقة أوسع بين الأطراف المختلفة.
- إصلاح المنظومة القانونية والدستورية:
مراجعة القوانين والدستور لضمان توفير بيئة تدعم الحقوق والحريات الأساسية التي تضمن حرية التعبير والتجمع والمشاركة السياسية لجميع الأطراف.
- الحد من الاستقطاب السياسي والإعلامي:
يخلق المناخ السياسي المستقطب ونزوع الحكومات لتخوين المعارضة إلى تقويض فرص الحوار. يحتم الحوار الصحي التوقف عن تحريض الدولة للمعارضة أو وصمها أنها أدوات لحروب الجيل الرابع وقبول الاختلاف حول السياسات على أنها طبيعة الجدل السياسي الصحي. تنظيم حملات إعلامية تهدف إلى الحد من خطاب الكراهية والتحريض والاستقطاب بين الأطراف المتنازعة. التركيز على الخطاب الإيجابي الذي يشجع على الحوار والتفاهم المتبادل.
- تعزيز دور المجتمع المدني:
تشجيع دور منظمات المجتمع المدني بوصفها مراقبا وشريكا في تنظيم الحوارات وتنفيذها، وتعزيز دورها في رصد الالتزام بتنفيذ التوصيات ومخرجات الحوار.
- إشراك جهات محايدة لتكون ضامنا للحوار:
النظر في إشراك جهات ومنظمات إقليمية أو دولية لتكون ضامنا محايدا للعملية الحوارية، للمساعدة في توفير ضمانات بأن نتائج الحوار سيتم تنفيذها وفق المعايير المتفق عليها.
- تعزيز التعليم السياسي:
الاستثمار في برامج التعليم والتوعية السياسية التي تعزز من فهم المواطنين لأهمية الحوار الوطني والتعاون السياسي كوسيلة لحل النزاعات.
- تحفيز الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية:
ربط الحوار الوطني بإصلاحات اقتصادية واجتماعية شاملة تعالج القضايا الجوهرية التي قد تكون مصدرًا للتوترات، مثل البطالة، والفقر، وعدم المساواة الهيكلية في بنية الاقتصاد والمجتمع.
- تشجيع الخطاب السياسي المعتدل:
دعم الأصوات السياسية التي تتبنى مقاربات معتدلة وتدعو إلى التفاهم والتعاون بين الأطراف، وتشجيع الحوار البناء بدلاً من التصعيد.
- تعزيز الشفافية الحكومية:
نشر التقارير الدورية التي توضح الجهود المبذولة في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، مما يزيد من الثقة بين الحكومة والمجتمع والأطراف المشاركة.
خاتمة
من خلال استعراض الحوارات الوطنية في مصر وتحليلها، وقياس مدى نجاحها أو فشلها في تحقيق الأهداف المرجوة، أكدت الورقة فرضيتها الأساسية بأن فشل هذه العمليات يعود إلى سياق سياسي يهدف إلى توظيف الحوار كأداة دعائية للسلطة بدلاً من جعله منصة حقيقية للتفاوض وحل النزاعات. كما أن هناك عوامل ثقافية تضعف من قيم الحوار والتسويات السياسية. تبيّن أن الهيكلية التنظيمية لهذه الحوارات غالباً ما تكون مصممة لخدمة السلطة وتهميش المعارضة والفئات غير الموالية، مما يعيق بناء الثقة والتفاهم المتبادل ويحد من فرص الوصول إلى تسويات مستدامة.
إن نتائج الورقة أكدت الحاجة الملحة لإعادة تصميم لهيكلية الحوار الوطني بشكل يضمن الشمولية والتنوع الحقيقي والالتزام بمبادئ الشفافية وبناء الثقة. تتطلب هذه العملية تطوير السياق السياسي العام وتعزيز الثقافة السياسية بما يتوافق مع قيم التسويات والمكاسب المشتركة. كما تدعو التوصيات الواردة في الورقة إلى تبني إصلاحات جوهرية في التنظيم والإجراءات التي ترافق الحوار، إضافة إلى تحسين البيئة السياسية المحيطة من خلال تعزيز دور المجتمع المدني وإشراك الأطراف المحايدة كضامن للحوار.
تهدف هذه التوصيات إلى خلق نموذج للحوار الوطني الذي يمكن أن يكون وسيلة فعالة للتواصل والتوافق، بدلاً من أداة لتكريس الهيمنة السياسية. ولتحقيق ذلك، يجب على جميع الأطراف السياسية والاجتماعية التعاون لتعزيز الثقة والمشاركة الفعالة، وتقديم تنازلات متبادلة تضمن استدامة الحلول وتدعم الاستقرار السياسي في البلاد.
المصدر: مجموعات التحفيز